نظر الشحاذ إلى الطبق بتعال قائلاً: آسف لا أحب البطاطس المطبوخة، ارتبك ياسر عائداً ولائماً نفسه على محاولة العطاء التي لم تسعد الرجل، بينما أكمل الرجل التقليب في الصندوق غيرعابئ بما فعله، أما هو فقد ظل منشغلاً به طويلاً.
سيكتب ياسربعد ذلك قصيدة الجوع وسيأكل خارطة السودان بدلاً من أن يبحث عن بعض الجبن في الثلاجة. أخبره أنني أحببت القصيدة أكثر من قصيدة (جوع) لتشارلز بوكوفسكي، فيصمت قليلاً في خجل، فكما أنه لا يحب الهجاء يكره الإطراء أيضاً، وخاصة حين يلمح خيطاً رفيعاً من المبالغة. قلت: أنا بتكلم جد ييجي إيه بوكوفسكي جنبك أصلاً؟ فاضطر للضحك وإكمال الحوارٍ.
ولكنني لن أذهب معه إلى الإسكندرية مدينتي المفضلة لأنه سيحرمني ببساطة من التهام الأسماك الطازجة، سيسير مسرعاً متأففاً من الرائحة حين يمر على أحد محالها بينما أتباطأ وأنا أتشمم رائحة الشواء كقط بائس،سيقول وهو يأكل في متعة إن اللحوم المشوية ملائمة أكثر لجو الأسكندرية، ولن نتحدث طويلاً في هذا الأمر لأنني كنت أفكر أنه ربما ابتلعه الحوت في حياة أخرى وظل حبيساً في أحشائه مدة طويلة كانت كافية تماماً لهذا الكره غير المبرر.
سيراقب ياسر كلاب المعادي وينقب في تاريخهم القريب في “أمثولة الكلب الابيض” تماماً كما يتتبع زجاجات المشروبات الغازية الشعبية، وهي تتغير وتتبدل وتندثر أنواعها القديمة بتدرج زمني مع “فاصل في الكازوزة”، هذا الشغوف بالمعرفة لن يتعالى على الجهلاء أبداً، سينتخب لهم قصة صغيرة على قدر عقولهم يحكيها لهم كحكاء ماهر ثم يعذر جهلهم بمحبة بالغة.
لكن صراحته المزعجة ستغضب الكثيرين، فهذا الرأي الحاد والنزيه لن يجامل أبداً بخصوص الأدب، ستفاجئك ذائقته الانتقائية الراقية فلو أخبرك مثلا أن هذا الكتاب -مش بطال- اذهب لشرائه وأنت مطمئن .
أما الذاكرة الحادة التي نحسده عليها والتي تجعله يتذكر أصدقاءه بأسمائهم الكاملة في- كي جي وان- ستجعله يحلل لك شخصياتهم وهم في الرابعة من العمر فقط، ولن تعلم أبداً هل حللها وهو في هذه السن الصغيرة؟ أم أنه اشتغل عليها بعد ذلك؟ حتى أنني ما زلت أضحك كلما تذكرت هذا الطفل الأجنبي الذي زامله في فصول ما قبل المدرسة، ولا يعرف شيئا عن اللغة العربية أو العامية المصرية، وحينما يغني الأطفال أغنية سيد درويش “الحلوة دي قامت تعجن في الفجرية” كان الطفل يصمت في يأس، ولكنهم حين يكررون المقطع اللازمة والديك بيدن “كوكو كوكو” يقولها الطفل بحماس وقوة بالغين ليعوض جهله الفائت. لمح ياسر قدر المبالغة في هذه السن الصغيرة، وربما ابتسم لها أيضاً قبل أن يتعاطف مع غربة الطفل الأجنبي في بلد لا يفهم لغتها وقد يكون بدأ من هناك شغفه بإتقان اللغات، حتى لا يكرر يوماٍ (كوكوكوكو) بحماس مبالغ فيه.
أتذكره على سلالم المكتبة المركزية لجامعة القاهرة، كان يجلس وحيداً متأملاً ومكتفياً من الصخب بحضوره كخلفية، متأبطاً مجلة لا أذكر الآن اسمها، أتصفحها بفضول فأجد قصة “التوأمان بقلم: ياسر عبد اللطيف”، كان سعيداً بفرحة مقتضبة هو الذي لا تظهر مشاعره كلها بل جانب منها فقط، أما حين يشعر بالضجر فسيحرك قدميه للحظات في حركة عصبية، قبل أن ينسحب فوراً ولن يثنيه عن الرحيل أحد.
قال: أنتظر سلوى.
قلت: صديقتك الشاعرة.
قال: لأ غرام.
قلت باستنكار: اتنين شعراء لأ كده كتير.
قال وهو ينفث الدخان غير عابئ بمخاوفي: عادي.. بتحصل.
بينما لم يبق في ذهني سوى مشهد سيلفيا بلاث وهي تحمل طفلها في عصبية، كأنه مصدر تعاستها، ولم يكن ياسر هوتيد هيوز على أية حال، كان انفعالي المؤقت مهدراً حينما انفصلا بعد فترة وجيزة ولم تنتحر الشاعرة بعد ذلك بالموت.
أما لو حدثت نفسي بجملة غامضة مقتطعة من سياقها وقد تحمل رسالة وهمية إلى الكون، بينما نجلس بين كثيرين، لن يفهمها الا هو بعد أن يحاول بذهنية رائقة أيضاً أن يكتشف الحدث الذي هبط على رأسي بغتة ليجعلني أفكر هكذا في تلك اللحظة بالذات، ثم يرشف بعضاً من قهوته في هدوء و يقول مبتسماً: هرشت أنا يا جيجي.
كان ياسر يهاتف صديقته ساكنة الضاحية الأبعد التي درست الفلسفة وتكتب الشعر وتخبئه في أدراج ملابسها الداخلية حتى لا يراه أحد، كان يشفق عليّ من سكون حياتي، ويبادرني كلما اتصل بالهاتف الأرضي: ماذا تفعلين؟ في إحدى المرات كان صوته منزعجاً بشدة وحين سألته قال: كانت هناك معركة في المقهى ولما استفسرت أكثر علمت أنها لا تخصه أبداَ وليس طرفاً فيها ولا يعرف فاعليها، فقط حدثت على مقربة منه فتعكر صفو السماء في مخيلته الهائمة.
هكذا كان ياسر يود لو يعم السلام الكون فتهدأ روحه ويطمئن، ولكن ذلك لا يحدث في أغلب الوقت، فحين جلسنا في مطعم استوريل، أنا وهو وريم ننتظر أحد الأصدقاء كي يرافقنا لزيارة أسامة في مركز الكلى القريب، يهاتفه هاشم: مات أسامة.
سألته أثناء المكالمة، فهبط بكفه المفرودة والمعلقة بين المائدة والفراغ وهبط بها الي أسفل في إشارة إلى الموت.
في جزء من الثانية كان يواجه أزمته الوجودية وجهاً لوجه، يرتبك ياسر أمام الموت ولا يصدق أية مؤامرة تلك التي تأخذ أصدقائه إلى ضفة أخرى بعيدة يسميها الظلام، ويتساءل: من الذي سيقرأ نصوصي إذن يا ولاد الكلب.
بعدها بشهور قليلة، تعرضت للحادث الأسوأ في حياتي وما إن استلقيت على فراشٍ المستشفى في الساعة الثانية بعد منتصف الليل، حتى بدأت أنتظر الصباح كوقت ملائم لمهاتفة ياسر، سأشعر بالاطمئنان لمجرد مجيئه، لأنه الشاهد على حياتي المهددة الآن يعرف تفاصيلها الهادئة وفواصلها المفاجئة، من سيربط الأحداث كلها في قصة قصيرة كما يفعل هو.
في السابعة تماماً طلبت من أختي أن تحدثه وما إن بدأت في طلب الرقم حتى عاجلتها: لا تخبريه.
قالت بنفاد صبر: كيف أطلب منه أن يأتي ولا أخبره بما حدث؟ قلت لها: اطلبي منه مثلاً رقم طبيب العيون أو أي شئ.
أختي التي لا تجيد التمثيل، تلعثمت أمام تساؤلاته المنزعجة فأعطتني الهاتف لأخبره أنا.
سألته بمجرد مجيئه: أين هاني؟ فهبط بكفه المفرودة مرة أخرى تماماً كما فعلها حين أسامة، قائلاً: في العناية المركزة.
لم يعلم أن إشارة يده التي تهبط تلقائياً صارت في ذهني تعبيراً عن الموت .
أما الآن وهو هناك مغترباً في تلك الضفة الأخرى، سأخبره فقط بالأخبار الحلوة، فيبتهج وأؤجل الأخرى حتى تمر وتنقضي أولاً، وقد لا أحكيها لأنني قد نسيتها ولكننا لن نتوقف أبداً عن الحكي.
أكتشف الآن أنني مازلت وكما كنت دائماً أريد لياسر أن يأتي ولا أريده أن يعرف.