محمد مصطفى الخياط
لا أعرف مصدر هذه الرائحة، لى يومان تزكمني رائحة دم متخثر، استنشق ماء وضوئي، أنثر قطرات كولونيا رخيصة على كفى، امسح وجهى وتأبي الرائحة الرحيل، اتناوب مع زملائي الخدمة على دشمة المدخل، ريثما يأتي دوره فرد الجوهري منامته وتمدد محتضنًا سلاحه واضعًا خزنتي الطلقات تحت رأسه، سقط كالأطفال فى بئر النوم، نظر أبانوب نحوه وابتسم ثم مضي نحو الكانتين.
(بقوا كام دلوقتي يا محمود)، سأل أبانوب محمود مسئول الكانتين، (ثلاثة شاي وواحد قهوة، ولا مفكرني ناسي)، أجابه بعينين متحفزتين، ضحك أبانوب وقال وهو يناوله سيجارة (مين قدك يا عم، نازل اجازة بكرة)، زفر محمود وراح يرص أكواب الشاي الورقية كماسورة مدفع وقال (بطل نبر، الاجازة اللى فاتت ضاع منها يومين، شوف حد غيرى الله يخليك.. حسنين نازل بكره.. ركز معاه)، وضع أبانوب سيجارته بين شفتيه وتناول كوبي الشاي ضاحكًا واتجه إلى الدشمة محاذرًا ألا تلسعه القطرات الساخنة، (اشرب يا دفعة.. خيرى عليك)، قال وهو يناولني أحد الكوبين ضاحكًا، (اللى يسمعك كده يقول إنك بتصرف علينا.. إيش حال عازمك النهاردة على تونة)، (سيبك م التونة.. فحل البصل الأحمر اللى كان معاها حاجة ثانية.. كهرمان مسكر).
بعد عناء أيقظت الجوهري، رفع أبانوب الفوطة من على عينيه وسب ولعن ثم اكمل نومه، فرك الجوهري عينيه كطفل محاولاً استكشاف ما حوله، كان الظلام دامسًا، وسط جلال الليل بدت المشاهد لوحات رسمت بالفحم؛ سور الكتيبة الحجري، البوابة وغرفة الأمن، نقطة المراقبة أعلى البرج، عنابر الجنود والضباط، هياكل المدفعية، السيارة الزيل بمقدمتها العتيقة، طابور السيارات المدرعة، الدبابات بمدافعها، بدت أعمدة الإنارة المطفأة صواري مراكب أسطورية فى بحر الظلام، لوحة رمادية تنتظر ريشة النهار كي تلونها وتبث فيها الحياة.
تحسست المفكرة الحمراء والقلم الأسود فى الجيب الجانبي على فخذي الأيسر، عندما جئت الوحدة من حوالي عام ونصف ظننت أن الزمن توقف، طلبت من محمود أن يشترى لي وهو يشترى طلبات الكانتين من العريش مفكرة وقلم، من حين لآخر أسجل فيها بعض المذكرات، تواريخ الاجازات، أكلة لم نكن ننتظرها، وبعض المواقف والطرائف.
الجو فى الصحراء قاسي، حر شديد نهارًا وبرد قارص ليلاً، اقتنصت سويعات من النوم قبل أن يوقظني أبانوب، اتكأت على الجدار، مكان الجوهري خال، نظرت إليه متسائلاً، فضحك وقال (زهق وراح ينام فى العنبر.. وقال الجزا أرحم من رخامتك)، هززت رأسي وعقبت (يا عم حرام عليك.. سيبه فى حاله.. الحمد لله إنك طالع يونيه الجاى)، فقال بصوت عال (اثنين وثلاثين يوم وبعدها طيران ع النمسا)، عقبت ساخرًا (يا أخي أنت محسسني إن عمك قاعد مستنيك ومش عارف يشتغل من غيرك)، (ها ها.. إش بن أبانوب.. بالألماني آهو)، علق الجوهري ساخرًا (بالألماني آهو.. الله وكيل شكلك بتفشر علينا.. وآخرتها تلم الدودة فى البلد)، (أنت جيت؟.. كنا افتكرنا ألف جنيه)، أشاح الجوهري بيده ضاحكًا وقال (عسكري رخم)، ورحنا فى ضحك جماعي.
لففنا متاعنا وتكتفنا سلاحنا وعدنا للعنبر، كان محمود يجهز حقيبته مرتديا الفانلة الداخلية وبنطلون الفسحة، ما إن رآنا حتى صرخ ملوحًا بورقة صغيرة (التصريح آهو)، ثم أردف مقلدًا صوت توفيق الدقن (جايلك يا طاهرة)، ضحك الجوهري وقال غامزًا (هنيالك، اجازة سعيدة يا أبو عمر).
(اجمع كتيبة.. اجمع كتيبة)، تردد صوت الصول شحاتة فى الميكرفون مصحوبًا بخروشة، سكن محمود للحظة ثم خطف سترته وأسرع خلفنا نحو أرض الطابور، اصطففنا فى مجموعتين والصول يصيح (صفا.. انتباه..)، لدي سماعه صوت المدرعتين أحس محمود بمغص مفاجئ وتجهم الجوهري، اجازتهما اليوم ولكن ليس للعمليات موعد، نزل الضابط عبد الحميد من مدرعة المقدمة بينما بقي الضابط أحمد فى الثانية، من خلف الإطار الحديدي المثبت على شباكها نظر السائق نحونا وغمز، همس حسنين مداعبًا (صباحك زي وشك)، عقب الجوهري دون أن يفتح شفتيه (باين).
من دفتر الأوامر قرأ الصول بصوت عال (جندي أحمد عبد الله، محمد عوض، أحمد حامد، محمد حسنين، أحمد على، أبانوب،..)، ما إن سمع محمود اسمه حتى صاح، (اجازة يا افندم)، فأجابه بصوت قاطع (أقف فى الطابور يا جندى)، فأذعن وراح يرمق أبانوب بنظرات جانبية نارية والأخير يحاول كتم ضحكته.
تحركت المدرعتان بما عليهما من جنود نحو البوابة، تابعناهما بعيوننا وتمتمنا بالدعاء، كم من مرة فُجعنا فى رفاقنا، تركوا فى حلوقنا غُصة وفى قلوبنا فراغًا وإن بقيت صفوفنا دائمًا مكتملة، ما إن يخلو موضع حتى تنبت الأرض غيره.
عاودتني رائحة الدم المتخثر مخلوطة بغبار المدرعات، عدت للعنبر، كان كل شيء فى مكانه، حقيبة محمود تنتظره كي يعلقها فى كتفه ويرحل، منشفة حسنين البرتقالية منشوره على الإطار المعدني للسرير، كتاب تعلم الألمانية في اسبوع على وسادة أبانوب، كنكة الجوهري والسخان الكهربائي وبرطمان الشاى، بدلة فسحة الصول شحاته معلقة فوق سريره في كيس بلاستيكي شفاف، فى قلبي غُصة وفى نَفَسي ضيق.
دَوَى صوت انفجار مكتوم من بعيد، قبضت على قائم السرير المعدني بقوة وهتفت، اللهم لطفك، اللهم سدد رميهم، اللهم ردهم سالمين غانمين، صوت طلقات يتخلله انفجارات، دوت سرينة الإنذار فأسرع كل منا إلى سلاحه وموقعه، اندفعت داخل دشمة المقدمة، احكمت الخوذة حول رأسي، ثبت فوهة بندقيتي على فتحة المزغل ورحت أرقب الطريق، ثمة دخان كثيف يتصاعد من بعيد، سمعت خلفي صوت أقدام ثقيلة، كان الصول إبراهيم وبيده جهاز اللاسلكي يصدر صوتًا متقطعًا، بدا متجهمًا وعيناه بَحْرَيّْ دمعٍ عميقان، قاومت الموج العاتي وسبحت مكدودًا حتى الشاطئ، جلست مبللاً منهكًا تُظللني غيمة ناصعة البياض، دققت فيها النظر فرأيت وجوه محمود، وحامد، وحسنين، والجوهري، وأبانوب وباقي الرفاق يضحكون ويشيرون لى كي أصعد إليهم، قفزت قدر استطاعتي مرات ومرات وما استطعت، تحسست فخذي الأيسر وأخرجت مفكرتي الحمراء وكتبت بالقلم الأسود فى منتصف الصفحة بخط باكٍ “الشهداء”، ثم دونت اسماءهم، سحبت خطًا مائلاً وكتبت تحته “المصابين”، ونقشت اسمائهم، أعدت مفكرتي مكانها ثم سحبت بندقيتي ومضيت فى طريقي خلفهم.
………..
[*] مهداة إلى شهداء بئر العبد، 30 أبريل 2020، وإلى كل شهداء المحروسة
[†] كافة الأحداث من وحي الخيال ولا صلة لها بالواقع