وجوه قاهرية*

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد جاد*

لقد كان الطريق واضحا.. ثم تشابكت الخيوط وتعقدت بشكل مذهل.. أو هكذا بدا الأمر قبل خمسة أعوام مضت .. وقت أن كنت غارقا وسط الجموع الهائلة على أعتاب ميدان التحرير .. وملامح تمثال طه حسين تنطمس أمامي تدريجيا تحت دخان الغاز الكثيف .

كنت أعتاد أن اتأمل في تماثيل الكُتاب المشهورين بنظرات خاطفة وأنا أعبر الميادين .. كشاب يمتهن الكتابة، في قلب مجتمع مشغول بالجدل حول الماضي أكثر من النظر إلى المستقبل .

من أوصلنا لهذا الحال ؟ يسأل كل عابر تحت تمثال الكاتب الشهير الذي وضع رسالة طويلة في الثلاثينات عن إصلاح التعليم .ويجتهد كل عابر في تقديم الإجابة .. كان لكل واحد قناع من الماضي يغلف وجهه، قناع عبد الناصر .. حسن البنا .. أنور السادات .. وفي كل وجه ملامح العالم المثالي الكامن في خياله.

الآن .. ينقشع الدخان تدريجيا، ووجه التمثال الحجري لازال محافظا على نظراته الجامدة .. بدا لي طه حسين بكل ما يمثله من نبوغ مجرد وثن جامد غير قادر على مواكبة هذه اللحظة الهائلة، فمن خلفه كانت تظهر عربات الشرطة وهي خاوية من الرجال، وشاب ملثم واقف أمامها يشير للجموع .. أعبروا في سلام إلى الميدان .. لقد انتصرنا .

 هكذا بدا الأمر واضحا وبسيطا في بدايته .. ثم تعقدت الخيوط بشكل مذهل .

 كل القصص التي تروى عني تبدأ من لحظة النهاية..عندما قررت إرتداء زي فارس ومنحت نفسي لقب دون كيشوت .

لم يجتهد أحدا لكي يكتشف لحظة البداية .. كيف انغمست في تلك القصص الخيالية عن عالم الفرسان ! ما هي اللحظة التي صارت فيها أفكار الكتب النظرية أهم عندي من حياة البشر ! لماذا لا أهتم بمتابعة مباريات الدوري، أو لم أخرج من سنوات الجامعة بقصة حب؟ كيف أصبحت مثقفا ؟

 انا نفسي أعجز عن تذكر لحظة البداية، ولكنني أنشغل بالتفكير فيها وانا أخوض معاركي ضد طواحين الهواء .. معارك هزلية لا أقدر على تجنبها .. بل وأخوضها بمنتهى الجدية .. هل يُعقل أن تكون الحياة مجرد طاحونة ودورات من الرتابة والملل ؟

 إن كنت قد عجزت عن فهم سر ولعي بتلك المعارك الهزلية .. فكل من يروون حكايتي قد عجزوا أيضا عن الإجابة على اسئلتي ..

 وإليكم هذا السؤال .. لو كان الحقل مزدهرا والطواحين تدور في سلام فلماذا لا يشعر الفلاحون بالسعادة؟ لماذا كل هذه التعاسة البادية في وجوههم .. لا بد وأن هناك ظلما قد وقع!.

سأحاول أن أتذكر القصة من البداية، قبل أن تلتصق بدلة الفرسان المعدنية بجسدي، وتغطي هذه الخوذة وجهي فأعجز حتى عن تقبيل يد حبيبتي الخيالية، دولسينا .

 ………………………………

لسبب أو لآخر بدأت رحلة العمل الصحفي في جريدة “الاقتصادي” والتي يتضح من اسمها طبيعة تخصصها، قادني أحد المعارف إلى أحمد ممدوح، رئيس قسم البنوك في الجريدة، كان شابا أربعينيا أصلع الرأس وله ابتسامة بشوشة، يبدو رجلا أنيقا وعمليا، ويشتهر في الجريدة بسيارته الرباعية باهظة الثمن .. ربما بدا آنذاك لطالب جامعي مثلي على أعتاب العشرينات نموذجا للصحفي الناجح.

قال أحمد ممدوح: ”أنت محظوظ بالعمل في جريدة متخصصة في شئون الاقتصاد، نحن هنا ندافع عن اقتصاد السوق الحر الذي يمنح الفرصة فقط للمجتهدين .. ويبدو لي أنك شاب مجتهد”.

أزاح نشرات البنك المركزي من على الكرسي المجاور له لكي أجلس :”إذا بدأت بالتخصص من الجامعة ستكون صحفيا محترفا يطلبه السوق بعد التخرج”.

شعرت بالارتياح لكلماته .. ومنحني الرجل اسمي المهني: “قل لي ما هو اسمك الثنائي”

– “أحمد السيد”

– “هذا اسم منتشر”

– “أحمد السيد عبد الحفيظ “

– “لدينا بالفعل صحفي اسمه أحمد عبد الحفيظ “

– “أحمد السيد عبد الحفيظ بلال”

– “هذا جيد .. أحمد بلال .. من المهم أن تختار اسما غير منتشر حتى تلفت نظر القراء”.

 ثم ناداني .. “بلال”، للحظات شعرت أنه ينادي شخصا أخر ، “سأحتاج منك قصة صحفية عن أسعار الفائدة .. لم يعلن البنك المركزي بعد عن قراره بشأن تحديد سعر الفائدة .. وهناك خلاف بين المصرفيين حول الأمر .. سأحتاج أن تزور مقرات البنوك المشهورة في وسط البلد وتسأل مديريها عن رأيهم في أسعار الفائدة”.

بدأت يومي مبكرا في حماس وشغف بالعمل الصحفي .. كان من أوائل أيام يوليو .. أول أيام إجازة الجامعة.

 بعد ساعتين فقط من اللف في وسط البلد ذهب حماسي والتصق القميص على جسدي من غزارة العرق، لم تكن الرطوبة فقط هي ما يزعجني .. ولكن ردود أفعال مسئولي البنوك كانت مفاجئة لي .. سألني أحدهم عن “كارنيه النقابة” وقال إنني معرضٌ للمسائلة بتهمة انتحال شخصية صحفي .. وقال آخر: “عفوا أنا لا أنوي تقديم إعلانات لجريدتكم” وسألته ما علاقة الإعلانات بسؤالي عن الفائدة ولكنه أنهى الحديث.

وآخرون لم يمنحوني فرصة للقائهم وتركوا السكرتيرات يمارسن معي كل حيل التطفيش: “الأستاذ في اجتماع .. سينتهي بعد أربعة او خمس ساعات .. تستطيع أن تترك رقم هاتفك وسنتصل بك”

شعرت باليأس .. وعندما مررت على سينما أوديون وجدتها تعرض فيلما لجيم كاري اسمه”أنا ونفسي وإيرين”، ألقيت بكل همومي في قاعة السينما المظلمة .. وأعجبني مشهد أصر فيه أحد شخصيات الفيلم على سؤال البطل عن تحقيق الشخصية .. فانفعل البطل وخلع البنطلون أمامه مهددا بكشف عورته وهو يصرخ”هل تريد تحقيق الشخصية .. هذا هو تحقيق الشخصية” ، ذكرني المشهد بمن كانوا يسألونني عن كارنيه النقابة.

…………………………………

 بعد أيام عدت إلى صالة تحرير الجريدة وأنا متحرج من لقاء أحمد ممدوح وقد فشلت في تنفيذ المطلوب مني، وبعد أن تصفحت الجريدة تفاجأت بحوار مطول للصحفي الأربعيني مع رئيس أحد البنوك الكبرى وهو يستفيض في شرح رأيه عن سياسة الفائدة .

جلست اتأمل في وجوه المترددين على صالة التحرير .. ما الذي يميزهم عني؟ لماذا أعجز عن إقناع الشخصيات المهمة بالحديث معي! و هم يحدثونهم في الهواتف ويطلبون مواعيد معهم بمنتهى السلاسة!

قبل أن أستسلم لفكرة أنني لا أصلح لمهنة الصحافة، نصحني زميل بالجامعة كان يتدرب أيضا في الجريدة بالتوجه لكريمة كمال رئيسة قسم التحقيقات .. قال إن التحقيقات تستغرق وقتا أطول في الإعداد لذا فالمشرفون عليها يهتمون بتدريب الصحفيين ويأخذون ويساعدوهم على تعلم أصول المهنة .

وجدتها تجلس في ركن منعزل عن صخب صالة التحرير .. كانت في عمر أحمد ممدوح تقريبا، بدت لي صحفية محترفة قبل أن تكون إدارية بالجريدة، فقد كانت قادمة لتوها من مؤتمر صحفي، منغمسة في تحويل ملاحظاتها المدونة على طرف نوتة صغيرة إلى قصة صحفية تكتبها بمنتهى الاندماج على أوراق “الدشت” الصفراء وهي تدخن بشراهة .

جلست أمام كريمة في صمت حتى أنهت قصتها وسلمتها لسكرتير التحرير، الذي يقوم بدوره بوضعها على ماكيت الصفحة .. ثم طلبت كوبا كبيرا من القهوة وشعرت بالضجر لأن علبة السجائر قد انتهت فألقت في فمها علكة خضراء ..

 استمعت بتركيز لقصتي ثم ابتسمت وهي تعرض أمامي صفحة حوار أحمد ممدوح في الجريدة وتشير لعنوان يدافع فيه ضيف الحوار عن زيادة أسعار الفائدة

-“هل تعلم لماذا يدافع عن أسعار مرتفعة للفائدة؟ لأنه يستثمر بشراهة في ديون الحكومة .. هذا يزيد من أرباحه “.

 -“ ولماذا تحدث المسئول مع أحمد ممدوح وأغلق الباب في وجهي؟”

 – “انظر أسفل الحوار

هذا إعلان للبنك !”

-“ بالضبط رئيس البنك لا يريد أن يدفع مرتين يريد أن يمرر آراءه مقابل إعلان واحد فقط”.

– التقطت الصحيفة من يدها وعدت بظهري للوراء وأنا اتأملها في دهشة: “هل تقصدين أنهم يتعاملون مع أحمد ممدوح على أنه مندوبهم في الجريدة”.

-قالت في سخرية :”هذا هو اقتصاد السوق الحر الذي حدثك عنه “.

 – “حضرتك شيوعية؟”

  “لا أحب الشيوعيين أنا ناصرية”.

 – “وهل يتكرر نفس الأمر في باقي الاقسام ؟ ماذا عن قسم البترول مثلا؟”

 – “لك أن تتخيل حجم الأموال في هذا القطاع لتدرك حجم الفساد الصحفي فيه

 – “ووزارة المالية؟”

 – “يا أحمد هذه هي الوزارة التي تجمع الضرائب من كل الجهات

 – “حتى وزارة التجارة؟”

 -“هذه لا توزع إعلانات للصحفيين .. ولكنها تمنحهم فرص للسفر حول العالم، فوزية حسين يمكن أن تغتالك إذا أخذت منها فرصة واحدة للسفر، فهي تعشق الشوبنج في أسواق أوروبا”.

 لاحظت الإحباط الشديد على ملامحي فسألتني:”هل تريد أن تكتب عن الحقيقة مقابل راتب متواضع ب 500 جنيه في الشهر؟” أشرت برأسي موافقا فأكملت “عظيم اتعب معي شوية وأعدك أن أمنحك هذه الفرصة بعد سنة”.

ثم سألتها عن مشكلة الكارنيه فقالت إنها شخصيا لم تُقيد في النقابة قبل عشر سنوات من العمل “المهم ثقتك في نفسك يا أحمد .. الكارنيه لا يصنع صحفي” ونفخت في ضجر وهي تبحث بحركة عفوية في علبتها الفارغة عن سيجارة “نفسي الشباب ينشفوا شوية”.

…………………………..

كانت خالتي هالة تتأمل غلاف شوكولاتة روكيت وكأنها تراه لأول مرة .. السيجارة تحترق على طرف كفها الأيسر وساقاها مرفوعتان ومائلتان فوق الأريكة الكلاسيكية في صالون بيتنا.. بينما تقبض يدها اليمنى على الجائزة الصغيرة التي تنتظرها في كل زيارة لمصر.

 كان الغلاف الأخضر ووجه الصبي المرسوم بالزيت يمثلان في نظرها قطعة صغيرة من حياتها في مصر قبل أن تهاجر مع زوجها لأمريكا في السبعينات.

تبحث أمي بدأب عن الشوكولاتة التي ينتجها القطاع العام قبل كل زيارة ولا تجدها إلا لدى موزعين محدودين.

سألتني خالتي رجاء وقد تجمعت العائلة كلها على الغذاء:”ستصوت لمن في انتخابات الرئاسة”.

– “لن أعطي صوتي لأحد فلا يوجد بين المتنافسين من ينتمي للتيار الذي أؤيده .. اليسار”.

وكنت قد بدأت اتأثر بتوجهات كريمة كمال في السياسة.

ظهر الانفعال الشديد على وجه خالتي رجاء وهي تربط رأسها من الصداع الملازم لها، كعادتها، ووجهها الأبيض مشبع بالحمرة.. هتفت في أمي وهي تمرق وسطنا بالصينية:” إلحقي يافاتن ابنك حيطلع شيوعي”

هتفت مدافعا عن نفسي: “لا أنا ناصري”..فقالت بلهجة تحد:”عبد الناصر كان شيوعي ولهذا عذب الإخوان ولا إيه يافاتن؟”.

وألقت أمي دعابتها الساخرة وهي تضع صينية الفاكهة على المائدة: “الواد طالع لأمه”.

تدخلت خالتي منيرة في الحديث: “فاكرة يافاتن إزاي كنتِ بتسمعي خطب عبد الناصر مرة واتنين وتلاتة .. زي ما يكون عبد الوهاب”.

ثم توجهت منيرة لنا بالحديث:”إعطوا صوتكم لأيمن نور ..أهو نغير كفاية عواجيز بقى”.

تتحيز خالتي منيرة دائما للشباب منذ أن تخطت الخمسين وبدأت تتحول لربة منزل زاهدة في الدنيا وما عليها.

 أكملت:” أنا أحب عبد الناصر أيضا لكن السادات عكها خالص .. هكذا قال أبصر إيه رزق اللي بيكتب في الجرنان .. دمه زي الشربات .. قال إن السادات هو الذي ألغى الإلزام بالمدتين في الرئاسة في الدستور”.

كانت خالتي منيرة تتابع في تلك الأيام مقالات الرأي في الصحف بانتظام، بالرغم من عدم اهتمامها بالسياسة لكنها تستأنس بكلمات الكُتاب في وحدتها وزوجها منشغل في عمله بمجال المقاولات، تشعر أنهم بمثابة اصدقاء لها يزورونها كل يوم في بيتها بحكاياتهم المثيرة عن حركة كفاية وسيناريو التوريث.

أما خالتي رجاء فهي تتابع منذ شبابها الأحوال السياسية باهتمام شديد، وإن لم تكن قد اشتغلت بالسياسة من قبل، كانت تخالف أمي في حبها لعبد الناصر وتشعر أنه رجل غادر مثل زوجها الذي تركها وطفليها من أجل امرأة أخرى ..

 كانت رجاء هي الأجمل بين أخواتها، بقوام ممشوق وشعر منسدل ووجه مستدير، لكنها قضت النصف الثاني من شبابها امرأة وحيدة تعكف على تربية أولادها وتدبر حياتها بالكاد مما يصل إليها من نفقات الزوج، ربما كانت قلة إخلاص زوجها هي السبب في وحدتها أو كونها سيدة عصبية لا تُحتمل، لكن المؤكد أن الماضي بكل ما يحمله من انتصارات وانهزامات بدا لها في هذه اللحظة قصة خيانة، وقد توحدت مع خطاب الإسلاميين عن مظالمهم في الحقبة الناصرية فشعرت أن قضيتهما واحدة.  

تركتني رجاء وهرعت تسمع أسماء مرشحي الرئاسة التي تعلن عنها اللجنة الانتخابية .. ثم استدارت لنا لتقول بطريقة استعراضية وهي تضع يديها في وسطها “تمثيلية”.

تحلق عدد من أطفال العائلة حول خالتي هالة التي كانت قد بدأت تقضم مكعبات الشيكولاتة مع فنجان القهوة الكثيف وسألوها “ما رأيك في عبد الناصر”.

– ” أحبه .. بيعرف يتكلم مش زي القفل دا .. ولكن أعيب عليه أنه أمم محلات الملابس .. ليس كل من يريد أن يلبس على الموضة من طبقة الأغنياء أعداء الثورة .. هناك بسطاء يضعون القرش على القرش من أجل الاستمتاع بالأناقة .. لماذا حرمنا من هذه المتع البسيطة؟”.

هاجرت هالة فور تخرجها من الجامعة، فتوقف الزمن في مصر في مخيلتها عند حقبة السبعينات، وصارت البلد عندها تتلخص في ذكريات الحقبة الناصرية بأفراحها وأوجاعها، تعيد تذكرها في جلسات الغذاء الدافئة مع أخواتها خلال زياراتها السريعة للبلاد.

في شبابها كانت تحلم بأن تكون إذاعية مشهورة، تقتحم ماسبيرو بأناقتها المعهودة وثقتها في ذكاءها التي كانت تستمدها من ولعها بأدوار فاتن حمامة في السينما، كانت تشبهها كثيرا خاصة مع نحافتها وقصر قامتها.

 ولكن صديقها الهيبي غير كل خططها عن المستقبل، وعدها في لحظات الحب بحرم الجامعة بأن يلفا العالم سويا بفضل وظيفة تنتظره بعد التخرج في شركة بترول دولية ستفتح لهما كل ابواب السفر.. ولم تقدر على مقاومة غواية الهجرة.

 لم يخب رهانها، فكل قطعة من ملابسها تحكي عن رحلة لمنطقة مبهرة في الكرة الأرضية، هذه البلوزة الباريسية وهذا الحذاء من الجلد الهندي وتصفيفة الشعر تلك تعلمتها في اسبانيا، تبدو الأكثر شبابا بين أخواتها اللاتي استسلمن لرعاية الزوج والأولاد وسيطرة الترهلات على ملامحهن.

وفي كل زيارة تعود هالة لأمي بسؤال عن أحوال السياسة في البلد، ولا تجد منها ردا غير أن السادات أفسد البلد ومن ساعتها لم تقم لها قائمة.

 ولكن هذه المرة توجهت لي بالسؤال، بعد انتهاء صخب الأخوات حول مائدة الطعام.

“سمعتك بتقول انك بقيت ناصري .. فيه شباب كتير ثوريين زيك؟ تفتكر ممكن حد ينجح أدام مبارك؟”

…………………………………………

عندما ارتديت نظارة بعدسات كبيرة قالت لي أمي:”صرت صورة طبق الأصل من جدك عبد المولى”.

يظهر جدي في الصور القديمة متجهما .. أو ربما تخفي النظارة ذات العدسات الكبيرة بريق عينيه .. حياته كانت تسير كالنهر الرائق .. بورجوازي صغير يمتلك مصنعا لفتائل المصابيح القديمة.. ويقضي أوقات فراغه في سماع الموسيقى أو تدخين الشيشة مع الأقارب في منزله.. عاش نصف حياته أعزب والنصف الثاني أرمل وبينهما سنوات قصيرة مع جدتي بهية التي اختطفها الموت في سن مبكر من بين أحبائها.

كانت أمي تتعلق بأبيها وهي في مطلع العمر .. ثم وجدت في الضابط الشاب الذي أطاح بالملك ملامح بطل آخر يحتل مكانة مماثلة للأب.. لكن عبد المولى كان ساخطا للغاية.. كيف يجرؤ هذا الشاب على إلغاء الأحزاب ومنع رجال السياسة من الكلام؟.

في رحلة عودة بالتاكسي من نزهة خلوية تطرق الأب في حديثه مع السائق إلى السياسة.. قال عبد المولى بصوت منفعل.. إنهم يختطفون الشبان من منازلهم .. أعرف واحدا أخذوه بدلا من أخيه .. هل تقوم دولتنا الجديدة على الخوف؟ ولاحظ أن السائق توقف فجأة عن الكلام أمام اندفاعه في الهجوم على ناصر دون أن يعبر عن تأييده أو رفضه للحديث، فشعرت الأسرة بالارتياب من رد فعل السائق .

ظلت فاتن طوال الليل تنظر من خلف الشيش، تترقب شيئا يحدث .. ظنت أن السائق كان يسجل كلام أبيها ليبلغه للبوليس، وأن زوار الفجر سيأتون لاختطاف أبيها .

لكن الليلة مرت بسلام، وفي الصباح  بدت فاتن وهي وسط العائلة على مائدة الإفطار كأنها تُقلب فكرة ما في رأسها، ثم قالت بعد صمت طويل “ربما ظن السائق أن أبي هو الذي كان يستدرجه في الكلام ليبلغ عنه البوليس .. لهذا سكت خوفا منه”.

سهرة أخرى لا تنساها أمي أبدا .. كانت في نادي للدبلوماسيين .. اصطحبها أحد أصدقاء العائلة للسهرة بعد أن أبلغها أن الرئيس سيحضر شخصيا وسيجلس على مائدة وسط الضيوف، كانت مشاهدة ناصر على الحقيقة بمثابة حلم لها.

جلست على مائدة قريبة من المكان المتوقع لمجلس الرئيس وقلبها يخفق في انتظار ظهوره بقامته الطويلة المُهابة.

 في تلك الأيام كان الأب قد رحل، ولم تبكِ فاتن بحرقة كما توقعت أخواتها، ابتلعت مرارة الفراق في صلابة مدهشة، وشغلت نفسها بالسياسة.

صعد ناصر إلى منصة تأميم القناة فوصل صوته إلى قلب الفتاة اليتيمة التي تداعبها أحلام المراهقة، وتنشغل بتربية أخواتها الصغار وهي شاردة في أخبار عالمها الكبير.

ومن يوم التأميم صارت فاتن هي الناطق الرسمي باسم الزعيم الجديد وسط العائلة.. تحفظ خطابات الرئيس عن ظهر قلب وترى نفسها جندية في معركة تأسيس مجتمعه الاشتراكي، أو مبشرة في أوساط عائلتها بعقيدته السياسية .

نقلتها السياسة إلى عالم جديد يتجاوز حدود بيت العائلة ومدرسة الراهبات الفرنسية ذات الطبيعة الصارمة .. فصارت تخوض معارك يومية صغيرة تراها شيئا موصولا بقضاياها الكبرى، كمعركتها مع الراهبات في المدرسة عندما أصرت أنها لن تتحدث الفرنسية في ساعة الإستراحة، لن تتكلم مع زميلاتها بغير لغة القومية العربية.

بدا الأمر مدهشا للراهبات عندما جاءتهم المعارضة من أكثر الفتيات التزاما، التي لا تنطق عينيها إلا بالطاعة ولا تزوغ يمينا ويسارا مثل باقي المراهقات للفت أنظار الصبية.

 وبعد التخرج صارت فاتن معروفة بين زملاءها في الجامعة بأنها الفتاة السمراء التي تلم شعرها للوراء غير مكترثة بأنوثتها، وتقرأ مقالات هيكل من الألف للياء، وإذا تجرأ أحد وسخر من دعايا السلطة سيدخل في مجادلة سياسية عنيفة، لن يخرج منها منتصرا.

قال الصديق بعد ساعة من الترقب : “للأسف الرئيس اعتذر عن الحضور”.. ضمت الشال على كتفين عاريين وظلت طوال السهرة تعلق عينيها على المقعد الخالي.

………………..

بعد عام تقريبا .. تلقيت مكالمة من زميلتنا ندى بالجريدة.. قالت إن مديرة التحرير شيرين الهواري تستدعيني للحضور لإمضاء عقد رسمي مع المؤسسة.

لم تكن شيرين وجها إعلاميا معروفا حتى ذلك الوقت.. لكن الوسط المهني يعرف عنها الجدية في العمل .. كما أن علاقاتها القوية في الحزب الوطني تجعلها قريبة من بعض الكبار مما يمنحها نفوذا خاصة في الوسط الإعلامي.

وقد كانت آنذاك تسعى لتعيين محررين شبان لضخ دماء جديدة تُحي الجريدة التي صار متوسط الأعمار فيها فوق الأربعين .. فقد كانت تراهن على الشباب لجلب الانفرادات التي تلفت الأنظار للجريدة .

دخلت صالة التحرير فوجدت الجميع متحلقين حول مائدة مفروش عليها بروفات عدد الغد.. وفي قلب الحشد تستطيع أن تميز شيرين بشعرها البني القصير وخط الدخان المنبعث من سيجارة تختنق بين أصابعها.

قالت: “اليوم تم الإعلان عن التشكيل الجديد للحكومة”، وكانت تشير لصفحة بها صورة بارزة لوزير التجارة “لا يكفي أن نتحدث عن قصة استقالته من مجموعته التجارية الضخمة من أجل الوزارة .. يجب أن نثير أسئلة حول تعارض المصالح .. ووزير الاستثمار أيضا، هذا وجه جديد يجب أن نقدمه للناس”.

قالت كريمة:”كنا نراه من قبل  في مؤتمرات الحزب الوطني”.

وعقبت شيرين:“كان (تِنك) ولا يتحدث إلا مع القليل من الصحفيين، ثم إن الرأي العام لا يعرفه”.

مرت شيرين ببصرها على كافة وجوه الحكومة الجديدة وقالت”هذه حكومة قوية .. هذا أمر لم نعتاده من قبل”.

………………………………………………….

على مدخل عمارة جروبي بميدان طلعت حرب، دائما ما يجلس رجلان بزي مدني تتوسم في وجهيهما أنهما من رجال الداخلية .. وفي قلب زحام الميدان تطل عليك من دور علوي بالعمارة لافتات تحمل شعارات معارضة للنظام .. حيث كان مقر حزب أيمن نور.

قالت شيرين بلهجتها التقريرية التي توحي دائما بأنها تذيع بيانا هاما: “من الآن علينا الاهتمام بالسياسة.. حتى تغطيتنا للاقتصاد تكون من زاوية السياسة .. البلد في حالة غليان”.

سمحت لي مهنتي أن أعبر حواجز رجال الأمن من دون (س) و (ج) وأن أدخل معاقل المعارضة المحاصرة بسيارات الشرطة المصفحة.

وكان اليوم هو موعد خروج أيمن نور من حبس احتياطي تواكب مع إعلانه نيته منافسة الرئيس في الانتخابات القادمة..اتفق كل من في الحزب على انتظاره عند باب الخروج وحمله على الأكتاف لمقر الحزب .. وما أن خرج الرجل حتى ابتلعته الحشود وسارت به في مظاهرة ضخمة لفتت كل الأنظار.. كنت مع الصحفيين نهرول للحاق بالمسيرة، وأمامنا رجل بصوت جهوري يهتف للمعارض السياسي الذي تحدى الرئيس وخرج سالما.

كان هذا اليوم هو أول تجلي لك يادولسينا.. لمحت وجهك النقي وسط الصحفيين وأنت تلهثين خلف المظاهرة .. تتعثرين في خطواتك المسرعة وأنتِ تسجلين هتافات المظاهرة  في مدونتكِ الصغيرة .. رأيت بوضوح نظرة المعاناة الممزوجة في عينيكِ بالحماس والشغف .. كنتِ كبريق شهاب مر في سماء مظلمة .. ثم اختفيتي من جديد .

ولكنني تركت نفسي لخيالي، فتصورت أننا تعارفنا وسط الزحام، ثم سرنا سويا بعيدا عن المسيرة نتبادل الحديث حول أحوال البلد، أما ما جرى في الواقع فهو أنني عدت لمنزلي في سيارة أحد أعضاء الحزب، تبرع لي بتوصيلة.

كان ثلاثيني بدين وخفيف الظل،صرنا أصدقاء بعد ليلة قضيتها مع أعضاء الحزب على رصيف النيابة وقت التحقيق مع أيمن نور.

تحدث طوال الطريق عن انتخابات البرلمان ودعمه لمرشح الحزب بالدائرة التي يسكن فيها .. حذرته من أن هذه الدائرة يحتكرها مسئول ثقيل في الحزب الوطني، فقال إنه رجل طاعن في السن: “سأنتظره في بير السلم وأقول له (بخ) فيسقط مغشيا عليه” ثم انطلق في ضحكاته المشبعة بحماس يوم من أيام الانتصار على مبارك.

………………………….

لم أعد أحتمل اجتماع الجريدة الأسبوعي .. ها نحن ننتظر الانتهاء من بروفات عدد الغد حتى نبدأ نفس سيناريو تلاكيك الجيل القديم من المحررين.. سيقول محمد شبل أنه سينفذ تكليفات بسيطة لأن “عِرق النسا” يمنعه من الحركة بسلاسة، وسيقول سيد التلباني أنه اقترب من سن الستين ولم يعد معقولا أن يأخذ راتبا مساويا لرواتب الشباب.

الحصيلة أن العبء الأكبر للعمل سيوزع على الشباب الثلاثة في قسم التحقيقات أنا وندى وشيماء.

وفي اليوم التالي سأجد ندى تهز رأسها، ذات الشعر القصير، بخفة وهي مندمجة مع أغاني نانسي عجرم .. هذه كانت طريقتها لمواجهة هذا الكم الرهيب من التكليفات .. فهي بجانب عملها في الجريدة تعتمد عليها شيرين ضمن فريق إعداد برنامجها التلفزيوني الجديد .. وشيرين لا تعرف الرحمة .. لن أندهش إذا وجدتها تطل من باب مكتبها وتطلب من ندى تحديد موعد مع بائع لبن العصفور.

شيماء، صاحبة الحجاب الاسبانش التي تتناثر الأوراق على مكتبها في فوضى رهيبة ولا ينتهي الصخب في المكان إلا برحيلها آخر النهار، كانت تعمل أيضا في كل من الجريدة والبرنامج ولكنها كانت تجيد عقد الصفقات.

ستلتقي شيماء بأي من زملاءنا الشبان في الجريدة وتسأله :”أين كنت؟”

-“في مؤتمر عن الضرائب”

-“عظيم .. أنا أعد تحقيقا عن الضرائب، اعطني بعض ما قاله الخبراء في المؤتمر لأنشره كحديث خاص”

– “والمقابل ؟

– “أنا ذاهبة لإجراء حوار مع رئيس هيئة الاستثمار، سأرسل لك بعض الأخبار لتعيد نشرها في سبوبة بعد الظهر .. قشطة؟”.

– “اتفقنا”.

ولكن .. الحق  أن محمد شبل جعل هذا الاجتماع بالتحديد غير تقليدي .. فقد أعلن في لحظاته الأولى أن لديه وقائع موثقة تثبت أن ما تنشره شيماء أسبوعيا هو مواد صحفية منشورة من قبل.. لقد اكتشف الرجل اللعبة !

وقف شبل يستعرض الوقائع وكأنه وكيل نيابة يترافع في جناية .. وبدت شيماء .. لأول مرة .. منكسرة وقد تكشفت صفقاتها .. لم يكن الخداع من طبعها .. كانت تتحايل لكي يصل دخلها الشهري لـ2000 جنيه  فتستطيع أن تسدد قسط السيارة الشهري.

 كانت السيارة الجديدة من مظاهر الترقي المفاجيء لشيماء المعروفة بأصولها الشعبية من حي العمرانية، وقد أثارت حولها نميمة كبيرة في الجريدة.

أنهى شبل مرافعته وطالب بتوقيع أقسى العقوبة .. فنظرت كريمة لشيماء بغضب وتوعد .. ثم عادت لشبل وقالت: “وماذا تنتظر من محرر يتقاضى 500 جنيه في الشهر .. نحن نعيد إنتاج هذا اللون من الصحافة مع كل جيل” وأطرقت برأسها وهي تنفخ بطريقتها وقت الغضب .

…………………………………………………..

رفعت عيني عن المجلدات القديمة .. وقلت إن تلك الطواحين التي تطحن الحبوب في الصباح تدور رحاها على عظام الفلاحين في المساء .. فقال حكيم الفلاحين معارضا “إن الطواحين رمز للسلام والاستقرار يا مغفل” .

………………………………………….

دخلت بصعوبة لقاعة الحريات في نقابة الصحفيين لألحق بندوة عن العمال المعتصمين أمام مجلس الوزراء ضد الخصخصة..رأيت كريمة تجلس في الصفوف الأولى ورؤساء النقابات يصافحونها باحترام شديد ثم يسردون لها حكايات الفصل التعسفي والمعاش المبكر ورجل الأعمال الذي اشترى الأصول العامة بثمن بخس وباعها كقطع الروبابيكيا .

بدأت الندوة بالكلمة الرئيسية لكاتبة الرأي شهيرة واصف، تهامس الحضور عن مقالاتها النارية في الصحيفة الرسمية بينما كان إيقاع صوتها الصارم يهيمن على المكان، بصراحة لم أكن أتابعها .. سألت كريمة همسا :”وهل يوجد شيء ناري في جرنان الحكومة!” قالت:”كلمة المعارضة في جرنان الحكومة بألف كلمة”.

كانت شهيرة صاحبة جسد ضئيل ولها طريقة كاريزمية في الخطابة، قالت وهي في ذروة انفعالها الخطابي”نحن أمام عملية تصفية كاملة للقطاع العام بدون أي ضمان لحقوق العاملين فيه” فصفق لها الحضور بحماس.

 بالنسبة لي كان كلامها مجرد إقرار لأمر واقع، وقد قفز لذهني مشهدا هزليا لرجل يحمل امرأته للطبيب وهي تصرخ من آلام الحمل فيقول له الطبيب بمنتهى البرود:”مبروك المدام حامل”.

طلب المداخلة عدد من الحاضرين، أحدهم طبيب والآخر مترجم وثالث لم يفصح عن مهنته، كلهم من جيل السيدة الخمسينية الجالسة على المنصة.. أثنى كل  واحد على كلمة شهيرة وأضاف واستفاض .

قالت كريمة وهي تمضغ علكتها الخضراء وأعينها معلقة على المنصة :”يبدو أن هناك توجيه داخل الحزب بالهجوم على الحكومة بلارحمة “.

-:”أي حزب ؟

-“الحزب الشيوعي السري”.

 -“ كيف يكون سريا وأنت تعرفينه ؟”.

 “هذا مجرد تخمين .. يجب أن أتضامن معهم” .. ثم قامت وأضافت واستفاضت هي الأخرى .

…………………………

ذات مساء .. كنت عائدا من العمل، صرت أعتاد حمل حقيبة أوراق تمتليء بالبيانات الصحفية والجرائد .. جائني صوت أبي:”مالك! ماشي مطاطي راسك وبتجرجر رجلك وراك!.

يعود أبي من عمله الحكومي في تمام الثانية ظهرا .. يتمشى من محطة الترام إلى بيتنا ويمر في الطريق على باعة الخضار والفاكهة لإحضار لوازم البيت.

 لاحظ انحناءة في مشيتي تحت حقيبة المدرسة الثقيلة، وحذائي المغطى بتراب الطريق، فلحق بي وربت على كتفي قائلا “عاوزك ترفع راسك وانت ماشي”.

كان لأبي حياة منضبطة مثل عقارب الساعة، أو مثل القوائم المالية التي يعدها في عمله كمحاسب، ينفق 6 قروش في اليوم، أربعة للترام ذهابا وإيابا واثنان لفنجان القهوة الذي ينتظره على المكتب كل صباح، لم يكن يدخن أو يشرب الكحوليات لذا استطاع أن يتحكم في مصروفاته.

سيصطحبني أبي للبيت في الظهيرة، وسنجد أمي تعد الطعام وقد عادت لتوها من العمل، وأختي تراقبها متطفلة على أسرار الطهي وقد عادت هي الأخرى من المدرسة.

 وبعد الغذاء سينفرد أبي بنفسه في غرفة النوم ليسمع نجاة الصغيرة، ثم يقوم في المساء لمتابعة الفيلم الأمريكي الذي تختاره درية شرف الدين في السهرة .

.. وهكذا ستدور حياته كدورات الساعة حتى يختطفه الموت وأنا في الثانية عشر من عمري.

سامحني يا أبي لا أقدر على تنفيذ وصيتك، سأظل منهكا أجر قدماي ورائي، فهم يرغمونني على العمل لعشر ساعات يوميا أو اكثر مقابل 500 جنيه في الشهر .

…………………………………………………

تسبح الملائكة في السقف الأزرق المقبب، بينما تمتليء القاعة الضخمة بالهمهمات وأصوات السكاكين وهي تقطع شرائح اللحم الغليظة .. يحب رجال الأعمال الحديث على موائد الغذاء.

ينزل عازف البيانو عن المنصة الصغيرة التي تتوسط أضخم قاعات الفندق ..  ثم تصعد شابة شقراء تلف الأعناق وراء خطواتها وهي تمرق بين الموائد حتى تصل إلى الميكروفون .. تُقدم للحضور رجل الأعمال صاحب مصنع الأسمنت الذي يرعى الغذاء المقدم في المؤتمر الاقتصادي .. لا نحتاج لأن تخبرنا الشقراء الجميلة أن شركة الأسمنت هي التي أنفقت على قطع اللحم المشوية والكيك الغارق في الشكولاتة .. فأعلام الشركة ترفرف فوق كل الموائد.

كل الحاضرين منهكين من ندوات المؤتمر .. بجواري صحفي غارق برأسه في الكمبيوتر النقال يرسل أخبارا للجريدة عن تصريحات الوزراء حول توقعات النمو والاستثمار الأجنبي والمشروعات الجديدة.. وأخرى تجلس على طرف المائدة وهي تُملي قصتها الصحفية عبر الهاتف المحمول .. تشعر بالتوتر بعد أن اختلطت أوراق قصتها بين يديها، وتترجى زميلها أن ينتظر قليلا معها على الهاتف حتي تنتهي من إملاء التقرير.

وما أن يصعد صاحب شركة الأسمنت إلى المنصة حتى يسود الصمت في كل جنبات القاعة.

قبل أيام أصدرت المحكمة حكما يدين شركته بالاحتكار .. وتلاحقه قضية أخرى تتهمه بشراء الشركة من الدولة بسعر بخس.. ولكنه لا يبالي بالجدل الدائر حوله، فقط  يشير في حديثه إلى بعض التصرفات التي قد تهز ثقة الاستثمار .. ثم يتحدث عن دوره في التوظيف وعن مشروعاته الخيرية ببناء مدرسة بجوار المصنع.

ترفرف أعلام الشركة على الموائد .. وترقب الملائكة من السقف المقبب ما يدور في صمت.

………………

* مقطع من أحد نصوص مجموعة قصصية بنفس الاسم، صدرت أخيراً عن دار كليوباترا بالقاهرة

*قاص وصحافي مصري

 

مقالات من نفس القسم