عايدة جاويش
صدرت رواية “وادي قنديل” عن دار منشورات المتوسط – إيطاليا عام 2017، وهي العمل الروائي الأول للكاتبة السورية نسرين أكرم خوري. حاز مشروع الرواية على منحة مؤسسة المورد الثقافي الإنتاجية، وهو ما يُعد إشارة إلى الثقة بمحتوى الرواية وقيمتها قبل صدورها، خاصة أن نسرين كانت معروفة قبل ذلك كشاعرة من خلال ديوانها “بجرّة حرب واحدة” الصادر في دمشق عام 2015.
الخيال في الرواية
نحن الآن في المستقبل، وتحديدًا في عام 2029، حيث تعود “ثريا” إلى سوريا بعد غياب طويل. اختارت أن تبدأ رحلتها من وادي قنديل، ذلك المكان الذي ظلّ أقل تأثرًا بالحرب والزمن، وكأنه واحة من الهدوء بين أنقاض الذكريات. كانت عودتها محمّلة بالشوق إلى وطن لم تعرفه إلا من الصور والقصص، فقد عُثر عليها عام 2014، وهي في الخامسة من عمرها، بين مجموعة من الجثث على ساحل لارنكا، مستلقية على خشبة عائمة بعد أن غرق أهلها. تبنتها امرأة يونانية تدعى “ماما ساتي”، كانت تعمل في الصليب الأحمر، ومنحتها اسمًا عربيًا لتحافظ على هويتها العربية.
ثريا اختارت أن تقيم في شاليه مهجور لم تطأه قدم منذ خمسة عشر عامًا، بسبب حادثة انتحار غامضة كانت بطلتها “ريشة”، إحدى نزيلاته، والتي عُرفت من خلال “مذكرات غيم حداد”، الشخصية المحورية التي انتحرت في رواية “وادي قنديل”. في هذا المكان، تلتقي ثريا بـ”حنان النعمة”، الذاكرة الحية للحياة السورية، تلك المرأة التي تختزن في ذاكرتها ما قبل الحرب وما بعدها، والتي تمنحها مذكرات غيم حداد لتكون بمثابة آلة زمن، تعيدها إلى الوراء، إلى زمن كان فيه الوطن حاضرًا بأهله، بحاراته، وأصواته ولهجاته.
في تلك العودة الزمنية، تعيش ثريا حياة جديدة قديمة، تكتشف فيها وطنًا لم تعرفه، تعيش فيه الحب مع “أنس”، وتجد الأصدقاء في “جنى” و”ميسم” و”صالح” و”عروة”، أصدقاء من بيئات وطوائف مختلفة، يمثلون لوحة فسيفسائية للحياة السورية المتعددة والمنفتحة قبل أن تفتك بها الحرب. هذه المذكرات لا تحكي فقط عن أفراد، بل توثق تفاصيل الحياة اليومية، وتمنحنا فرصة لفهم سوريا من الداخل، من قلب الألم والحب.
حمص: روح الرواية وذاكرة الوطن
روح الرواية هي مدينة حمص، المدينة التي لم تكن مجرد خلفية للأحداث، بل كانت بطلة بحد ذاتها، نابضة بروحها المتعددة، بشوارعها، بأسواقها، بوجوه ناسها، بطقوسها ولهجاتها وروائحها. اختارت الكاتبة حمص لأنها مدينتها، التي أرادت أن تحفظها حية في ذاكرتنا الجمعية، وفي ذاكرة كل من هاجر وفقد انتماءه. نضحك مع “مخول”، نحب “أبو وليم”، ونتمنى أن نتذوق “المغطوطة” من عند “الجلبجي”، ونتمشى في شارع “الأذن” كما كنا نفعل قبل أن تسرق الحرب منا تفاصيلنا اليومية.
حمص في الرواية لها خصوصية محلية لا تشبه أي مدينة أخرى، فهي تحتضن خليطًا من الطوائف التي كانت تتعايش بسلام، قبل أن تُشرّح الحرب هذا التعايش وتعيد رسم الخارطة الاجتماعية من جديد. بعد أن غادرت ثريا حمص، رفضت أن تمارس طقوسها القديمة التي كانت تمارسها هناك، كي تبقي للمدينة حيزًا مقدسًا في قلبها، ذاكرة لا تُمس. “يبقى الحنين دافئًا قويًا عندما نغادر المكان الذي نحبّه قسرًا.”
الكتابة كأداة للخلق والخلود
شخصية “غيم حداد” تتأثر عميقًا بهذه الأماكن، ويمكن القول إنها كانت تكتب جزءًا من سيرتها الذاتية. كان هناك تقاطع جميل بين الحب والمكان؛ حيث تتلاشى الناس ويبقى الوطن، كما يتلاشى الرجل وتبقى قصة الحب. الرواية في عمقها تتحدث عن الحنين والهوية، عن ذاكرة المكان التي تتفوق على الحاضر.
أحببت هذه الرواية، لأنها لامست شيئًا من روحي، رغم أنها لم تغص في البعد الفلسفي وكانت أقرب إلى سيناريو لفيلم سينمائي بصري، إلا أنها امتلكت حسًّا عاليًا في تصوير مأساة الهجرة السورية بلغة بسيطة، عاطفية، ومليئة بالصور واللمسات الإبداعية. استطاعت نسرين، من خلال نصها، أن تخلّد ذاكرة مدينة، ذاكرة الحب، الطفولة، الهوية الممزقة.
غيم حداد، التي تحلم أن تكون روائية، تذهب مع أنس إلى وادي قنديل، وهناك تبدأ بخلق شخصيات روايتها. وخلال الكتابة، تبدأ هذه الشخصيات بالخروج من الورق، تصبح أصدقاءً حقيقيين: يأكلون، يشربون، يناقشون ويتخاصمون. تمنحهم الكاتبة ماضٍ مشترك، وحاضر نابض، ولكن حين تبدأ الأمور بالخروج عن السيطرة، تحاول أن تُنهي الرواية، فتثور الشخصيات ضدها وتحاكمها، وكأنها تُمارس سلطتها الكاملة عليهم وتُسلبهم حياتهم من جديد.
في اليوم السابع… تستريح.
خبأت غيم لثريا في مذكراتها ذاكرة وطن، تفاصيل محلية نابضة بالحياة، وثقت من خلالها الحياة اليومية للناس، لهجاتهم، طوائفهم، علاقاتهم، قبل أن تشوهها الحرب. ونسرين، صاحبة ديوان “بجرة حرب واحدة”، تظهر هنا كروائية بارزة، يعلو صوتها كصوت يمثّل مجتمعها وبيئتها، صوت المرأة السورية التي تنقل الوجع والحنين والهوية في آن معًا.
في نهاية المذكرات، تبحث ثريا عن أصحاب الأسماء، فلا تجد لهم أي أثر، لا قيود ولا هويات، لتدرك أنهم شخصيات خيالية خلقتهم غيم من خيالها، باستثناء “أنس رحيم” الذي تعثر عليه في لبنان، في أقرب نقطة تطلّ على حمص، لتكتشف أن غيم قد انتحرت بعد أن أنجبت طفلتها، وكأنها أرادت لتلك الطفلة أن تواصل الحكاية، أن تعيد إنتاج الذاكرة، وتعيد تشكيل العالم.
رواية “وادي قنديل” ليست مجرد سرد لحكاية فتاة تبحث عن جذورها، بل هي عمل أدبي ينبض بالانتماء، ويعيد تشكيل الذاكرة السورية من خلال مزيج من الحنين، الخيال، والواقع المُوجِع. استطاعت نسرين أكرم خوري أن تُعطي للكلمات لحمًا ودمًا، وللمكان روحًا، وللشخصيات صوتًا يعبر الأزمنة. هذه الرواية تضع القارئ أمام مرآة الوطن، بكل جماله وجراحه، وتدعوه للتفكير في ما تبقى من الذاكرة، وما يمكن إنقاذه من النسيان.