وحيد الطويلة في “سنوات النمش”.. الانتصار للمقهورين وللحرية

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أحمد السملاوي

إذا كان ماركيز قد صنع قريته الخاصة بسحرها وقهر البشر فيها وبأزماتها في رواية مئة عام من العزلة، فإن وحيد الطويلة قد صنع قريته الخاصة بعبقرية فريدة في رواية “ٍسنوات النمش” الصادرة أخيراً؛ لذلك قد تبدو قريته وشخوصه أقرب إلى أسطورة يتداخل فيها الواقع.

يمكنك بسهولة منذ الصفحة الأولى اكتشاف أنك أمام قرية غير تقليدية لم تقدم في الأدب من قبل ولم يتم تناولها من تلك الزاوية لا في أدب خيري شلبي ولا كمال رحيم ولا عادل عصمت ولا الكثيرين من الذين كتبوا عن الريف في مشاريع أدبية، فالطويلة يكتشف لنا أرضا مجهولة وأشخاصا طي النسيان ينفض عنهم التراب ويستعيدهم من الذاكرة بالتفاصيل الحميمية التي تحول الأشخاص من مجرد شخصيات متخيلة أو مستدعاة من الماضي إلى شخصيات حقيقية من لحم ودم. إذ تبدو من تلك التفاصيل بأنه يحمل ريفه القديم تحت جلده وفي شرايينه.

 نا ابن هذا الريف الذي كتب عنه في سنوات النمش، ابن تلك التفاصيل ولو لم أعشها وأحضر هذا الزمان بقهره وسحره، وبساطته حينًا وتعقيده حينًا آخر. إذ إن تلك الرواية شديدة العمق والسحر، يقدم لنا الطويلة الريف كما لم نشاهده من قبل: ريف الأسطورة والحكايات والأجيال المتعاقبة، صوت المطر وبلله، وتجاعيد وجه العجائز، وضحكة المقهورين الباحثين عن لحظات الفرح. استدعى الكاتب هنا، بميزان حساس عبر التنقيب في الذاكرة، تفاصيل طفولة تقف أمامها حائرًا وتتساءل: هل هي أيام سعيدة أم أيام قاسية؟ ولأن سحر الرواية يكمن في ورطتها، فإنه منذ الحرف الأول والمشهد الأول تتحول إلى شريك فاعل في قلب الحدث.

تُعد رواية “سنوات النمش” واحدة من الأعمال الأدبية التي تأخذ القارئ إلى عوالم تتسم بالسحر والعمق الإنساني. من خلال سرد يمزج بين الواقعية والأسطورة، يقدم وحيد الطويلة رؤيته الخاصة للريف المصري، حيث تتشابك التفاصيل اليومية مع الأساطير لتخلق عالماً موازياً ينبض بالحياة. الرواية ليست مجرد حكاية عن قرية أو شخصيات، بل هي شهادة على صراع الإنسان مع القهر والجوع، وسعيه الدائم نحو الحرية.

تتميز لغة الطويلة بالثراء التعبيري والعمق النفسي. فهو لا يقتصر على الوصف السطحي، بل يتوغل في أعماق الشخصيات ليكشف عن تناقضاتها وآمالها المجهضة. تنساب لغته كسيمفونية متقنة، تحمل القارئ بين صور شعرية دقيقة وأصوات الريف الحية. أسلوبه السردي يخرج عن القوالب التقليدية، إذ يعتمد على بنية متشابكة، تندمج فيها الحكايات لتشكيل نسيج سردي متكامل.

الشخصيات في الرواية ليست مجرد أدوات لتحريك الأحداث، بل هي كائنات حية تحمل معها إرث القهر والأمل. عبر حكاياتهم المتضافرة، يرسم الطويلة صورة شاملة عن القرية ككائن حي يعاني من أوجاع التاريخ ويأمل في الخلاص. ومن اللافت أن الكاتب يرفض الشكل النمطي للبناء الروائي، متلاعبًا بالقوانين التقليدية ليخلق عالماً سردياً خاصاً. هذا الأسلوب يضع القارئ في قلب الحدث، ويجعله شريكًا في معاناة الشخصيات وأحلامهم.

القهر والحرية هما المحوران الرئيسيان للرواية، إذ يُظهر الطويلة، بمهارة، كيف أن الإنسان في مواجهة القهر يسعى دوماً للبحث عن لحظات فرح ولو عابرة. الرواية ليست فقط سرداً لمأساة المقهورين، بل هي أيضاً دعوة للتفكير في أسباب هذا القهر ودور الحرية في تجاوزه.

ما يجعل سنوات النمش عملاً مميزاً هو قدرة الطويلة على استحضار ذكريات طفولة مليئة بالتناقضات. القرية التي يصورها ليست مجرد مكان، بل هي رمز لعالم يسوده التعقيد والبساطة معاً، القسوة والسحر، الضحك والدموع. من خلال هذا المزج، يخلق الطويلة نصاً إنسانياً عالمياً، يعكس تجارب مشتركة تتجاوز حدود المكان. فلا يمكن اختصار المكان أو المأساة كونهما يخصان قرية صغيرة في ريف مصر، بل تتحول الحكاية إلى أزمة الإنسان في كل مكان وبيئة تتعرض لمأساة مشابهة. ما جعل النص يخاطب وجدان قارئه وينبش التفاصيل التي تحيل ما هو شخصي إلى عام، وما هو عام إلى شخصي. فتتحول لحظات البشر وحيواتهم داخل تلك القرية المأزومة إلى معزوفة حزينة يتردد صداها.

يعرف الطويلة كيف يصنع من التفاصيل الصغيرة هرمًا شامخًا من حكايات البشر. فالرواية لا تحكي الحكاية من زاوية العادي أو التقليدي كما يحكيها أي شيخ هرم على مصطبة في قرية نائية، بل ينزع عنها قشورها ليصل إلى الجوهر، حيث تتحول الحكاية من ذاتية إلى همّ عام جمعي. بين سطور تلك الحكايات، يمرر الكاتب صوته، أسئلته، وأحياناً أحلامه وهواجسه، وروحه المرحة وسخريته من العالم حيناً آخر.

قد تحيرك رواية سنوات النمش في تصنيفها: هل هي سيرة ذاتية زينها وزخرفها الخيال، أم أنها فانتازيا الواقع التي فاقت التصورات؟ سنوات النمش ليست مجرد رواية عن الريف المصري، بل هي عمل أدبي يتحدى القارئ للتأمل في أسئلة إنسانية عميقة تتعلق بالقهر، الحرية، والمصير. من خلال لغته الشعرية وأسلوبيه الفريد، يقدم وحيد الطويلة شهادة على قدرة الأدب على أن يكون أداة مقاومة وإلهام في آنٍ واحد. الرواية دعوة مفتوحة لفهم الإنسان، بمآسيه وآماله، ورؤية العالم من منظور جديد.

مقالات من نفس القسم