د. أشرف الصباغ
(1)
عندما يطغى نجيب محفوظ بشكل أو بآخر، أو يتسيد حضوره هذه المناسبة أو تلك، تكون هناك وقفات مميزة معه. قد تكون في شكل تساؤلات أو تأملات، أو محاولات للفهم أو إقرار أمر واقع ما، أو محاولات وضع نجيب محفوظ في سياقات أكثر اتساعا ورحابة وعمقا، باعتباره أحد العملات المحلية التي يمكن تصريفها عالميا.
يمثل كاتبنا نجيب محفوظ، بأعماله وبشخصه وبأسلوب حياته وبمنهجه في الإبداع، قيمة مطلقة من حيث رأس المال الثقافي “cultural capital”، لما يمثله من قوة ناعمة تحتاج دوما إلى التجديد والدفع والاستثمار والتشغيل، بعيدا عن فخ التقديس والقدسية والسكونية المضادة للحياة وللتطور على حد سواء. وبالتالي، فإنتاج نجيب محفوظ يمثل رأسمالا رمزيا يضعه في خانة المطلق، لا من أجل التقديس والعبادة كما قلنا في السابق، ولكن من أجل استكمال بنائه نقديا ووضعه في السياق المعرفي والإبداعي المصري والعالمي. وهو من جهة أخرى، يمثل قيمة أدبية متحركة (نسبية) من حيث الإبداع والتعرض للنقد، أي يبقى قيد البحث والكشف والمقارنة، ويظل مادة فعالة وحيوية للباحثين والنقاد، وقيمة إنسانية وإبداعية للقراء بشكل عام، ولطلاب المدارس والجامعات والأجيال الشابة بشكل خاص، بعيدا عن النجومية والوحدانية، لأن محفوظ لم يكن أبدا نجما لا في حياته ولا بعد رحيله. كان، وما زال، مواطنا مصريا قحا، تفادى الوقوع في فخ النجومية، والانطلاق من عقائد سياسية لتنميط الإنسان. كان ببساطة، ولا يزال، في صف الإنسان انطلاقا من مفاهيم إنسانية بسيطة، وارتكازا إلى العقل والمنطق والحقيقة، وإقرارا لمقاصد الحرية وإعلاء حياة الإنسان كأغلى قيمتين مطلقتين، بعيدا عن الشعارات والصخب والصوت العالي وخلط المفاهيم.
نجيب محفوظ ليس مجرد كاتب مصري حصل على جائزة نوبل، ولكنه مفكر مصري استطاع أن يختزن جانبا من حكمة المصريين وصبرهم ودأبهم، وتَمَكَّن من اختزال آلاف السنين من عمر شعبه ليحولها من حالة التأمل والإيمان إلى حالة الفعل والغوص في أعمق أعماق المناطق المجهولة في روح الأمة المصرية. وقد تعامل محفوظ مع “هدية” الإبداع بعقلية ووجدان المصري البسيط العارف بتقلبات البشر وبتحولات المصائر وبغدر الأقدار، فنجا من فخ تضخم الذات، ومن الأمان الزائف، ومن الوقوع في مصيدة الشعارات والعقائد، وأدرك أن حياة الإنسان وحريته وجهان لعملة واحدة. وهذه العملة الواحدة هي القيمة الأسمى والأهم التي يجب الحفاظ عليها من أجل الحفاظ على الحياة نفسها. من هذه الزاوية يمكن النظر أيضا إلى أعمال محفوظ ومنهجه الإبداعي.
نختلف أو نتفق مع نجيب محفوظ، ولكنه قيمة مصرية يتمثل جانبها المطلق في أمثلة كثيرة مثل الأهرامات وأبي الهول ومينا وأحمس ورمسيس وحتشبسوت وأم كلثوم وطه حسين وسيد درويش ومحمود مختار وداليدا وجمال حمدان والنقشبندي وحداد وچاهين ومجدي يعقوب وتحية كاريوكا وحورس وإيزيس، حيث تحول الأشخاص والأساطير والتماثيل بمرور الزمن إلى منظومة قيم متداخلة ونمط حضاري مهيب. نجيب محفوظ يقف إلى جانب كل هؤلاء، لأنه عرف قيمة مصر، وأدرك أبعد وأعمق النقاط المظلمة والمضيئة في أرواح المصريين ونفوسهم، وترجم معرفته بمصر والمصريين إلى حالة إدراكية تتميز بالخصوصية الحصرية من جهة، والعمومية الإنسانية بكل تجلياتها وتناقضاتها من جهة أخرى، وتنطلق من أعماق التاريخ والميثولوجيا وجغرافيا الروح البشرية الأولى.
(2)
لم يكن نجيب محفوظ مهتما بنحت الشخصية الفنية، بقدر التركيز على خلق نماذج بشرية كاملة. من هذا المبدأ تحديدا دخلت نماذج محفوظ إلى الميثولوجيا الشعبية المصرية كنماذج بشرية وكعبارات تكاد تصل إلى مرتبة المثل الشعبي. فـ “سي السيد” النموذج البشري تحول إلى مفهوم يحمل دلالات اجتماعية وشعبية وثقافية، بالضبط مثل محجوب عبد الدايم الشهير، وفرج إبراهيم الأقل شهرة والأكثر جرأة ووقاحة ووضوحا. غير أن النماذج البشرية النسائية لدى محفوظ تحتاج لا إلى سينما بقدر احتياجها إلى المسرح. أي أن نساء محفوظ يمكن أن يجتمعن في نص درامي يتم طرحه على خشبات المسارح لتتحاور، على سبيل المثال، إحسان (القاهرة الجديدة) مع حميدة (زقاق المدق) اللتان تنتميان إلى شريحتين مختلفتين من طبقة اجتماعية واحدة تقريبا، تسكن إحسان في إحدى شرائحها الوسطى أو ما تحتها قليلا، بينما سكنت حميدة في قاعها الضيق المظلم – الخانق.
وعموما فمسألة مسرحة نجيب محفوظ وإبراز الجوانب الدرامية المسرحية في أعماله، هي مسألة مهمة ستسمح لنا باكتشافات جديدة داخل هذا العالم المحفوظي الثري، وستكشف عن مستويات أعلى وأرقى في عالم نجيب محفوظ الإبداعي. وهذا موضوع ضخم يجب التعامل معه وفق استعدادات نوعية وبحرية مطلقة وبأدوات استثنائية، سواء على مستوى البحث النظري أو مستوى التناول العملي.
إن الكتابة الكبرى قد تضع صاحبها في مرمى نيران المجتمع، قبل نيران السلطة. والكتابة الكبرى هنا لا تندرج تحت بند البورنو أو الحديث، كما اصطلحت الثقافات والمعارف العربية، عن المحرمات والتابوهات الثلاثة. إنها أعمق وأشمل وأعم من ذلك. وكاتبنا نجيب محفوظ ينتمي إلى معسكر الكتابة الإنسانية – الاجتماعية – التاريخية ذات الدلالات الفلسفية والشعبية. قد لا نستطيع أن نلمح، على سبيل المثال، العالم الملحمي عند نجيب محفوظ خلال رواية واحدة، بل ولا نستطيع أن نختصر سمات الكتابة الملحمية في رواية واحدة أو روايتين لمحفوظ. ولكن عالم نجيب محفوظ هو عالم ملحمي بامتياز يؤرخ لوطنه ولأمته ولمراحل مهمة في تاريخ تطور المجتمع المصري. أي أن غالبية أعماله يمكن اعتبارها أعمالا ملحمية أو ملحمية بانورامية. والقضية ليست في المصطلحات، فالحديث يدور حول الروايات التي يتم فيها اسقاط مصير البطل (أو الأبطال) على تاريخ البلاد الذي تجري متابعته خلال فترة زمنية كافية. أو بكلمات أخرى، هو متابعة مصائر البطل أو الأبطال من خلال قصص وأحداث معينة على خلفية تحولات اجتماعية وسياسية وتاريخية. ناهيك عن الغوص في قاع المجتمع من جهة واستحداث أنماط ونماذج إنسانية من لحم ودم من جهة أخرى، ونحت مصطلحات تدخل إلى نسيج اللغة اليومية في الحياة وفي المدارس والكتب في آن معا.
إن الكتابة الكبرى قد تضع صاحبها فعلا في مرمى نيران المجتمع، قبل نيران السلطة. وعلى سبيل المثال، فعلى الرغم من التعامل الاستثنائي مع الكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي، فقد رأينا المجتمع الروسي، قبل النقاد في روسيا وفي العالم كله، يتعامل بفخر وكبرياء مع الكاتب الكبير باعتباره من كتاب الرواية الكبار، ما حوَّلَه إلى رمز ومثار فخر وافتخار. لكن في الحقيقة، ومع مرور بعض الوقت وتجاذب أطراف الحديث مع العديد من المسرحيين والروائيين والمهتمين – المتخصصين في عالم دوستويفسكي، اكتشفنا أن الروس في قرارة أنفسهم لا يحبونه، وأحيانا يشيحون برؤسهم في ضيق وغضب عند ذكره أو ذكر أي من النماذج البشرية التي خلقها. والسبب هو أن دوستويفسكي لم يكتف بتشريح المجتمع، بل ووضع يده على أعمق المناطق المظلمة في الروح الروسية، بل وفي الروح الإنسانية عموما.
نجيب محفوظ وضع يده على الكثير من المناطق النفسية والروحية المنحطة في الإنسان المصري، والمجتمع المصري. إن خلق نجيب محفوظ لنموذج “سي السيد”، والنماذج النسائية في العديد من أعماله، يؤكد بما لا يدع مجالا للشك، أنه بعيد تماما عن شبهة عدم احترام المرأة. محفوظ كان يُشَرِّح المجتمع المصري، ويسخر من هذا المجتمع، مع كل نموذج للمرأة يقوم بخلقه وطرحه على العالم.. لقد نجح محفوظ في الوصول إلى الكثير من المناطق المظلمة في أرواحنا.. أرواح المجتمع المصري، والإنسان المصري، وسخر بجدية من بنية هذا المجتمع لدرجة أنه عرَّاه تماما وجعله يقف ليتفرج على نفسه أمام المرآة: مرآة التاريخ، ومرآة الأجداد، ومرآة الضمير.
(3)
هناك ملاحظتان مهمتان تتعلقان بعالم نجيب محفوظ وما يردده البعض حول علاقته بالمرأة وصورة المرأة في أعماله. الأولى تخص علاقته بالمرأة، وأنه كان لا يحترمها ولا يصادقها وكانت لديه قناعة واضحة في كتاباته بأن المرأة إما عاهرة أو أم للعيال، وأنه لم يكن لديه تلك المنطقة الوسطى! والثانية، حول التواطؤ بشقيه الأخلاقي والسياسي، وهل المصائر عند نجيب محفوظ، وبالذات مصائر النماذج النسائية، قدر أم اختيار!!
الإجابات كثيرة ومتنوعة ومتعددة في أعمال نجيب محفوظ: في الروايات وليس في الأفلام الرديئة التي تم بناؤها على رواياته. وهذا هو سر منهج الكاتب، وأهمية أن يكون لدى الكاتب منهج للكتابة وعالم متكامل متعدد ومتنوع، وليس مجرد كتابة روايات تضم شخصيات ما رائعة ومثيرة وتحمل الكثير من الدلالات.
لقد تعامل محفوظ مع المرأة ليس باعتبارها كائنا اجتماعيا مظلوما ومقهورا. بل تعامل معها باعتبارها مسؤولة مسؤولية كاملة عن نفسها وحياتها، باعتبارها فردا اجتماعيا يمتلك كل القدرات والإمكانيات التي تؤهله لتحقيق ما يريده. وبالتالي، فالمرأة عند نجيب محفوظ كانت كائنا من لحم ودم وليس صورة ذهنية، أو كائنا نظريا مجردا في العقول والتصورات والمخيلات، أو مجرد كلمة “امرأة” سقطت من أحد الكتب السميكة التي تتحدث عن ما ينبغي أن يكون في ظل ظروف مختلفة، وعن تصوراتنا النظرية وصورنا الذهنية وأمنياتنا وتمنياتنا نحن.
لقد شوهت الأفلام التي تم بناؤها على روايات محفوظ غالبية النماذج التي خلقها، وبالذات نماذج المرأة. فروايات الكاتب وأعماله لا تتحدث إطلاقا عن أخطاء المرأة باعتبارها كائنا نورانيا – أخلاقيا يجب لمسه بهدوء وخوف لكي لا ينكسر ويتحطم، ولا حتى باعتبارها كائنا استثنائيا أفضل أو أسوأ أو لديه عيوب أو زوائد أو نواقص. وإذا كان دوستويفسكي قد غاص في النفس البشرية وقام بتشريح مناطق الضعف والنقاط المظلمة فيها، فمحفوظ قام بطرح نماذجه البشرية في علاقتها بالمجتمع الذي تعيش فيه. والمسألة ليست مقارنة بين محفوظ ودوستويفسكي، بقدر ما هي إلقاء المزيد من الإضاءات على أعمال نجيب محفوظ وعمقها، وعمق رؤيتها.
(4)
نعود إلى نجيب محفوظ الذي كان مغرما بمتابعة التاريخ، ومتابعة السياسة الكبرى، والتفاصيل السياسية الصغيرة وعلاقتها بحركة المجتمع. فتميَّز بأنه كان يعاني الكثير لكي يبلور آراءه ومواقفه، بصرف النظر عن توافقها أو اختلافها مع الآخرين، سواء كان مع السلطة السياسية أو مع الناس أو مع المتربصين وقصيري النظر كثيري الكلام، وأصحاب الأحكام القاسية والرؤى الصارمة. ومع ذلك لم يفلت من مصير أي كاتب جاد وكبير.
لقد تزامن حصول كاتبنا نجيب محفوظ على جائزة نوبل مع ذروة تهميش دور مصر الثقافي عبر حكومات وأفراد و”شلل” ثقافية، وأحزاب عربية، على رأسها البعثان العراقي والسوري وأتباعهما من أنصاف المثقفين وصبيان الساسة والتنظيمات الطفولية، والكثير من التنظيمات الفلسطينية المأجورة التي كانت لها امتدادات داخل مصر وخارجها، بل وفي دول غير عربية أيضا. وشاركت في ذلك للأسف الشديد عقول وقدرات مصرية غير مدركة أنه يتم استخدامها لا لأغراض سياسية فحسب، وإنما لأبعد من ذلك، حيث الهدف الأساسي هو تهميش مصر والدور المصري لصالح قوى هشة وصبيانية ومراهقة، وتهميش القوى الناعمة المصرية لتحل محلها قوى أخرى تتميز بالصلف والهشاشة والثراء غير المبرر.
في الحقيقة، نجيب محفوظ كان لديه وجهات نظر تخصه كمواطن مصري، وككاتب ومفكر مصري أيضا. ومن الممكن أن نختلف معه حولها، لكن علينا أيضا أن نتفهمه، ونتفهم منطلقاته القومية المصرية حصرا، ونحترم مخاوفه وأحلامه وآماله التي تخص شعبه ومستقبل بلاده إقليميا ودوليا. وعموما فهو قد أثبت أنه كان على حق، وكان هو الأصح بحدسه الإبداعي وبإدراكه البسيط مثل المصري القديم. كما أن اختلاف البعض معه، لا يمكن أن يدفعهم لاتهامه بالخيانة والعمالة أو الانتهازية و”الصهيونية”، وإلا فسوف نقوم بإعدام دوستويفسكي “المجنون المعادي للسامية”، وإيفان جونتشاروف “المثالي الثرثار صاحب المواقف الطبقية الرديئة”، وبلزاك “المرفه ابن الناس المبسوطين الذي لم يكتب أبدا عن أطفال الشوارع أو المنبوذين والمهمشين”، وجوته “زير النساء المتعالي صاحب الآراء غير الإنسانية”، وليف تولستوي “صاحب الغرائب الذي كان يغضب زوجته ويستهين بها وبأهل بيته ويعاشر الخادمات والفلاحات اللاتي يعملن في أراضيه وأملاكه”.
كاتبنا نجيب محفوظ قد يخضع لطرفي النقيض: التطرف في حبه وتقدير أعماله، الأمر الذي يصل إلى حد التقديس، أو كراهيته والتقليل من شأن أعماله، والطعن في شخصه. وبين هذين النقيضين تكمن مسارات البحث الأدبي والتاريخي والاجتماعي والنفسي، وقدرة الكاتب على الاستشراف وخلق النماذج الإنسانية التي تعيش لآلاف السنين كجزء من الميثولوجيا الشعبية لمجتمعه المحلي وللإنسانية عموما، بعيدا عن آراء البعض المتهورة والتقديرات غير الدقيقة أو “المنحرفة” التي تنطلق من الأنانية والغيرة والعبارات الجاهزة البعيدة عن البحث العلمي – الأدبي. بل وتنطلق قبل كل شيء، من قصر النظر وبالذات في عدم إدراك قيمة القوى الناعمة وأهميتها في الحراك الإبداعي والاجتماعي المحلي من جهة، وفي منح “الوطن” قيمته المعنوية والمادية القابلة للصرف بين الأوطان الأخرى.