وسط سوق الشياطين

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 31
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

مؤمن سمير

قِرْبَةٌ من النور

حبيبتي التي هَرَبت لما فاجأها النورُ وهي تبكي في الحديقةِ صارت هدفاً للعفاريت، فَتَحوا لها قلبها فشافتني من تحت ملابسي حشرةً سوداء تهتزُّ بلا فائدة.. الأشباحُ المحظوظون، لم يتعبوا أو يلهثوا بل وجدوا داخلها ظامئاً ومستعداً بالصراخ في ساحاتنا، نحنُ القُسَاةُ الذين يُعْتِمونَ كل رقصةٍ ويضعون المُلاءَةَ ويضغطونَ بيقينٍ فتختنق.. لكنَّ الظِلَّ الذي ينكرُ الخيرَ كافرٌ وجاحِدْ، فأنا و الحمد لله علمتُ السِرَّ في لحظة اختلاء الحزنِ بي وراءَ المنزلِ، أدركتُ بأن النورَ هو لعبتُكَ أيها الشيطان، تتسلل للخلاء مبكراً قبل أن تتنفسَ الأرضُ، وتكورهُ في قبضتكَ، وتعجن منه بحاراً  أو طيناً مخططاً لامعاً أو حتى وردةً في كأس.. و في أيامٍ أخرى يحلو لكَ أن تفردَهُ في حقولٍ أبعد من النهرِ ثم تثقبَهُ وتحشو الثقوبَ بالخوف والموت، تجعل السَوَاد يغزو الطريق كلها والحُفرَ والسحابَ ثم تضحك.. النورُ ثقيلٌ في الحقيقة ويملأُ أجولةً وبيوتاً وذكرياتٍ تخصُّ الذين غاصوا للبحث عن الصمت الصافي بالأسفل.. هو مُغامِرُ كذلك ومَلولٌ على الأرجح، يَشدُّ جِلْدَهُ كلما مرت سحابةُ الأعياد ويصير خفيفاً، يطيرُ ويقول أنا أصلُ الغاباتِ قريبُ الجَدِّ الأول.. أنا طعامُ الغريبِ و مُدْيَتُهُ التي ينتصر بها على ريبة الأسواق.. أنا.. أنا.. أنا بردانٌ بدون نورِكِ يا حبيبتي، أنا ظلامٌ في طبقِ غولٍ يقلِبُ النهارَ ليلاً كلما تَثَاءَبَ أو عَضَّ نبيةً كانت وحيدةً مع طفلها وهالتِهِ، خلف الجبل الكبير..

هنا السَرَابُ هنا رنينُ الغفران

أريدُ أن أحكي وأتكلمَ كثيراً، مع حبيبتي القديمةِ التي أَقْسَمَت أنها رأتني ظلاً عجوزاً ومثقوباً ساعة هربتُ من حضنها.. أودُّ أن أصف لها حالي وسط سوق الشياطين الذي خُلِقَ فجأةً أمام بيتها.. و أن أنقل لها رنين الغابة التي تُعَلِّقُ على جانبيها الأصواتِ التي تضحكُ ثم تبكي.. ثم أبتهلُ ألا أنسى البئر التي اقترَبْتُ منها ببراءةِ طفلٍ فعادت بجعةً تقفزُ في الصورةِ.. أودُّ أن أقولَ وأقول في أذنك يا حبيبتي حتى يُبَحَّ صوتي وتَحْمَرَّ أذناكِ فآكلهما وأنتِ تُرْخين السِكِّينَ ثم تبتسمين.. أودُّ أن أبرِّئَ نفسي يا ناس لأعودَ إنساناً يفرحُ ويغني ويطير.. لكنَّ الفرصةَ ضاعت للأسف والوقتَ فات.. أحلم كثيراً بأن أبي الميت عاد من ضوضائِهِ من أجلي أنا، من أجلِ أن يتابع فمي وهو ينطلق كالشلال، وأنني قلتُ وحَكَيْتُ وأيقظتُ حروفَ قسوتي معه وذبحتها تحت قدميهِ واحداً واحداً.. لكنَّ الفرصةَ ضاعت للأسف والوقتَ فات.. أبانا الذي في الحَلْق، انطلق ببوقِكَ السِحريِّ وأَسْمِع الدنيا كلها، تَجَاوز عصابات الصِبْيَةِ والورود والأمطار واقبض على العجائز، قشِّرهُم ليطلُعَ القادةُ والقتلَةُ والصقور ودعهم يملؤون الساحات.. جسدي ساخنٌ من الحُمَّى، ممتلئٌ بالحِبْر حتى العنق، أودُّ أن أنفجر وأَعْمِي عيون الدنيا بطوفانِ حروفٍ كلها (سامحوني) كلها (أنا مسكينٌ وغريبٌ في هذه الدنيا) كلها (أريد أن أذوق غفرانكم مرةً واحدة مع قهوة الصباح) كلها (لكنَّ الفرصةَ ضاعت والوقتَ فات)..

كنتُ حقيقةً وكنتُ ذكرى

كان أنفي مُوصَداً من جبروتِ الرمال، حتى أني تذكرتُ يوم قبضَ عليَّ البحرُ وخنقني.. كنتُ أهوِي وعينيَّ تحاولان أن تلمحان قمراً أرشقهُ في ذاكرتي كفرصةٍ أخيرة أقول فيها لهذا العالم أنا بنَّاءُ حياتي وراسمُ أساطيري وأوهامي.. لكنَّ السرابَ خانني فوصلتُ للقاع وأنا أقول أنا ريشةٌ أنا ذئبٌ بلا مخالب.. ذئبٌ من غير قمرٍ و ينام الآن للأبد..

كانت عيناي لا تبصران في العاصفة، حتى أني تذكرتُ يوم قامَرَ العَمَى وكان حظهُ مجرماً فاختارني.. كنتُ أركضُ فأصطدم بالحائط وأقومُ كالمجنون وأنطحُ الحائط الآخر علَّ الكون يعودُ شظايا تحت قدميَّ.. كان داخلي موزعاً بين حبه الصادق للظلام وبين رعبهِ الصادق من أشباحِهِ.. في نهاية الطريق ربطوني في السيارة من الخلف وقالوا دعوه يذوقُ الفرق بين الليل والنهار علَّ روحهُ تَعْمَى ونفسهُ تستكين..

كانت قدماي لا تستطيعان السَيْرَ في الضباب، حتى أني تذكرتُ يوم قطعوا ساقيَّ في المذبحة وكيف زحفتُ وزحفتُ لألحق صورةَ أمي قبل أن تدوسها أقدامهم القذرة.. و قبل أن أدسها في دمائي وجدتُ أمي تمد يدها وتقول إنني تأخرتُ عليها فبكيت لأنه لا أقدام لي كي أصعد للسماء ولأنها لم تعد تربتُ عليَّ وأنا لم أعد أنامُ مع الأموات..

كان بطني متقلصاً بعد أن ارتعشتُ، حتى أني تذكرتُ يوم دخلني الخنجرُ وأخذ يمزقُ ويراوغُ كي يلتقط قبلتها من أحشائي.. كان لحمي مهترئاً لكنهُ مزعجٌ، ينبضُ بذكرياتٍ وشوارعَ وحفرٍ فأيقن الموتُ أنهُ مسكينٌ حقاً و مهمته كلما هَرِمَ تصير عسيرةً حقاً.. كان لا يتمكن من إغماض عينيهِ وبالتالي لا يحتمي بأحلامٍ تحفظُ حرارتهُ وشبابه..

كانت حرباً وكانت عاصفةً وكنتُ حقيقةً وكنتُ ذكرى..

مقالات من نفس القسم

خالد السنديوني
يتبعهم الغاوون
خالد السنديوني

بستاني