ياسر الزيات : شاعر يكفر باللغة ويؤمن بالجغرافيا

أحمد الفخراني
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حاوره : أحمد الفخراني *

"يصعب عليّ نسيان هذه القُبلة المرة،
القبلة التي تجعل الإنسان غريبا
كلما أوشكتْ على الانتهاء.
تلك هي الحقيقة تقريبا.
شجرة أشعلناها سويا
لنستظل بنارها إلى الأبد،
وجعلناها جسدا ضائعا
أو شفاها معلقة في الطرقات "

حاوره : أحمد الفخراني *

“يصعب عليّ نسيان هذه القُبلة المرة،

القبلة التي تجعل الإنسان غريبا

كلما أوشكتْ على الانتهاء.

تلك هي الحقيقة تقريبا.

شجرة أشعلناها سويا

لنستظل بنارها إلى الأبد،

وجعلناها جسدا ضائعا

أو شفاها معلقة في الطرقات “

ياسر الزيات ، كتب قصيدة النثر فى منتصف الثمانينات ، بدأها هكذا دون أسئلة معقدة أو توقف طويل ، رغم غرامه بالتفعيلة ، يحكى عن نصه التفعيلى الأخير قائلا : “دخلت تلك القصيدة وأنا أسعى لاستنفاذ كل طرق الجمال ، كنت صاخبا جدا ، استخدمت كل أسلحتى من مجازوتشبيهات وايقاعات وألعاب لغوية ، ثم أنهيت القصيدة بتلك العبارة ” إنها لغة قعيدة “كان ذلك الاكتشاف هو مفتاحى إلى لغة بلا أسلحة ، تتعرى لتبوح ، لتكشف العالم ، كما خلق كانت قصيدتى التفعيلية الأخيرة جميلة ، لكنه جمال مفرط وفقا لقانونها ، أدركت وقتها أن الجمال المفرط ليس ما أريده

زجاجة بيرة مكسورة

في مشهد عابر:

أليس هذا هو الحب؟!”

ماالجمال ؟ ماالشعر ؟من الشاعر؟ لم تكتب؟ أسئلة لاتعيق ياسر الزيات ، لايجيب عنها بيقين ، فاليقين يقتل الابداع ، ولكن باطمئنان ، فالجمال هو مايحقق وجوده ، هو مايشعره بسعادته وتحققه ،وعن الشعر يقول ” الشعر هو مااكتبه أنا ” لاعن نرجسية بل عن قناعة أن الطريق إلى الشعر كالطريق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق ، ايمان بالفرد. يقول الزيات ” من حقى كفرد أن أصنع فنى الخاص ، أن ابتكر شكلى ، أنا الفرد ، أساس العالم ،ووحدة وجود الكون “لكن من الشاعر ،يجيب الزيات ” احساس الآخرين بك هو ما يحكم ذلك إن حدث توافق بين مجموعة على أن ما تكتبه شعر فلا أحد يمكن له أن ينفى شاعريته ، ولا أهتم باثبات شاعريتى ولو لنفسى ، اكتب عندما احتاج للكتابة ، لااستدعيها ، ولا ارواغها ،ولا اتمنى أن أحقق بشعرى مجدا شخصيا ، اكتب لأنى احتاج إلى ذلك وانشر لأن هناك آخرين قد يروا شيئا مشتركا فيما اكتبه ، الكتابة تأتى فقط حين تأتى ، عندما لايكون هناك بديلا سوى الموت .

لابد من مبرر- أحيانا- للموت

على الأقل لهؤلاء الذين سيعيشون،

الذين سيتحدثون كثيرا عن حادث مفجع،

الذين سيأكلون ويشربون ويتذكرون.

لابد من شبهة بطولة تجعل النهاية طويلة.

ولابد من أشخاص يشفق عليهم آخرون:

آه: هؤلاء الآخرون!”


معركة ياسر الزيات مع لغته ، كانت معركة هادئة ، وبلا قتلى أو غبار كثيف ، لأنه لخص حلمه معها ” أن أكتب لغة بسيطة فى متناول يد طفل ، لكنها تحمل عدة مستويات للتلقى ، تحمل شاعريتى معها على أجنحة لا تحمل كبرياء الموروث ” يتعجب ياسر الزيات من الخصومات الثقافية بين كتاب التفعيلة والنثر ، خصومة نفى الآخر لاثبات ذاتى ويراها وسيلة غير انسانية ، ويؤكد أن دولة لم تعرف طيلة 60عاما سوى حزب واحد وحكمها العسكر ، لايمكن لها أن تتسامح مع تعدد الأشكال والوسائل والقصائد ، فالفن لعبة خارج الزمان والمكان ، ولسنا طرفا فى الحكم عليه ، الزمن يحكم ، من الذى سمح أن يطل عليك المتنبى ووليم بالاك الذى يحدثنا من لغة مغايرة عبر القرون الا ان الفن الذى يستحق الحياة هو فقط الذى لا يقهره زمن أو يسجنه مكان ” الفن هو القانون الوحيد 

إنها اللذة. وأي وجود في ذلك الذوبان؟! إنه صورتي وأنا أذوب،

أسئلتي وأنا أتمرغ في سكون أبدي، وجسدي وهو يخفق كلما عبرت حياة.أتذكرني

عندما كنت زهرة برية وقطفتني امرأة جميلة،

فأحن- أبدا- إلى القطاف. لا تزال رائحتي

عالقة في قبرها، وحواسها موغلة في روحي.

وعندما كنت حبة رمل على الشاطئ نسيتني طفلة

في جيبها؛ أليست الحياة كذلك؟! والآن أدخن

وأدخن، لعلني أصير دخانا يملأ الهواء

يؤمن ياسر الزيات بالجغرافيا ويكفر باللغة ،قائلا ” اللغة لاتصنع ثقافة ولا الدين ، لأنهما متغيران ، بينما الثابت الوحيد هو الجغرافيا ، الجغرافيا هى صانعة اللغة ، وبالتالى هى من أوجدت الثقافة ، لذا كان من السهل على تجاوز اللغة ، ، أن لا أعاملها بقداسة وبرهبة ، أن لاأخشى تحطيم تابوهاتها المعقدة ، الشعر اجتياز لكل ما ندعيه عن العالم ، وكل ما يدعيه العالم عن نفسه ، من تجاوز اللغة ، يصل إلى الدهشة ، القدرة على التسلل إلى الحياة بلا أقنعة ، اكتشاف الجمال فيما تعارفنا على وصفه بالقبح ليس دورا كافيا كى يكتب الشاعر العالم ، لكن عليه أحيانا أن يكتشف القبح وسط الجمال .

الأمر معقد بالفعل،

لكنني أحسد الموتى،

لأن شيئا لن يتغير في حياتهم،

ولأنهم يمتلكون دماء سهلة،

وأسماء لا ترغب في الحياة.”

لم ينشر ياسر الزيات طيلة عشرين عاما من الكتابة سوى ديوان واحد هو ديوان ” أحسد الموتى ” ورغم أنه نشر العام الماضى الا ان نصوصه تعود إلى عام 1996 ورغم ذلك فإنه يثبت ما قاله عن ان الفن هو القانون الوحيد ، فأنت لا تشعر حيال تلك النصوص بالقدم أو بتجاوز المشهد الشعرى الحالى لها ، يقول ياسر الزيات ” كنت فقط أكتب أما النشر فوقتها لم يكن متاحا سوى المؤسسة الرسمية ، كنت أجدها إهانة أن أقف فى طابور من أجل نشر أو اتملق موظفا من أجل أن يطبع لى كتاب ولم أستجب لقانون أدوار النشر فيما بعد التى تطلب من الشاعر أن يدفع لنشر ما يكتبه ، إن كان طابور المؤسسات الرسمية إهانة للشاعر فالدفع مقابل النشر إهانة للشعر نفسه ، أرى الآن أن النشر ليس مسئولية وزارة الثقافة ، بل هو دور العمل الأهلى”، ويضيف الزيات ” الدول الشمولية فقط هى من تجد بها وزارة للثقافة ، لأنها ترغب فى أن تملى على الناس ثقافتهم ، رغم أن الثقافة هى نتاج تفاعل المجتمع ورغباته وليست رغبات السلطة ” يعود الزيات إلى دور النشر التى تطلب أموالا مقابل النشر بحجة أن الشعر لا يبيع ليصف ذلك بأنه تخريب للثقافة ،يؤكد الزيات : اتضح فى النهاية أن جميعهم كاذبون وأن الكل يبيع ويكسب 

عمل ياسر الزيات بالصحافة أكسبه حساسيات اضافت إلى شعره ” القدرة على تكثيف عالمه ، وقدرته على تقديم نص يصل إلى متلقى ، بدون زخرفات أو حرف زائد ، يؤكد الزيات ” أن الحرف الزائد هو حرف زائف 

.

أكتب لأنني مريض بخدعة قديمة

ولأنني سأكون مريضا بخدعة أخرى

عندما أموت.

أكتب لكي أراك غارقة في دمائك

ولكي أحزن أو أندم عليك

وأشنق نفسي في غرفة النوم.

أكتب لكي يراني أحفادنا

نائما- بعمق- في متحف العاشقين .

أكتب لكي أتحرر من وجودنا

في هذه الفضيحة.”

لماذا عن الموت ؟ يقول ياسر الزيات : عندما بدأت كتابة هذا الديوان ، لم أكن مصابا بفاجعة فقدان أحد ، لم أكن اعرف حتى انى اكتب عن الموت ، تأملت الديوان بعد الانتهاء منه وتسائلت : لم ؟ربما لأنى ابن موروث يقدس الموت ، فى طفولتى بالصعيد كنت أرى الجنازات المهيبة ، التى لم يراها أهل المدن ، لازال صدى عدودات عمتى بصداها الجنائزى فى اذنى ، اعتقدت أن هذا هو سبب كتابتى عن الموت ، كان كل ما لدى عن الموت قبل أن أكتب عنه هو هاجس غير واضح ، لذا كان الموت مخيفا جدا ، اعتقد انى توصلت لحلول معه بالكتابة عنه ، كنت اكتب عن الحياة من خلال أشكال الموت ، كنت أقول لنفسى ” أنا هنا ، وجدت فى الموت ما يدفع للطمانينة ، فالموت يعنى دخولى فى دائرة انحلال ، يتبعها انعتاق إلى هيئة أخرى ، إذا ما قدر عليك أن أن تكون أحد اشكال الحياة فعليك أن تحيا هذا الشكل إلى النهاية 

عندما أحب أتحدث عن الموت، وعندما أبكى أتحدث عن الموت، وعندما تتعالى ضحكتي المتقطعة أتحدث عن الموت ، ولكنني عندما أموت سأتحدث كثيرا، كثيرا جدا، عن الحياة. أي فجيعة في الموت؟ وأي موت فيه؟ سأكون هناك سالما آمنا، ولن يزعجني تآكل لحمى أو ذوبان عظامي في الرمل. هناك سأكون أكثر التصاقا بالحياة 

ياسر الزيات ، ناسك متخفى فى هيئة كافر باللغة ومؤمن بالجغرافيا، مطمئن إلى الحياة ومعذب بها، شاعر لايثق فى شاعريته ولاينفى شاعرية الآخرين ، يخبرنا الزيات عن الشاعر “هو من استطاع أن يكتب ما يراه لا ما يراه الآخرون .”

آه: هؤلاء الآخرون!”

 

مقالات من نفس القسم