وعي الحرب ونزيف الكتابة

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمود بركة  

يستمر فعل الكتابة في البحث عن تكوين الدوائر الفاعلة لإيقاف نزيف الموت الغير عادي، في هذه الأوقات الخطرة نستدعي الكتابة لتتفقد حواس أصواتها، وترافقها أدوات وصف الحدث الأصعب في التاريخ المؤبد من حيث المكان والمساحة والزمن، حتي تتدرب التراجيديّات على التحرُّر من جغرافيا المفارقات السجينة أن كان لم يزال للتحرر أن يكتب صيغة الامتداد نحو إشراقات الحرية، ونحن نبحث عن فعل الكتابة والصورة والصوت في إنهاء حرب الإبادة ومحاكمة القتلة المستعمرين، لنجد أنفسنا داخل وقائع لما يعيشه الناس في غزة وعموم فلسطين من يوميات ومشاهد وجغرافيات تحاصر سياجها الإنسان وتطارده نحو الموت والنزوح، أن لم تنتج الكتابة مضامين الفعل والجدوى، فالسؤال لم يتوقف في هذه السيرة السريعة وهي تنتقل بين الأزمنة الجريحة، في هذا الأشتعال الذي فاق قوة الكون الكبرى على مدار أكثر من 450 يوماً، ولا يزال الشعر والمقالات والكتابة الروائية والشارحة والأحداث اليومية والتحليلات المختلفة لما يعيشه أهل المكان، يبحث عن بارقة الأمل حتى لان نغيب أيضاً في شبكة النسيان كغياب الفعل وضرورته، في غزة الواقعة والممتدة على ساحل البحر ونخيل المدينة وبرتقال “الشمال الحزين ” وشجر الزيتون الذي لا يزال يضيئ رغم كثافة الأدخنة والغبار في الحرب، وتاريخها الحاضر منذ البدايات، وهي تقترب في كل يوم من” الكتابة المستحيلة” في مشهديات ترويها الأجيال وتنقلها خارج المكان، وذلك لا يختزل عمر الكتابة بل يزيد من صحتها وضروريتها لرواية الحقيقة وأهميتها تحقيقاً لكل المقولات الصارخة في أوقات الألم والمعاناة..من يوقف الحرب والموت والنزوح، ويرفع للوعي ضرورة الكتابة الواعدة والانتباه لخطورة المشهد في كل شارع ومدرسة ومستشفى وبيت وحارة، من يجيب على سؤال يدوي صوته جدران الكون “وين بدنا نروح ؟” هذه الجملة التي تلخص الخطاب الكامل في غزة حين تسيل هذه الكلمات كالدمع الحار على جبين النساء والأطفال. وطفلة ترتجف ولسانها بين شفتيها يرتعد من الهلع في  النهار” خايفة من اليهود” عن طفل ولد في لحظات غياب والديه، عن رجل يمشي على عكازه الخشبي باكياً في نهايات العمر، عن فتاة ترسم بيتها وأحلامها على ورق مهتري..

 هل من الممكن أن تستطيع الكتابة الإجابة وهي العاجزة عن الفعل في شروط النقد واستحضار أخلاق العالم الغائب أصلاً إلا من كرنفالات المصطلحات المريضة عن سلام بلا حياة عن تعايش بلا بشر، يكتب لي شخصاً قريباً من دمي ولحمي رسالة قصيرة في اَخر الليل ” الشوارع رائحتها دم، الجثث في كل مكان منتشرة، أنا امتلأت من روائح الموت” وأفقد عقلي في زاويا البيت كالقط الجريح في ليلاً طويل كغابة أشعار محمد الماغوط. في غزة الساحة الواقعة من الشمال حتى الجنوب في حفريات دقت الأرض بالأسلحة الحديثة المتطورة في محو الإنسان والذاكرة، فنعود إلى سطر قصير لمحمود درويش ونحن في انتظار فعل الكتابة ” لا حياة طبيعة مع الاحتلال وتحت الاحتلال” ليكون الجواب غير قادر حتى على الدخول غلى معتقلات العقل، كيف للطبيعي أن يتحقق في واقع غير طبيعي ضد البشرية ووجودها، في الأوقات السابقة حاصرت قوات الاحتلال مستشفى كمال عدوان شمال غزة طاردت المرضى والجرحى للسير في العراء مجردين من الملابس تحت البرد القاتل، اعتقلت الدكتور حسام أبو صفية، هذا الرجل الذي كان يقيم الليل ويسهر على جراح الناس، وهو الذي وضع ابنه في كفن أبيض في باطن الأرض على بجوار سور المستشفى. 

يمكن للكتابة أن ترسم اللوحة ونحن لسنا بحاجة للمزيد من لوحات المعاناة وقد افترشت الأرض حتى السماء بهذه المأساة في الزمن المتقدم وذكائه الصناعي الخارق، إن البقاء في رحلة الفلسطيني من أجل الإصرار على حقه وما يستحق العيش لأجله، من أجل الشهداء والأسرى من أجل أطفال كل اللحظات الماضية والحاضرة والقادمة من أجل فتاة المدرسة وأحلامها، من أجل أغنية على الماء، من أجل اقتلاع المستعمرات من حياته وأرضه، الدم لا حدود له في غزة، ورحلة الفلسطيني لم تنتهي، و” العصافير لم تزال تموت في الجليل” والرمال في غزة لم تزال تحفظ صورة الغائب وتكتب عودته من قبور الشهداء والبيوت والمطحونة، إلى صراخ الأطفال بين الخيام، القهر الذي يمرّ من بين عيون الرجال، وصمت النساء الذي يقهر الحجر، لكن الإنسانية المفقودة غاب فيه الخجل واستحضرت الفوضى أرواح التائهين خارج المكان عن المشهد المجروح، ولعل صرخة المولود الجديد في المستشفيات المحاصرة أعلى من ابتسامات من غاب عن الحقيقة. واكتفى بالهروب السعيد، والبلاد التي تبحث عن الحرية لا تعرف الغرباء، وتبسم لدموع المقهورين حتى يبلغ الفرح مكانه.. وللشعوب المكافحة لنيل الحرية تاريخ يخلو من السعادة، حيث السعادة هي استعادة فرحة طفل في أحضان أمه الغائبة.

………………..

كاتب من فلسطين

عودة إلى الملف

 

 

مقالات من نفس القسم