“يتفاوض مع أريكة”: عبد العزيز دياب وقلب أدوار السرد

abd alazeez diab
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

بولص آدم

مقدمة:

في نص قصصي مشحون بالدلالات ومتقشف في لغته، يقدّم الكاتب عبد العزيز دياب قصة قصيرة بعنوان “يتفاوض مع أريكة” تمتح من عالم الفانتازيا النفسية والرمزية الاجتماعية، لكنها تفعل ذلك بلغة مشهدية بسيطة وسخرية مبطّنة. ينقل النص مفارقة كبرى، حيث يتم تبادل الأدوار بين الإنسان والجماد في مشهد يبدو عبثياً في ظاهره، لكنه في العمق يفجّر أسئلة، وجودية، وأخلاقية، وثقافية. هذا التحوّل هو ما سنصطلح على تسميته بـ “السرد الكينوني المعكوس”، حيث تُخلخل القصة التصنيفات الكلاسيكية للكينونة: من يملك الفاعلية؟ من يسكن من؟ من يتكئ على من؟

ملخص القصة:

تبدأ القصة بعقد تفاوضي غرائبي بين رجل وأريكة قديمة تفوح منها رائحة الزمن، يتم الاتفاق على تبادل الأدوار: يصبح الرجل أريكة، وتصبح الأريكة هي “صاحب البيت”. جرت هذه المفاوضات في الحديقة بحضور شجرة زنزلخت شاهدة على الحدث، وكتبت “وثيقة سردية رائعة تضمن لكل ذي حق حقه”. يمضي الرجل/الأريكة يومه في الانتظار، آملاً أن تحط عليه المرأة الجميلة التي اعتادت الجلوس على الأريكة، لكنه يُفاجأ بكلب مشاكس وثلاث قطط تحط على جسده. بينما تتمتع الأريكة المتحوّلة إلى “صاحب بيت” بحريتها الجديدة، وتشارك زوجته الرقص على شرفة البيت. ينتهي النص بندم الرجل/الأريكة، الذي يتوسّل العودة إلى وضعه القديم.

تبادل الأدوار وتفكيك السلطة:

تجسّد القصة نوعًا من تفكيك السلطة اليومية داخل البيت، حيث يتحول الكائن البشري إلى جماد، ويكتسب الجماد سلطة وحرية الإنسان. ليس هذا مجرّد خيال، بل هو تعبير عميق عن إعادة صياغة منظومة العلاقات بين الكائنات، حتى تلك التي اعتدنا أن نراها ضمن تراتبية جامدة. فالرجل الذي كان يتفرّج على زوجته وصديقتها من الشرفة، ويتلصص على المرأة “الفواحة بالحسن”، يفقد موقعه بمجرد أن يتنازل عن سلطة الكينونة الفاعلة.

السرد الكينوني المعكوس:

تدخل القصة ضمن ما يمكن تسميته بـ “السرد الكينوني المعكوس”، وهو سرد يُخضِع علاقة الإنسان بالعالم لإعادة توزيع الكينونة بين الأطراف: فيُمنَح الجماد حياة، ويُسحَب من الإنسان امتياز الحضور الفاعل. هذه البنية تذكّرنا بتقنيات ما بعد الحداثة، لكنها تتجاوزها نحو فضاء سردي تجريبي خاص بالسياق العربي، حيث تعني مفاهيم البيت، السلطة، الشرف، الجسد، والانتظار، دلالات مركبة.

إن سرداً كهذا، يُعيد ترتيب الوجود بطريقة رمزية، يستند إلى “عقل مضاد للعقل”، عقل يقبل بانزياح الحدود بين الكائنات والأشياء، ويفتح المجال أمام مفارقة كبرى: أن يتحول الرجل إلى أريكة، وتتحول الأريكة إلى كائن راقص فوق شرفة زوجته.

السارد بين الحياد والتهكم: من يتكلم في هذا العالم المعكوس؟

يتخذ السارد في القصة موقعًا مدهشًا على الحدّ بين الحياد والتهكم، فينتقل بسلاسة من صيغة الراوي العليم إلى راوي خفي، يتكلم ببرود ساخر وحياد شكلي يخفي دلالات لاذعة. إنه ليس راوياً يتعاطف مع أي من الطرفين، بل يُبقي المسافة محسوبة بيننا وبين الحدث، ويقدم تفاصيل الموقف وكأنها طبيعية، مما يزيد من غرابتها.

من جهة أخرى، يتقمص السارد أحياناً روح الشخصيات دون أن يُعلن ذلك، ما يجعل القارئ في حالة تشكك دائم: هل ما نقرأه هلوسة شخصية؟ أم وعي سردي معكوس؟ هذه المسافة السردية الماكرة تمنح النص قوته الرمزية: السارد لا يفرض موقفاً، بل يورطنا في التساؤل.

البنية القصصية: اقتصاد لغوي بفانتازيا كينونية مدروسة

تُبنى القصة بأسلوب قصير ومكثف، يعتمد على اقتصاد لغوي دقيق وسيناريو شبه مسرحي: حوار بسيط، فعلٌ مفاجئ، نتيجة صادمة. لا زوائد، لا وصف تعبيري مطول، بل مشهدية واضحة وسريعة تقود إلى التحول الكينوني الأكبر.

يمكن وصف بنية القصة بـأنها دائرية مقلوبة: تبدأ من موقع الإنسان المركزي، وتنتهي بتحوّله إلى كائن مهمَّش، بينما تنتقل الأريكة من الجماد إلى التوهج الحي. كل هذا يحدث في فضاء محدود (البيت والحديقة) وزمن قصير، مما يُضفي على النص إيقاعًا مشحونًا ودلالة مكثفة.

يمكن قراءة هذا النص كنوع من الاعتراض المجازي على اختلال القيم داخل البيت، حيث الجمادات تتحول إلى رموز سلطة، بينما يُسحب من الإنسان وعيه وكرامته تدريجيًا. ليس غريباً أن تكون الأريكة، رمز الجلوس والانتظار والركود، هي التي تنقلب لتصير صاحبة المبادرة. في حين يظل الرجل، وقد تحول إلى أريكة، عالقاً في موقع التلقي والانتهاك، حتى من الكلاب والقطط.

خاتمة:

إن قصة “يتفاوض مع أريكة” تقدم نموذجًا سرديًا نادرًا من بين نوادر في القصة القصيرة العربية: نصّ صغير الحجم، لكنه بالغ الكثافة والدلالة، يبني عالماً كاملاً من التبادلات الرمزية، ويطرح سؤالًا جوهرياً: ماذا لو فقد الإنسان امتياز كينونته؟ وما الذي يبقى منه حين يُنزع عنه جسده وفاعليته وموقعه في السلطة اليومية؟

بهذا المعنى، يقترح هذا النص مقاربة فكرية وجمالية تُجدد السرد العربي لا عبر تقنيات شكلية فقط، بل عبر زلزلة البديهيات الكينونية وإعادة توزيع أدوار الوجود.

 

اقرأ أيضاً: 

قصة: يتفاوض مع أريكة

يتفاوض مع أريكة

 

مقالات من نفس القسم