عن المُغنِّى الذى قصده هو: رأيته مغنٍ متجوِّل، لا يظهر إلا ليلاً، يجول الشوارع والمقاهى، يُغنِّى بصوت حُرّ، دون موسيقا، أو ربما تصاحبه آلة موسيقية واحدة، أظنها “الكمان”، لا يعزف عليها بنفسه، وإنما تأتى موسيقاها من مكان قريب، مجهول، كأنها تتبعه، هكذا رأيته، مُغَنٍ، وليس مُطربًا، المُغنِّى أكثر حيوية وتفاعلاً، فَرَحًا وألمًا، كما أن الغناء له علاقة مباشرة باللذَّة الحسيَّة، ولهذه اللذَّة ارتباط بكتابة “وحيد”، سأتحدث عن هذا بعد قليل.
هذا المُغنِّى المتجوِّل، يحتاج إلى مساحة أكبر من الحرية، والعالم، كى ينطلق، ويتلألأ، وهذا ما ينطبق على كتابة “وحيد”، هى تحتاج، بالدرجة الأولى، مساحة كبيرة من العالم، وشخصياتها حُرَّة، منطلقة، لها جُمُوح، حاضرة بلذَّة الجسد والروح، فى لغة أراها مثل طائر خرافى، مُتعدِّد الأجنحة، يحتاج لأجنحته سماءً مفتوحة، ستكون أحيانًا ملأى بالأمطار والرعود، وأخرى صافية، رائقة، وأوضح ما يكون هذا فى “ألعاب الهوى”، و”أحمر خفيف”.
هى كتابة ذات شهوة، مُقبِلَة على الحياة والموت معًا، مثلما يندفع قطيع من حيوانات ظمأى تجاه النهر، حيوانات بها مزيج خاص من الوحوشية والشاعريَّة.
هناك ثلاثة عناصر من القوة فى كتابة “وحيد”: اللغة، الشخصيات، وحضور اللذَّة الحِسيَّة، العنصران الأول والثانى (اللغة، والشخصيات) من المُتوقَّع أنه يتعمَّد “الاشتغال” على تفاصيلهما جدًا، وربما لا، أحيانًا، أو ليس “الاشتغال” نفسه كل مرة، لكن العنصر الثالث: اللذَّة الحسيَّة، أتوقَّع بشكل كبير، أنها شىء فى طبيعة كتابته، ضِمن تركيبها الچينى، لا يمكنها هى نفسها التخلص منها، ومؤكَّد أنها لا تريد ذلك.
لغة “وحيد الطويلة” تُمرِّر لك تلك اللذَّة، وأحيانًا تضرب بها قلبك، بعد أن تنتهى من قراءة روايته، ستظلُّ هذه اللذَّة معك، فى وجدانك، تشعر بها أثناء القراءة مثل كائن حىّ، وحشىّ، شاعرىّ، يعيش بين السطور، يتقافز، يجرى، يختبئ قليلاً لكنك تشعر بأنفاسه، نظرة عينيه، وتشمُّ رائحته، يمرُّ أحيانًا مثل نسيم، وأخرى يكتسح كإعصار.
“وحيد” صانع شخصيات من الطراز الأول، أغلب شخصياته تبقى حاضرة معك بعد القراءة، ربما تنسى أسماء بعضها مع الوقت، لكنك لن تنسى إحساسك بها وقت قراءتك لها، وستظل تذكُر أن هذه الرواية، أو تلك، بها شخصيات حيَّة، أحبَبْتَها، وغَنَّتْ غِنوتَها بداخلك.
وأنا أُحب نساء روايات “وحيد الطويلة”.
ستُحب أن تصادفهن فى حياة حقيقية، ورغم اختلافهن، هناك شىء يجمع بينهن، أظن أنه شىء يخصُّ الفكرة الُمطلَقَة داخل “المرأة”، فى أغلب الأحيان هى شخصية قوية، فاعلة، حتى فى لحظات انكسارها، دون أن تتضمن قوتها أفعالاً، مصطلحات، أو شعارات “نسويَّة”، لغته تخلو، حتى الآن على الأقل، من تلك المفردات، وشخصياته النسائية فى حالة استغناء عنها، فخورة بنفسها، ليست فى حاجة لإثبات وجودها من خلال شعارات، هى متجاوزة لذلك بطبيعتها، ورؤيتها لفكرة المرأة بداخلها.
تشعر فى أغلب شخصياته النسائية بتوهُّج خاص، أنها فرصة جديدة للحياة، وهذا الحضور الجسدى، الأنثوى، الذى يحدث بطبيعيَّة، مثل أن تشعر بدفء الشمس بمجرد ظهورها، هى ليست بحاجة أن تفعل شيئًا غير أن تحضر.
تظهر المرأة فى مشهد ما، فيحدث ما يحدث، يبدو الأمر وكأنك تمشى فى شارع فيتحوَّل فجأة إلى مهرجان من الفَرَح، والبهجة، والمزيكا، هو، الكاتب، سعيد بشكل شخصى لأن المرأة ظهرَتْ فى مشهد يكتبه.
لغة “وحيد” واضحة، ليست بها مفردات عجائبية، أو غريبة، فى الوقت نفسه لها خصوصيتها، وتشكيلاتها، هى كائن حىّ له مجال من الطاقة تشعر به بسهولة، لغة تُفضِّل أن تُوَجِّه طعناتٍ من وَضْع المواجهة أكثر من أن تراوغ، وبها شىء أسطورى فى معظم أحوالها، مثل أن تنظر إلى الليل، ولا يمكنك عندها أن تقول أنه عجائبى، فأنت تراه كل يوم، رغم ذلك فهو فى حقيقته عجائبى، تدور فيه غرائب، له بُعْد أسطورى، ومن الممكن أن يُخرِج لك عجائبه فى أيَّة لحظة، أنت تعرف هذا فيه، وتتوقَّعه.
أرى أن اللغة أنثى، وكلما صارت اللغة الأدبية أجمل، فإنها تصير أنثى أكثر، الأنثى الغابة، السماء، الأرض، الحياة، الأنثى الطبيعة، وفى كتابة “وحيد” لا مجال للتشكيك فى أن اللغة أنثى.
ستشعر أحيانًا أن بعض الجُمَل، كانت تحتاج مراجعة، كُتِبَتْ بشكل متسرِّع ولم يُنظَر إليها ثانية، ثم بعد قليل تفكر أنها ما كانت لتُكتَب بغير هذه الطريقة، كأنها ضربات ارتجاليَّة على مجموعة من آلات موسيقية دون “نوتة” مكتوبة مُسبقًا، ولو كانت “نوتة” لصار اللحن رتيبًا، وبلا طَعْم.
ثم، هناك تلك النقلة الكبيرة فى اللغة بين “ألعاب الهوى-أحمر أخفيف”، و”حذاء فيللينى”، وفى نقطة بينهما كانت “باب الليل”.
الحكاية، وهى أخت “الغُنا”، حاضرة دومًا فى كتابة “وحيد”، ينتصر لها، وبرأيى أن هذا جيِّد له، ولها، وإذا كان سِرّ أيَّة حكاية هو كيف تُحكَىَ، فالسرّ فى حكاية “وحيد الطويلة” هو اللغة الى تُكتب بها، لغته هى البحر الذى يُطلِق فيه قواربه، حوريَّاته، صيَّاديه، وأغنياته.
يضع كل كاتب من روحه فى كتابته، وأرى أن “وحيد” قد وضع الكثير من روحه بشكل خاص فى “ألعاب الهوى” و”أحمر خفيف”، كأن الشخصيات كانت صدى لروحه، أحلامه، وغُناه، تشعر فى الروايتين أنك أمام مجموعة من المُغنِّيين المتجوِّلين، كلٌ منهم أغنية بحدّ ذاته، ثم لكلٍ منهم أغنيته، وتُشكِّل أغنياتهم معًا أغنية واحدة، كلٌ منهم يطارد لونًا خاصًا فى الحياة، ويطارده هذا اللون، يعيشون جميعًا داخل تلك الحالة من “الغُنا”، وروح الكاتب المُغنِّى تتنقَّل بينهم، تتلبَّس هذا لبعض الوقت، ثم تنتقل إلى غيره، وتمنح كلاً منهم بعضًا منها.
يمكنك أن ترى الشخصيات فى هاتين الرواياتين مثل سرب طيور خرافيَّة يظهر مع بدايات الغروب، ويستمر فى الطيران طوال الليل دون توقف، الليل حيث يتلألأ “الغُنا”، وتفردُ اللذَّة أجنحتها، يمكنك أن تراهم مثل مجموعة من الآلات الموسيقية تعزف نفسَها بنفسِها، فتُشكِّلَ لحنًا لن تعرف إنْ كان ارتجاليًا أم له “نوتة” مكتوبة، وخلال عزفهم سيتفاعلون مع الجمهور، ويُقدِّم كلٌ منهم فقرة خاصة به، لن تخلو من شجن.
“وحيد”، وهذه الحالة من “الغُنا” للحياة، لنفسه، لكن هذا “الغُنا” أيضًا له حزنه، وشجنه الخاص، ويحتاج “غُنا” يُسلِّيه ويواسيه، فى الوقت نفسه هو لا يريد أن يُزعِج العالم، فكل مُغَنٍ متجوِّل لا يُغنِّى ألمه أبدًا بشكل علنى، قد يُلمِّح عنه، لكنه لا يكشف جرحه حتى لا يتبخَّر ألمه ويخسره، وتلك خسارة كبيرة لمن يعرف، ربما فقط من وقت لآخر، وفى آخر الليل، خلال تلك الدقائق الحالمة، يُغنِّى كل متجوِّل بعض حزنه، ألمه، فى زاوية صغيرة، لجمهور خاص، أو ربما يُغنِّيه من جديد “للغُنا”.
لطالما أحبَبْتُ المتجوِّلين: متشرِّدين، غَجَر، عُمَّالاً، مسافرين أبديين، موسيقيين، ومَشَّاءين.
أُفكر فى رواية يكتبها “وحيد”، لا أعرف متى، ربما هذا المساء، أو بعد مائة عام، وفيها يطير ذلك الطائر الخرافى مُتعدِّد الأجنحة، فى سماء ممتدة، تمتزج فيها كل المناخات والمواسم، يفتح الطائر أجنحته عن آخرها، لنرى كل ألوانه، ونسمع عجائب “غُناه”.