عبد الوهاب عبد الرحمن*
“عن نفسي أبحث”
هيراقليطس
ما يميز نصوص الشاعر وديع سعادة أنها تتشكل آنيا لتبدو وكأنها من خلق اللحظة المعيشة – فهو شاعر يكتب بوحي اللحظة/ الآن وتكاد نصوصه تخلو من محمولات تراثية سابقة على النص، وكأنه يعيش رعب الإحساس بفراغ الانتظار في (الآن)، لذا نراه يستدرك ما فاته من أحداث، يتقصى آثارها؛ يتمثلها حالة مستمرة مجردة من فعل الزمان والمكان يتركها عائمة عاجزة عن استيعاب المطلق بالنسبي، نصوصه مغمورة بالعتمة فاقدة أحيانًا لملمح جمالي أو بلاغي متأثرا بلا نهائية الوجع والغربة. وفي حالة مجاوزة لمنطق الواقع وهي تتلبس لبوسا تراجيديا تنتظر مصيرا فاجعا تراوغ به تجربة التكوين التي تخفي ما يمكن التنبؤ به؛ فهي تشير إلى غير ما تريد سوى إطلاق أنفاسها الشعرية: “بعيون عميان منسية على الرمل” تدور بلا أحداث ولا محددات ترمي حمولتها الزمنية إلى ساعات”، تشير إلى وقت مجهول” وكأن إيقاعاتها تغادر أزمانها إلى: “وقت مغمى عليه في الشارع “فالفراغ يبتلع كل شئ، والشاعر ضائع فاقد مكانا كان في الماضي إليفا وصار مقبرة. وهو دائما لوحده مع غيره” :نضرب دماغ الوقت قبالتنا على الحائط“ والشاعر والغير ضائعون فاقدون أنفسهم وهما يتلمسون طرقا مجهولة لا تفضي إلا إلى لانهائية يستشعران فيها ثقل ” الوقت الذي يجرفون فيه النهار ” هذه الدوامة التي تظهر اثارها في فراغ يوحي أبدًا باللاجدوى والعبث وليس الشاعر والاخر إلا “حجارة الشارع” “آكلين حجارة الشارع، آكلين الشرفات والابواب، آكلين الاسفلت في امام السيارات، حاملين رأس المحبة عاليا وصارخين ” املين بزيارة لبنان أو الكتابة عنها أو إحالتها إلى رمز ينبض بين: “ضلوع ضعيفة، كانت ترغب يوما ان تلعب الجمباز.
“وفي التفاتات سريعة تهرب إلى حالة استحضار لأعلام تتكون ملامحها الشائهة تحت تأثير هذا الهذر المجنون – يمزج الجد بالهزل:
“سركون سيكتب الليلة مئة قصيدة، جاد سيكتب رواية كاملة عن الحرب اللبنانية ويهاجر غدا صباحا إلى ملبورن”
” وفجأة في نداء صارخ مجروح “
“اعطنا كأسا يا لويس
معي رأس بكامل تجاويفه
معي يدان صامتتان ارافقهما كل النهار،
ثم نتصافح ونذهب إلى النوم “
يعلن الشاعر عجزه وضعفه عن ممارسة اختلافه الذي يتوهم فيه الخلاص من ذاته ومن الاخر،مما اورثه حالة من الانفصام الحاد مع نفسه ومحيطه تتنازعه قوى كلمات يراها تتسرب بين سطور تائهة بلا منطق أو نسق يراها تتقافزوهو يراها تتسرب بين سطور تائهة فاقدة للمنطق والنسق تتقافز على سطح من ورق ساخن ملتهب تبحث في ذاكرتها وارواحها عن الأبدية التي رأها سان جون بيرس “تتثائب على رمال شاطئ بعيد “لكن شاعرنا ببساطة يرى “الأبدية في الممشى ” ترى اي ممشى يقصد ؟! وما دلالة الأبدية عند وديع سعادة؟ هل هي اللحظة الفاقدة لمكانها الباحثة عن زمنها وهي تحلق في فضاء فراغ بكل سعته المخيفة؟ … وهو محتجز في زمن مأزوم يتعذر الفكاك منه وكأنه قدر عاصف يهبط في لحظة متعينة يصعب إدراكه أو إمساك اللحظة التي تنبئ بحضوره وتحذر منه – واللحظة ذاتها يصعب تحقيقها بمجرد الإحساس بها عبر متخيل شعري يلعب على حجب الحقائق أو مراوغتها “حتى يرى صدقها كذبا” برأي المتنبي.
ولكن الشاعر معني بحيرته يبثها في زوايا نصوصه ترسل إشاراتها إلى متلق شعره وهو يبحث عنها وقد يراها “تنطلق من لا شئ، بحيث ينتفي ما قبل النص، باعتبار النص بحثا عن شئ ما، لن يوجد إلا بعد الانتهاء من الكتابة “فالمتلقي يسهم في هذا البحث الذي يرهص به الشاعر ولكنه يطلقه هاجسا أو رؤيا يشكل محورا متحركا مقلقا يمثل المركز الدلالي لتحرير اللغة منه تأكيدا ” لوجود واقع خارج اللغة، التي تشير اليه وتشكل إدراكنا له ولكنه واقع لا تخلقه اللغة ” بتعبير بشبندر -بل هواجس إبداع مسكون بحس المغايرة والمراوغة واللعب في فضاء مجهول.
والشعر برأي ماكليش “لا يعني بل يكون” والشاعر يقف بين نصوصه متعالقا مع هواجس مضطربة تدور بين حالات استيعاب وتمثل حداثي في حالة تشكل ونقض لهذا التشكل عملا بمبدأ هيراقليطس “عن نفسي ابحث” مما يضطره إلى الانفصال عن واقعه خالقا له احدوثة وجود مختلف يصارع فيه عدمه في زمن” تسير فيه الايام من عدم إلى عدم، تنبع من شئ دون معنى، وتصل إلى شئ دون معنى ” كما تجلى لشاعر مثل فيليب لاركن الذي يعاني مثل شاعرنا تقلبات المواقف والرؤى وهي تستمد تجربة وجودها الشعري بالمحسوس والمجرد عبر إحالات شكلية تتبدل وتتغير بتأثير من حالات تقلباتها الانفعالية المختلفة وهذه أبرز سمات الشعر الغنائي واعتماده على ” خواطر الشاعر ومشاعره من حيث هو فرد واحد بذاته “هذا التكون اللحظي -كما أشرنا- يتشكل بفعل حدس وخيال الشاعر ومتلقيه وما يرشح عن النص من دلالات عبر عمليات ترميز ومحاور استبدال بفصل البنية عن المعنى لإظهار قدرة اللفظ على إحالتنا إلى شئ ما خارجه، ولدريدا رأي في اشكالية الإحالة هذه فهو يرى” اللغة نشاطا بنائيا لا يخضع لسيطرة الذهن الواعي بل يتبع قوانين اللاوعي “ويدعونا دريدا إلى بنى تصورية تفوق أثر اللغة بجعلها “تفتقر إلى الاكتمال، والى التوحد، بلا نهاية ولا أصل ولا غاية، لا يقر لها قرار ولا تهدأ أبدًا”.
والشاعر يندفع بتأثير من اضطراباته الشعورية ليقف مع بودلير تحت سماء واحدة “تمضي تصب الظلمات فوق هذا العالم البارد التعس “بما يؤكد فكرة ان معاناة الانسان تدور في تاريخ متصل يبعث على الإحساس بالخطيئة التي تصل ما بين الأزمان وهي تتنافذ كما “الشعر الذي يولد من الشعر” بتعبير إمرسون. وقد يذكر هذا لضرورة إلغاء الواقع كمصدر لأصل الابداع،فالنصوص اكثر الهاما من الواقع والشاعر يحيلها إلى تراث تتنوع أصوله ما بين اسطورة وخرافة يمتد تأثيرها الدلالي إلى زمن الشاعر المعيش الذي ينشئ نصوصه من نصوص أخرى يستلهمها من أزمان بعيدة عبر تجربة تأملية تؤسس لنفسها اثرا شعريا مجاوزا لشكلانية الصور التي تضيع ملامحها حال حضورها دون رسوخها في اعماق النص، بقصدية اعادة كشفها باسلوب الهرمنيوطيقا – لتمارس فعلها التأويلي: ” جلس على الشرفة محاولا ان يستعيد وجودها ليملأ حواليه المقاعد الفارغة ” الفضاء هنا مؤثث بصور بدت شديدة الواقعية ولكنها تؤشر إلى نوع من فراغ زمني / مكاني خال من اي ملمح بشري غادر وجوده الحي “هذه البحيرة ليست ماء كانت شخصا تحدثت اليه طويلا ثم ذاب ولا احاول الان النظر إلى ماء بل استعادة شخص ذائب ” شخص كان يمثل ذاتا من ذواته المتعددة – فقدها بغتة: “ولا بد من ان أعيد شخصا كنت أحبه “والشاعر هو ذاته ذلك الشخص الذي كان يحبه والذي فقده ليسقط في ذات الفراغ الذي يسعى إلى ملئه ثانية بالشخص ذاته: “وصرت، عوض ان ابحث عنه، ابحث عني”. الصورة استعادت ملمحا ناقصا من تكوينها .. جعله أمام هذا التحدي المستحيل، يصرخ الشاعر فيمن يتخيلهم أحياء وهو في هذيان محموم أفقده توازنه:
“على الاحياء ان يعودوا اذا ناديتهم عليهم ان يعودوا ولو كانوا ماء لو كانوا امواتا لو كانوا طحلبا على الطحلب ان يصير انسانا حين تستدعيه ويأتي لو مبللا لو مترهلا لو عفنا عليه ان يعود صديقا ولو مات منذ الف عام”
يدعونا إلى الدخول في طقس روحي يفصل الوجود عن اللاوجود – كل في وحدته ووحشته ..في حالة غياب وتماه مع مجهول يرى الشاعر فيه نفسه ذواتا متعددة تفقد نفسها ؛ تهيم في فضاء من اوهام تدفع إلى ان تتلبس قرائنه صورا شائهة تدعو ” للخروج من دائرة الذات” بفعل النيرفانا /العدم الذي يقاومه بأرتحاله أبدًا في المغلق من الاماكن والمقطوع من الطرق التي رمته فيها الاقدار وهذا يفسر بغموض سبب بحثه عن الاخر الذي يتماهى في اسماء وصفات لمن عرفهم وفقدهم وبات يراهم اشباحا في عوالمه الشعرية التي يتخيلها ” تمر من وجود مغلق وصامت إلى حالة ناطقة “بتعبير بارت،لانه باستعادة ذكراهم يمر بحالة نفي يتكرر حضورها دون معنى لوجود وهمي يتمثل للشاعر الذي يتلبسه الذعر بلعنة الوجود – منطلقا من إحساس عميق بالخذلان يجرد كلماته من جماليات يضيق بزيفها ويعلنها هكذا عارية سوى من حقائق قاسية، معلنا يأسه وقنوطه وبأنه كائن ” لا زمني، بل هو أثر ما لشخص ما “فالشعر عند وديع سعادة انتزاع من المستحيل ؛ حركة تتجاوز مديات الواقع إلى ما هو متخيل تتماهى فيه الاشياء …..وعودة إلى مطلع النص: “كان شخصا تحدثت اليه طويلا،ثم ذاب ” بدا وكأنه يطل من اعماق مجهولة اختطفت منه شخصا اوقعته في غيبوبة صدمة ما ان افاق منها حتى استعاد وعي اللحظة التي حدث فيها الفقد /الزوال، لتشربه بحيرة كونية تتشكل اوراقا وغصونا تحث الشاعرعلى جمعها: “احاول الان جمع الاوراق والغصون احاول جمع شخص كنت احبه” اصبح محاصر بأقدار غريبة تجثم على الصدور تملأ حدود الابدية، فلا بداية ولا نهاية -بل هو القدر الذي يتكون وينحل في الان ..وسط منحنيات حادة تدور حول اوهام تبتلع وتقصي من نحب -فالاخر يغدو كائنا مفارقا يعمق الإحساس بالفقد لكل شئ ويرى هيدجر: “ان القلق هو الإحساس بضياع الاشياء، شعور بالعدم، انه اللاشئ الذي يحيط بي ويحيط بالعالم ”
ودوننا هذا المقطع المليء بالريبة والشاعر فيه مغمور بهذيانات تمزق وجوده: “اجري بطيئا وفوقي يصعد خيط مني وتحتي ينزل خيط مني أجري بطيئا بين ابرتين تخيطان عدمي … هل انا الباحث عن شخص ذائب ام انا الذائب ؟ ام اني من كثرة البحث عن ذوبانه ذبت مثله ؟ أجري بطيئا زاحفا مثل اخر نقطة ماء نزلت وتأخرت عن السيل أجري بطيئا زاحفا للالتحاق بالجريان واتبخر رويدا رويدا لن اصل بعضي سيصير في الفضاء وبعضي سيغرق في الارض تاخرت عن رفاقي ولن اصل ازحف لكني لن اصل قطع مني افقدها وقطع ترافقني منهكة وقطع تصير هباء حتى اذا وصلت اي شئ مني سيصل ؟ ارى على الطريق اشخاصا عابرين بعض ما بقي مني يرى اشخاصا هؤلاء على الارجح لم يفقدوا شخصا احبوه أو انهم فقدوه ومع ذلك يكملون الطريق ؟ ! “ هذا الحرمان القدري الذي لا يرد والمستحكم بحركة الاشياء والزمن …يجعل الشاعر يتجرد من ذاته الاخرى، وما ان يشعر بهذا الفقد حتى تضطرب روحه ويصبح منقسما على ذاته لوعة ومرارة وألم الفراق على الأحبة ممن ضاعوا بين الاصوات والأصداء التي تتردد بين جنبات روحه الاسيانة: ” لن يتم أبدًا جمع شخص لن يتم جمع اعضاء كاملة كثير منها احترق … لا اعرف كيف لا تتوقف ارجلنا عن المشي حين نفقد شخصا نحبه الم نكن نمشي لا على قدمينا بل على قدميه ؟ الم تكن النزهة كلها من اجله؟ الم يكن هو النزهة ؟ كيف يمشي واحد اذا فقد شخصا ! انا…حين فقدت شخصا، توقفت كان هو الماشي وانا تابعه كنت الماشي فيه. وحين توقف، لم تعد لي قدمان . ” هذا التمويه الذي تختلط فيه الذكريات – حلوها ومرها- مع رماد الماساة لعوالم مختلة، تروع من يرتادها باحثا أو متقصيا لحيوات اضحت اشباحا / عدما بعد ان كنا ” نمشي لا على اقدامنا بل على قدميه – كان هو النزهة – كنت الماشي فيه – وحين توقف، لم تعد لي قدمان – لن يتم جمع اعضاء كاملة كثير منها احترق، ومع ذلك لا بد من ان اعيد شخصا … كنت احبههاجس الاشتباك مع حيوات أخرى صاروا غرباء عنه ..ترعبه فكرة العزلة والوحدة، تحيله إلى كائن تتلبسه اوهام الوجود محاط بأناس تتنافذ في خلاياه ومفاصل كيانه:
” اناس كثيرون يعبرون الان بين مفاصلي، لا اعرف من اين يأتون،، ولا إلى اين يذهبون،، لكنهم يرتطمون بعظامي .. اناس التقيتهم مرة،، ناس التقيتهم مرات وناس لم التقهم ….. لكنهم يتدفقون الان، ويدقون على عظامي علي ان افتح هذه العظام لكي يدخلوا، لو كانت هذه العظام بابا ! من اين جاؤوا ؟! اظن ان الذين ننظر اليهم يدخلون في اجسادنا عبر عيوننا، ويصيرون دما ولحما، وبعضهم يصير من المارة التائهين بين مفاصلنا، ونستمر …..هكذا … نسمع طرقات على عظامنا اني اسمع الان …دقات ماء، وعلي ان افتح ….”
هل الشاعر في محنة قبول أو رفض لفكرة القرين أم هو في” استغراق الذات في الوجود مع الاخرين، إلى الحد الذي تقتدي فيه باللغو، والفضول والالتباس “أم هو الاغتراب استغرق الشاعر في وحدته وعزلته،، ويبدو الاغتراب في نصوصه نوع من الانحلال- يحاصره حتى يضطره إلى مغادرة ذاته بحثا عن ظل لها: “ولكن ماذا يحدث حين يزول صانع الظل؟ ويفقد الطريق “مشهد تتداخل فيه الصور وهي تتفلت من غاياتها لتضيع في رهاب المتاهة عاجزة عن استدراك دلالاتها: ” بعد ما قال وداعا وخرج بقي منه ظل صغير تصنعه لمبة البيت، فمشى وراءه اجتاز عتبة البوابة ثم فجأة اطفأوا الضوء، ففقد طريقه، في الصباح حين فتحت الخادمة النافذة، رأت ظلا ينام وحده على الأسفلت”
يبدو الشاعر كائن يتأرجح بين اوهام الجسد وظله، في إحساس فاقد لحالة التماثل السلبي ..تتجسد في مقاطع من نصوصه ..تطغى عليها اوصاف فارقة: -“باليد التي خرجت مني إلى ذراع أخرى ” -” في يدي يوم قتيل واريد ان ادفنه في هدوء -” الرمل يقف وحده وأحيانًا تخرج له الاسماك حجرا ليجلس عليه ” -” ورميت خطواتي في النهر، لاغسل عني الفضاء” وفي مقطع شديد التكثيف وكأنه ضربة قدر، يشعرك بأنه مختلف عن ذاته ..ويراها خارج مدى الرؤية تعمل بطرق التراسل الخفي مع مجهول بشي بفقدها (الذات): “اسبل اصابع يده وعد اسماء موتاه، وعد اصابع يده الاخرى، اضاف عدد الالوان حواليه، غصون الشجرة امام البيت، نبات الدرب اوراق الغابة …. وقبل ان ينام اضاف اسمه ” هو كينونة وجود مع اخر معرض للإلغاء / النفي هو أو الأخر كلاهما في حكم المنفي حتى الكلام ” والشاعر لا يكون إلا باللغة ” مسكون بوجود الذات والأخر جسدا واحدا: ” كنت اريد شيئا يطير، شيئا يخرج من النافذة، لم يكن لي جسد، لكن شيئا غريبا كان يلتصق بي، هل كان ذلك الغريب جسدي” الاغتراب صار مختلف لأنه ” على هذا النحو ليس انفصالا تاما بين الذات وذاتها لأن الذات لا زالت تتحرك بأكملها داخل نفسها ” حسن حماد، الانسان وحيدا- ” وكنا، أنت وأنا، في جبهتين علينا ان نتقاتل بشراسة، وان نتفاوض بخداع، ولم نصل إلى سلام، ولا إلى هدنة ” جبهتين تحفظ لكليهما ذواتهما – عبر صراع يكشف زيف الوجود الذي القى بهما في هذا الكون – فالشاعر يهرب ” من واقعة الموت بالأندماج في الاخرين، وبالتالي فأنه يفقد تفرده وتميزه ويغترب عن وجوده الاصيل.
” ويكون الشاعر وديع سعادة في فراغ يتعذر معه الكلام والتواصل والتراسل ليصبح مع نفسه دون ذاته /الأخر يدور حول وجوده في شتات تتجاذبه الكلمات واصواتها بلا أخر: ” ليس عندي ما اقوله، فقط اريد ان اتكلم، ان اصنع جسرا من الاصوات يوصلني بنفسي، ضفتان متباعدتان احاول وصلهما بصوت، الكلمات اصوات، اصوات لا غير، هكذا هي الان، هكذا كانت دائما،اصوات لا نوجهها إلى احد، نحن لا نكلم الاخرين،نكلم فقط انفسنا، الاخرون شئ بعيد وغريب، لا نراه ولا نعرف، وتفقريبا ليس موجود، لم يكن الكلام غير عزلة،لم يكن غير صمت … ومع ذلك اريد ان اتكلم، ان اكرر عزلتي …… ولكن، ماذا يقول لنفسه وهو ميت “ بدا الشاعر محكوما باﻻخر، وهذا المتغير الانفعالي ما بين الصوت الداخلي (مع الذات) والصوت الخارجي مع الاخر / المختلف – يلتقي هذا التضاد مع موقف انفصام .. لان هذه الذات التي اجترحها الشاعر قرينة لذاته، تكون في حالة استدراك دائم لاثارها في ذاته ؛ فهي تتماهى فيه قسرا فاقدة لغتها ؛ رغم تفاعلها السلبي الذي يقيم حاجزا بينهما: ” دعني اذن اتحدث اليك، اسمع صوتي، صوتي من هذا المكان، الذي هو صوتك من المكان الآخر ” والصوت هنا رغم دلالته التراسلية بين الداخل والخارج إلا ان اختلافه وتقاطعه يحول دون اي التقاء وتفاهم …. ويبدو الصمت هو ما يطلقه الكلام صورا مفزعة تجوب في متاهات الاصوات والاصداء متأثرة بأنفعالات ما يطرحه الشاعر من اسئلة فناء الذاكرة ومفارقة الماضي واستحضاره شعريا في حاضر اشد حلكة وشقاء تجعل من ذاته مطلة حائرة: “على الحافة … بين الداخل والخارج؛ على الحدود التي ليست لأحد …. وحينذاك نظرت إليك نظرتي الأولى، كمن ينظر في الصباح إلى مراة …ويمشي“. ثمة مسافة يضعها الشاعر بين الكلمة وصداها …وهما يتبادلان مواقع التأثير انطلاقا من بؤر تلتقي فيها تناقضات تجربة الشاعر عبر استحضار ذكرياته بلمسة شعرية فارقة تحدد صورا للوعي في حالة تذكر ونسيان.. ” بحضور الانسان الدائم امام عيني ذاته” برؤية كامو . ” الذاكرة التي اوصدت وراءها الباب، والنسيان الواقف على العتبة …. واكتب كي اتذكر جسد هذا الروح، كي اتذكر ان كان لي جسد، ….. كي اتذكر بالاحرى ان ما كان لي هو وبر لا جسد، واني لم افعل طوال أيامي سوى البحث عن جسدي، يخالجني أحيانًا شعور بأن البشر يعيشون بل جسد، يستمرون بالحياة ما داموا يبحثون عن جسدهم، وحين ييأسون من العثور عليه ..يموتون، انا نفسي، عشت بل جسد،وكنت طافحا بالروح ؛ لكني كنت بل جسد .. بحث روحي عن جسدي طويلا،، وظل وحيدا ظل هباء .. روحا يابسا يبحث عن قطرة .. وحين رمى نفسه من النافذة كان فقط لرؤية قطرة دم … لكن قطرة الدم ظلت فوق،على الحافة، بين الداخل والخارج،على الحدود التي ليست لأحد …” ولا يجد الشاعر وديع سعادة سبيلا للبحث وان عاش متخيلا موته …الا انه يختار فعل الاختباء من نفسه حبيس الألم والوحدة في عتمة النفس،، فالداخل عنده يحمله على تجاهل الخارج بكل مظاهر جماله وشقاءه ….ليبقى عالقا بين صوت الشعر واصداء مرارته .
…………..
* ناقد عراقي