محمد سيد بركة
“لا تمشوا في جنازتي.. بل اقرأوا على الفاتحة “
هذه هى وصية يحيى حقى الذى لن يغيب عنا وسيبقى قنديله منيرا، وستظل أعماله طازجة تتناقلها الأجيال لكاتب عشق الإنسان وهزه الجمال وكان أنشودة للبساطة..
عاش حياته شعاره “خليها على الله” ومع الناس “من باب العشم” متنسماً “عطر الأحباب” بعد أن أشعل “قنديل أم هاشم”..
على مدى 87 عاماً أثرى يحيى حقي الوجدان العربي بعشرات من الأعمال الأدبية. وقد كان هذا الأديب الذي ولد عام 1905 ومات عام 1992 نسيجاً من الود والمحبة والأصالة. عالج يحيى حقي معظم فنون القول، من قصة قصيرة ورواية ونقــد ودراسة أدبية وسيرة ذاتية ومقال أدبي، كما ترجم عدداً من القصص والمسرحيات، وإن ظلت القصة القصيرة هي هواه الأول. بعد أن كتب آخر كتبه “ناس في الظل” عام 1974 صمت ورفض ممارســة الكتابة بأنواعها صائحاً دون خجل: قلت كل شـــيء ولم يعد عندي ما أقوله، حتى لا يتناقض مع نصيحـته للقارئ أن يتأمل لنفسه بنفسه كيف يدب الخداع والكذب في المؤلفات التي تسعى لاسترضاء الجمهور.
يحيى حقي.. ثقافته مزيج من باريس والقاهرة.. وفي كلماته رائحة عطور الحسين وبخور الغورية.. وهو يقدم لك آخر صيحة في عالم الفكر تجده في نفس الوقت يقدم لك قلعة الكباش والإمام والمغربلين..
قيل عنه: إنه ضليع في الترجمة وهو الكاتب الذي ينطبق عليه عبارة أنه إذا ألف ترجم وإذا ترجم ألف..
استطاع يحيى حقي تصوير الواقع المصري بدقة متناهية ابتداء من قنديل أم هاشم مرورا بالبوسطجي، وصح النوم، وأم العواجز، وخليها على الله، وتراب الميري، ومن باب العشم،… إلى في محراب الفن وأنشودة البساطة ومن فيض الكريم..
غاص يحيى حقي في في أعماق الشخصية المصرية فحللها ورسمها بالكلمات وكأنه رسام موهوب ينقل الصورة بتمكن آخذا القارئ معه في رحلة داخل أعماق شخصياته ويتجول معه بسلاسة وصدق في دهاليزها..
يحيى حقي أول من وضع القواعد الأولى لوزارة الثقافة المصرية الأولى – وعندما أقول المصرية أعنى العربية- عام 1955م، عندما تولى مسؤولية مصلحة الفنون بعد أن ترك العمل الدبلوماسي وعمل مع الرائد الكبير فتحي رضوان فشكلا معاً نغما عذبا ووضعا معا بذرة العمل الثقافي..
بعد أن توقف يحيى حقي عن الكتابة لعدة سنوات أصدر عام 1991 كتابه الرائع خليها على الله مبيناً على غلافه الداخلي أنه السيرة الذاتية له.
عرف يحيى حقي بالدقة والموضوعية في كل ما يكتب، وفي كل ما يقول، فكان دقيقاً وموضوعياً في كل كتاباته وفي كل أقواله، كان بحق شاهدا على القرن العشرين منذ مولده في 7 يناير 1905 وحتى وفاته في التاسع من ديسمبر عام 1992.
اعتبر يحيى حقي كتابه “خليها على الله” مذكرات وقال في وصفها إنه يسير في كتابتها كما يسير الفرد في حياته يفرد الشراع ويقول لزورقه والبحر المخوف أمامه “خليها على الله”..
“خليها على الله” لوحات إنسانية نابضة بالحب والأسى والأمل والألم.. لوحات فنية تشكيلية فاتنة تأسر لب الإنسان عاشق الجمال.. من أبدع ما يحويه الكتاب وأشده أثرا فى النفس الفصل الذى يحمل عنوان “وجدت سعادتى مع الحمير!!”
لا يسخر يحيى حقى الكاتب الفنان هنا بشىء ولايريد أن يتظرف أو يتندر أويبدو مجددا قادر على الخروج على المألوف، بل هو يعنى ما يقول.. أجل وجد يحيى حقى سعادته مع الحمير. وجدها حقا وصدقا..
يقول يحيى حقي: “حين نزلت الصعيد لم أفهم لأول وهلة قول محدثى عن رجل من الأعيان إنه حمار –بميم مشددة- ظننت والكلام عن غائب قد تحول كالعادة من الاستفتاح بالمدح إلى التثنية بالذم والسب فلما تلجلجت فى الرد أردف يقول عن صاحبه: إنه أكبر مالك للحمير فى المركز وأن ربحه واسع مضمون.. أدركت أن كلمة حمار هى عندهم ترجمة لكلمة مليونير.. وأنها عنوان صناعة من أهم الصناعات أحفادها فى الوقت الحاضر شركات النقل باللوريات.”
يتحدث يحيى حقى عن الحمير يصفها ويصنفها وركوبها وعلاقة البشر بها، فالبشر هم الذين يملكون الحمير ويستخدمونها ويرعونها ويعذبونها.. يصف يحيى حقى كل ذلك وصفا فاتنا ويتحول إلى سجل مؤثر لعواطف إنسان كبير وفنان فائق الحس إزاء هذا الحيوان المغلوب على أمره المتهم بالغباء المكلف بأن يحمل البشر والمتاع والسباخ، لايناله من هذا كله سوى الإيذاء-الوحشى أحيانا- والنزر اليسير من الطعام والراحة.
يقول يحيى حقى فى وصف الحمار:
“لم أر كالحمار حيوانا تحس أنه أدرك أنه أسقط فى يده، أنه لم يقبل قدره عن عمى وغفلة او تدليس عليه بل عن بصيرة وفهم بعد أن وازن بين حيلته وقدرة ظالمه وقاده ذكاؤه العملى إلى الاقتناع بأن كل أمل قد مات وأن لافائدة ترجى من الثورة أو اللجاجة أو العناد فوضع إرادته وغرامه وبهجته ومرحه وحبه للعب والمعابثة فى حرز مكتوم فى قلبه وأحنى رأسه وأذنيه وسبل ضهره، واستسلم بلا قيد ولا شرط..”
ثم يمضى يحيى حقى الفنان الفائق الحس فى بساطة رائعة فيسجل بعضا من أحوال الحيوانات الأخرى ويقارنها بأحوال الحمار.يقول: للبقرةعين غارقة فى احلام لذيذة، وللجمل عين ترقب الدنيا من عل بتوجس وغضب مكتوم كأنما يخشى ان تلحق بكبريائه إهانة على يد حقراء، وللحصان عين تنم عن الخيلاء والنبل والذكاء، تعكس الضوء بالليل فتتقد كالياقوتة الحرة وللتيس عين فيها العناد كله وإضمار الخبث والمؤمرات، وللجاموسة عين منطفأ لا تنبعث منها الحياة أو إرادة إلا وهى أم ترضع طفلها فينعقد سباتها على الحنان. لم أر جاموسة تنطق بمعنى إلا مرة واحدة لاأزال أذكرها كانت تسير تبرطش فى الطريق وتخلف عنها وليدها فوقفت وأدارت رأسها إلى الخلف ونادته إليها بخوار غليظ…
أما الحمار فإن عينه ذليلة حزينة تكاد تترقرق فيها الدموع…بل يخيل إلى فى بعض الأحيان أنها (معمصة) كعيون الأطفال بعد بكاء، أهذا هو سر نهيقه؟ ليس فى صوت حيوان أخر مثل هذه الحرقة والتفجع والمرارة، إنها صرخة عذاب واستغاثة وإشهاد للناس فى نوبة متفجرة من بكاء بلا دموع تمزق الهواء ثم تذوب كأنها لم تكن…
ثم تمضى عين يحيى حقى الثاقبة المحيطة فتسجل المزيد من أحوال الحمير، ويلتقط صورة بالغة الرقة فيتحدث عن خرابة لها سور خشبى غير مرتفع يطلق فيها أحد جيرانه حماره عند الغروب لاحظ الفنان العطوف حمارا ثانيا يأتى كل ليلة من بيت فى الطرف الآخر يسير الهوينى كأنه يتنزه ثم يقف جنب زميله وبعد معابثة خفيفة بالأسنان يمد الاثنان رأسيهما خارج الحاجز كما يفعل المطل من النوافذ ويلبثان هكذا برهة ينظران للطريق والمارة ثم يمضى كل منهما إلى حاله..
كما يصنف الحمير إلى درجات من حمار السباخ وحمار الأجرة وحمار الفلاح إلى الحمار الذى يملكه الأعيان وأصحاب الأطيان الذى يأتى على رأس قائمة الحمير..
ويرسم يحيى حقى صورة بانورامية لقاهرة أول القرن العشرين وحتى منتصف القرن العشرين فيحدثنا عن حمير القاهرة التى كانت لها مواقف محددة مكتوب عليها موقف لثلاثة حمير..أو موقف لحمارين..
كما يصور لنا حمير القاهرة الارستقراطية حين كان الفنان يذهب إلى مسجد السيدة نفيسة أوالسيدة سكينة ليلة الحضرة فيتوافد على المكان رجال من أولاد البلد يخبون فى الشاهانى وشيلان الكشمير على حمير فارهة قوية تمشى مشية الرهوان تزيد عن حمير الريف الاستقراطية بأن شعرها مقصوص فى رسوم زخرفية وعلاوة على البردعة الفخمة يتحلى الحمار برشمة فضية براقة تهتز فوق صدره لبعضها أحجبة تقيه شر العين.. ثم يتحدث عن لصوص الحمير وحمار السيرك.. صور ممتعة وبراقة ومدهشة.. لذلك وجد يحيى حقى سعادته مع الحمير !!!