خميلة الجندي
دعتني استاذتي اليوم لتناول فطارنا في إحدى المطاعم العتيقة في مصر الجديدة، حديث رشيق عن هذا وذاك، عن أخبارها وأخباري وأخبار العالم، ثم نقلة للحديث عن الأدب، كيف رتبت مكتبتها الجديدة، والكتب التي اكتشفت أنها ابتاعتها ولم تقرأها بعد، وماذا قرأت هذا الاسبوع. أدهشتني قائمة القراءة في اسبوعين بعدما رُتبت الكتب على أرفف المكتبة، وأحسست أنها وجدت الوقت الكافي أخيرًا لتقرأ، ولكننا لم نشترك إلا في قراءة عمل واحد كان ورثة آل الشيخ.
ربما تأخرت كثيرًا لأكتب عن ورثة آل الشيخ، وما كانت كتابتي الأول عنه سوى رأي متواضع نشرته على صفحتي الخاصة، لإنني وقتها على أي حال كنت مخطوفة الأنفاس، زُج بي في عجلة العائلة العريقة ولم أستطع أن أنفذ من بين طيات الكتاب، لذا حاولت ألّا أكتب وأنا في هذه الحالة من العواطف الجياشة لإن اللاوعي حتمًا سيُغفل جوانب القصور في العمل، وستصبح كتاباتي حديث حلو الكلام عن كاتب بَرَعْ في صياغة روايته، وأشخاص من ورق توغلت في حنايا الفؤاد وسكنته.
مضت الأشهر بعدها وأنا معلقة في عمل أحاول أن أعلق عليه، أن أجد منفذ في أروقة عقلي يرشدني لحديث رصين ليس من المبالغة في شيء، فمهدت لي تلك الجلسة الصباحية الطريق لأمسك بتلابيب النقد. أين وجدت القصور في قصة القرملاوي؟
البحث عن الكنز
كان الكنز هو غاية أبناء الشيخ كلهم، منهم مَن وشى بمراده ومنهم من تعفف عن البوح بحاجته الدنيوية للثراء، تناقلت الألسن قصة الكنز، أين هو؟ كان السؤال الدائم بين جيلٍ وآخر.. لا تُنسيهم الأيام هذه الاسطورة، لم يبحثوا طويلًا ولكنهم – وخاصة أصحاب الاسم الموعود – تركوا أجزاء من فكرهم تبحث عن مكان الكنز. في بيت الخرنفش؟ أم في إحدى بيوت حلوان السبع؟ ربما الكنز في البلدة؟
هذه الغاية الواضحة التي بدأ بها الكاتب قصته، مست القارئ قبل أن تمسه أي رسالة أخرى في العمل، فصار هو الآخر يقرأ بنهم باحثًا عن الكنز، أين الكنز من حديث الحفيد المستمر عن أسلافه؟ لا أثر له. في كل قصة جديدة نبدأها عن إحدى الجدود يتأمل الباحث عن الكنز أن يُمسك بخيط يجره إلى حيث المستقر، فيصبح – القارئ – محمد الموعود. أثرت رغبة العائلة، واسطورة الكنز، وربما اسم العمل – لإن الورثة حتمًا سيرثوا الكنز – في لاوعي قُراء كُثر فخابت آمالهم حين بحثوا عبثًا عن الكنز.
أما المُتعلق بأثر الأسرة، تقصى العلاقات وتوحد مع هذا وذاك، سيجد الكنز في الأسرة، في الأجداد الذين تركوا تراثًا يمتد لأجيال وأجيال من أحفادهم، في السيرة المحفوظة لكل رجل وامرأة مروا على تاريخ هذه العائلة.
حدثتني استاذتي أنها لم تجد الكنز فاقتبست ما حفظته عن ظهر قلب من أسطر القرملاوي:
“أشعر باطمئنان نسبي، إذ يلتفُّ حولي الجدود. أرغب في سؤالهم: مَن منكم وجد الكنز؟”
وأضفت أن الكاتب لم يغفل في الختام أن يمنحك الكنز المراد، حقل البترول المُكتشف حديثًا، أوجدتِ الكنز ولم تشعري بقيمته! تمامًا مثلما فعل الراوي هذا لإنكِ انخرطتِ في حكايات آل الشيخ فكانوا هم الكنز.
رواية الأجيال
النقد الآخر والذي يحدث لفرط المقارنة هو الملل من روايات الأجيال، أو لأن العمل لم يرتق لأعمال نجيب محفوظ عن الأجيال كالحرافيش وحديث الصباح والمساء، وأعتقد أنني في هذا الجانب من النقد سأنعطف مجددًا إلى مشاعري المتعلقة بشخوص الرواية، سأنحاز لمديح القرملاوي ليس لبراعته المعتادة بل لأنه في هذه القطعة الأدبية جعلني فردًا من أفراد العائلة. ولعل هذه البراعة جاءت لقدرته على توظيف ما يقوم به القصاصين البارعين من عناصر التكثيف والاقتضاب دون الاختصار أو البتر؛ فهناك فرق لا يُستهان به بين هذا وذاك. الأولى تجعلك تتأمل البطل المرسوم بعناية كأنك ترى لوحة بسيطة لصورته جالسًا ولكن فيها من الخطوط والألوان والظل والضوء ما يجعلك تلهث متتبعًا ملامحه، والثانية كإنك تتأمل نصف رأس لم تكتمل رسمته. كان القرملاوي بديع الرسم لكل شخصٍ في سطور قليلة وافية، سطور باحت بما يكفي معرفته عن كل ضلع في الأسرة ليذكرنا بفرع من فروع عائلاتنا. أما عن المقارنة بين العمل وغيره من الأعمال التي تتبع قصة أجيال، فهي مقارنة من عبث، لا غرض منها سوى تشتيت العقل عن قراءة رواية رفيعة الألفاظ والمفردات، بسيطة الفكرة والحبكة، وعلى بساطتها تُقدم لك ما تود أن تشعر به من دفء في ليلة ممطرة يعوي رعدها بينما أنت بين الأوراق تآنس بأهلك من آل الشيخ.
التاريخ من نافذة رواية
موضع إعجابي الأعظم كان تتبع التاريخ والحراك الاجتماعي والسياسي مع كل جيل جديد نتعرف عليه، فلا يفوتك أي حركة اجتماعية وتاريخية طوال طريقك مع ابناء الشيخ، تشهد كيف تطور التليفون، وكيف اندثرت آلات الطباعة القديمة من المطابع الأميرية، تدور للحظات في مدينة غرناطة وسينما رويال فتتعرف على عبد الوهاب شابًا، ربما حلوان التي لا تُمثل لك سوى اسم محطة قطار الأنفاق ستصبغ بصبغة جديدة بعد زياراتك المتعددة للبيوت السبعة وبيت إفريم، ذاك الذي كره ثورة يوليو في حين هتف بعدها باسم ناصر، والذي استفاد من الانفتاح يومًا عانى بعد ثورة يناير. ربما سأذهب ذات صباح إلى منزل الخُرنفِش أفتش عن الست أم فاضل تركية الأصل، أجلس معها لتحكي لي أكثر عن نشأت الذي يبدو أنني وقعت في حبه.
أتمنى أن تضيع فرصة الحفيد ولا يسافر إلى استراليا.. ربما هناك ما يستحق أن نبقى لأجله، ليس الكنز وحارسه القرد، ولكن هذا الإرث الكبير يحتاج من يرويه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتبة وروائية مصرية