عبد الهادي المهادي
لاحظ أن أحفاده الصغار لا يُتعبهم لعبٌ ولا تهدّهم كثرة حركة مهما تطاول انغماسهم في زمانها. نسي أيام طفولته وشغبها، يوم كان لا يدخل إلى البيت إلا إذا عضّه الجوع، أو مجرورا من أذنه بعد شكوى أحد زملائه في الحي. وما أكثر المرّات التي هرب فيها من عِـقاب والده وهو يسمع صراخه من ورائه: “سِيرْ أوْليدي، الطَّـيْـفُـورْ يْـجِـيـبْك” (1) !
حدّث نفسه ذات صباح قائلا: سوف أجاري هؤلاء الشياطين الصغار في لَهْوِهِمْ طَوَالَ هذا اليوم.
ظَهر الِبشر على مُحيّاه قبل أن يضيف في نشوة: إنها تجربة، وتستحق المحاولة، ولن أخسر شيئا.
ارتقوا فوق كتفيْه، عضّوا أذنيه حتى سال لعابهم دافئا على عنقه، رفسوا بطنه بأقدامهم الصغيرة، تلاعبوا بطربوشه، شكّلوا شعر لحيته حسب صور شخصياتهم المحبّبة في أفلام الكارتون، غطّوا رأسه بـقُبّ جلبابه… وبال أصغرهم في حِجْرِه.
مساءً، وقُبيل أذان المغرب، كان كلّ واحد من الصّبية مُلقى في زاوية من المنزل في وضعية مختلفة؛ لقد غافلهم النوم وتمكّن من حصدهم وهم يلعبون.
أُذِّن للمغرب في مسجد الحي، وانتظره أبناؤه لمصاحبته للصلاة وقراءة الحزب الراتب؛ اليوم يختمون بـ”حزب سبّح” الذي يعشقه، لأنه الوحيد الذي يحفظ سوره ويشارك في قراءته، ولكنه لم ينزل. كانت الحياة قد غادرته بعد أن عَبّ كلّ ما بقي فيها من حظه. وجدوه متّكئا على حائط وبيده سبحته الأثيرة، وابتسامة الرضى مرسومة ببهاء على ثغره.
…………
(1) الطَّـيْـفُـورْ: كناية عن مائدة الطعام.