هى رواية مصرية بامتياز، ولكنها كذلك رواية عابرة للثقافات والأجناس والأديان واللغات لأنها تلغى ببساطة كل هذه الفواصل بين شخوصها القلقة، لايهتم مؤلفها سوى بالنفاذ الى أعماقهم بحثا عن الواحة والصحراء داخل النفوس والقلوب، مثلما بحث عنها فى المكان والجغرافيا، وفوق الخرائط المنسية.
تخفى هذه الرواية كنوزا هائلة وراء مظهرها الحكائى البسيط والممتع، بهاء طاهرعموما ليس من أولئك الروائيين الذين يخجلون من بساطة السرد والحكى ، وليس من اولئك الكتاب وأنصاف الروائيين الذين ليس لهم من بضاعة سوى ادعاء التفلسف والغموض، على العكس من ذلك، يرى بهاء فى هذه البساطة لذة خاصة، وإضافة جديرة بالإنتباه، لأنها تجعل لروايته عدة مستويات، كلها جديرة بالإستمتاع جملة وتفصيلا، هنا حكاية وشخوص وتفصيلات ومواقف عاصفة، هنا قصة وحواديت، ولكنها ليست مثل القصص والحواديت، لأن الروائى المعاصر لم يعد ينظر الى العالم من زاوية بسيطة، ولكن من خلال عين قرأت وشاهدت وتعذبت، ويعبر أيضا عن عقل اختزن تجارب الإنسان وتاريخه وأساطيره وانكساراته وانتصاراته، هناك استمتاع بالحكى مثل الحكائين القدامى، ولكن هناك أيضا محاولة أعمق لاكتشاف الإنسان، يتحول القص هنا بالتالى الى موقف وشهادة ووجهة نظر.
(1)
أحد أسرار” واحة الغروب” هو هذا الإئتلاف بين البساطة والتعقيد، فالحدث الأصلى الذى بنيت عليه الرواية غريب، ولكن له أصل من الواقع، وردت إشارة فى كتاب عالم الآثار الراحل” د أحمد فخرى” وعنوانه “واحة سيوة”، عن وجود علاقة غامضة بين المأمور المصرى محمود عزمى وتدمير معبد أم عبيدة فى العام 1897، لا تفصيلات عن سبب تدمير المعبد، ولا عن نهاية المأمور. انطلاقا من هذ الحدث شبه العبثى، قرر بهاء طاهر أن يضع مقدمات تفسّر هذا الفعل الجنونى وتكشف دلالاته ارتباطا بتقلبات عصره وزمنه، الرواية بأكملها مصممة لكى تصب فى بؤرة هذا الحدث الخارق والعجيب، بما يذكرنا على نحو ما بفيلم “سائق التاكسى” لمارتن سكورسيزى، الذى صممت كل مشاهده لتنتهى بانفجار بطله المروّع فى مشهد المذبحة الذى لا ينسى.
المأمور إذن هو البطل، سيحمل فى الرواية اسم محمود عبد الظاهر، وسيصبح على أيدى بهاء طاهر مزيجا من البطل التراجيدى فى الدراما الإغريقية، والبطل الوجودى المؤرق والحائر فى روايات القرن العشرين، هو بطل تراجيدى بامتياز ليس لأنه يرتكب خطأ يدمر حياته، وحياة المحيطين به، ولكن أيضا لأن فيه جانبا نبيلا يقظا يؤرقه وينغص عليه حياته، ويفسد عليه طعم الأشياء، مشكلة هذا المأمور تشبه مأساة منصور باهى أحد أبطال ميرامار، فى الجانب اليقظ النبيل اليقظ، وليس فى الجانب المظلم الخائن، كثيرون يرتكبون أضعاف ما فعله محمود ومنصور، ويعيشون مع ذلك فى طمأننية وراحة بال، لأنهم ببساطة قتلوا هذا الجانب النبيل فى نفوسهم للأبد.
بطل “واحة الغروب” هو أيضا بطل وجودى، يذكرك بقوة بأبطال سارتر وألبير كامى الذين ينقلون إليك قلقا عميقا بمعاركهم الداخلية مع أنفسهم، وبتساؤلاتهم عن أشياء وكلمات لا تلفت انتباه أحد، وبتحويلهم الحياة بأكملها الى موقف يختار فيه الإنسان أن يكون أو لا يكون، وهكذا تتحول حادثة شب عبثية لمأمور مجهول دمر معبدا لسبب قد يكون شديد التفاهة فى الواقع الذى لا نعرفه، الى موقف من الحياة ومن الذات ومن الآخر ومن الماضى ومن الأساطير الوهمية، لم يكن مبعث الإنفجار سوى بقية من نبل فى نفس خاطئة، ورثت قلقا ينخر فى الروح، ويحرمها من الطمأنينة.
سنبدأ أولا باستكشاف سطح الرواية، ثم نغوص بعد ذلك الى أعماقها، سنبدأ بالقراءة الأفقية للرواية، أحداثها، وأبرز شخوصها، وشبكة العلاقات القائمة بينهم، ثم نقوم بقراءة رأسية تكشف عن الطريقة التى استخدمها بهاء طاهر لنقل أفكاره عن الهم الإنسانى والمصرى، سنحاول أن نكشف عن سر الصنعة التى حوّلت الصحراء الى مرآة، والواحة الى جهنم الحمراء.
تنقسم “واحة الغروب” الى قسمين تتبادل الحكى فيهما بعض شخصيات الرواية وهى : محمود المأمور المصرى فى واحة سيوة، وزوجته الأيرلندية كاترين، والشيخ يحى والشيخ صابر، وهما اثنان من زعماء الواحة على طرفى النقيض من كل شئ تقريبا، الشخصيات الأربع يحكى كل منها جانبا من جوانب الحكاية التى ستنتهى بتدمير المعبد، ليس هناك بناء هندسى صارم فى تبادل السرد أو الحكى بين هذه الشخوص، ولا فى تدفق السرد على لسان أحدهم فى مقابل اختزاله على لسان الآخر، وإنما هناك حرية كاملة وكأننا أمام شهادات متناثرة طويلة أو قصيرة، متفائلة أو كئيبة، واقعية أو حالمة، ولكنها جزء من جدارية ضخمة لا يمكن أن تحكم على صورتها العامة، قبل أن تبتعد عشرات الخطوات لكى تراها كاملة.
هناك مع ذلك ملاحظتان هامتان على هذا التقسيم، الأولى هى أن محمود يبدأ الرواية وينهيها، وهو أمر طبيعى، لأن “واحة الغروب” ليست فى جوهرها سوى حكاية محمود وأزمته، والملاحظة الثانية والأهم هى دخول سارد خامس فى نهاية القسم الأول من الرواية من خارج شخوص القرن التاسع عشر، وهو الإسكندر الأكبر الذى سيحدثنا من عالم الظلام عن أزمته وتحولاته بعد زيارته لمعبد آمون فى واحة سيوة. لأول وهلة، قد تبدو هذه الشخصية متنافرة مع البناء كله، ولكننا سنكتشف لاحقا أنها متسقة تماما مع مغزى الرواية، بالنظر الى الوشائج القوية التى تربط شخصية الإسكندر بشخصية محمود، وبالنظر الى أن “واحة الغروب” رواية عابرة للزمان والمكان، تستقصى معناها بدون فواصل أو حواجز، ولكن يكفى فى هذه المرحلة من التحليل أن يعرف القارئ أن روح الإسكندر كانت أيضا معذبة مثل معظم شخصيات الرواية، وأن من حقها كذلك أن تحكى وتتوجع وتطلب الخلاص.
والآن الى حكاية المأمور فى مظهرها البسيط وفقا لشهادته ولشهادة المحيطين به: كانت طفولته سعيدة فى أواخر عهد الخديو إسماعيل، لم ينغّص عليه شىء سوى إفلاس والده التاجر، وهجرة شقيقه الوحيد سليمان الى الشام، توزعت حياته بين النساء والخمر ومجالس الذكر ولقاءات جمال الدين الأفغانى، التقى مع كاترين فى الصعيد، كانت فى رحلة سياحية بعد معاناة من زواج غير سعيد انتهى بوفاة الزوج الشرس مايكل . كان سليمان أحد أفراد الحراسة فى حاشية أمير أو كبير، وجدت فيه تعويضا عن إهمال الجسد، ووجد فيها عزاء أو هروبا من مأساته الشخصية خلال أحداث الثورة العرابية، وقتها تم إرساله الى الإسكندرية لحفظ الأمن ونقل الجرحى بعد ضرب المدينة، ولكنه خرج بإحساس عميق بأنه خائن، ذلك أنه غيّر أقواله أمام المحقق لكى يحافظ على عمله، ولأنه لم يكتف بالتنصل من الثوار، ولكنه وصفهم بأنهم بُغاة، وإمعانا فى تضخيم أزمته، يكلفه الإنجليز بالسفر الى واحة سيوة لكى يجمع الضرائب للحكومة.
فى الواحة المنعزلة التى يسكنها أقوام من أصول بربرية، سنكتشف حربا من نوع آخر بين أهلها، حربا تؤججها فوارق طبقية بين السادة (الأجواد) والعبيد (الزجّالة)، بل توجد حربٌ أخرى من نوع خاص ضد الأرامل من النساء اللاتى يتم عزلهن بعد وفاة أزواجهن لعدة شهور خوفا من اللعنة، سيكتشف محمود فى نهاية تجربته الشاقة، أنه لم يحب كاترين أبدا، وستكتشف هى أنها لم تحب فيه سوى جسده، ستبحث تعويضا عن مجد من نوع آخر، فلماذا لا تحلم بأن تكون سببا فى اكتشاف قبر الإسكندر فى سيوة؟! أما الشخوص المحيطة بالثنائى محمود وكاترين، فإن لديهم أيضا همومهم الخاصة: الشيخ يحى الذى يفشل فى إنقاذ ابنة أخته الأرملة مليكة من الموت، فيقنع بزراعة الأعشاب الطبية، ويعيش عزلة لا تنتهى، والشيخ صابر الذى لايحلم سوى بتدمير أعدائه من قومه ومن المصريين جُباة الضرائب، والعسكرى إبراهيم الذى لايزعجه سوى أن يعجز عن توفير لقمة العيش لأحفاده الذين التهمت الكوليرا آباءهم، كلها شخوص مؤرقة تخوض معارك داخلية وخارجية، وأبعد ما تكون عن السلام الداخلى، يعيشون فى بيئة عجيبة، تختلط فيها المفردات العربية والبربرية، وتجمع بين حياة النخيل وخرائب المعابد.
تتأزم حالة المأمور محمود بقدوم فيونا شقيقة كاترين الى الواحة طلبا للإستشفاء، ثم قدوم ضابط جديد من أصول شركسية ليعمل فى المركز يدعى وصفى، فيونا تذكّر محمود بحبه لجارية حبشية تخلى عنها قديما اسمها نعمة، من الواضح أنه تعلّق بالضيفة التى تقضى أيامها الأخيرة فى الواحة بسبب مرضها الصدرى المزمن، أما وصفى فهو جاسوس يكتب التقارير لرؤسائه، خائن جديد يعده الإنجليز ليحتل مكان محمود، بعد أن ساهم الأخير فى جمع الضرائب.
فى الواحة فقد محمود كل شىء: زوجته كاترين التى تحلم بالإسكندرية، وسلطاته التى يحاول منافسوه الفوز بها، وبقية من جمال تمثله فيونا نصف الميتة، وبقية من خداع النفس بأنه مضطهد ومظلوم بعد أن قهر سكان الواحة، وجمع منهم الضرائب تحت سطوة المدفع، لقد أصبح أخيرا بدون أقنعة، فلم يجد مفرا من حسم عذاباته للأبد: ذهب الى معبد أم عبيدة، ونسفه بالديناميت، سقط المعبد فوقه مثل شمشون، ولسان حاله يقول :” علىّ .. وعلى هذا الماضى الكئيب”!
هذه هى الخطوط العامة لحكاية المأمور محمود فى ” واحة الغروب”، ولكن من الذى قال إن الروايات مجرد حكايات وحواديت؟ إنها المعانى والأفكار التى تكمن خلف هذه الحواديت .
(2)
أول خطوة فى قراءة الروايات بالعمق أن نبحث عن مفاتيح لأبوابها، وهناك مفتاحان لرواية “واحة الغروب”: الأول بأن تنظر إليها باعتبارها رحلة بحث، والثانى بأن تنظر إليها كتجربة للإختيار، وفى كلتا الحالتين يستخدم بهاء طاهر أدواته بذكاء تحت ستار من السرد الشيق الذى يجعلك غير قادر على أن تترك الرواية قبل أن تفرغ منها، ولكن مع القراءة الثانية، ستكتشف خلف الحدوتة، أو عن طريقها، بناء من الأفكار المتشابكة.
الحكاية تقول إن محمود سيصطحب معه زوجته كاترين، وقافلة تضم عشرة من الجنود فى رحلة بحث أولا عن واحة سيوة المعادية التائهة فى الصحراء التى ضمها محمد على الى مصر، ولكن لم تتوقف الثورات فيها ضد الحكم المصرى، ستتحول الرحلة الى بحث عن الضرائب بحيث يرسل المأمور الى القاهرة ألفى جمل من التمر، وخمسمائة جمل من الزيتون، وغرامة مالية للتأخير قدرها خمسة آلاف ريال، ستخدم رحلة البحث المادية تلك مجموعة من الأوصاف المادية الرائعة للصحراء وللعواصف وللواحة وأطلالها ونخيلها وخيراتها، وتفصيلات متعددة عن طريقة جمع الضرائب بالحوار وبالمدفع، ولكنك ستكتشف تدريجيا أن رحلة البحث قد تحولت من الخارج الى الداخل، بمعنى أن الصحراء ستصبح مرآة تكشف حقيقة الشخصيات وروحها تماما كما فعل بول باولز فى “الصحراء الواقية”، ستكتشف أن الحلم بالوصول الى الواحة مزدوج: واحة سيوة، وواحة السكينة والطمأنينة وحسم المتناقضات التى تنغص صفو الحياة، بل إن مفردات مثل العاصفة والأطلال والسراب والضرائب ستحمل معان مزدوجة فى معركة محمود الداخلية مع نفسه، وفى معركة كاترين أيضا مع ذاتها. بهاء طاهر يعى ذلك بوضوح فيمزج بين الرحلة الداخلية والخارجية ببراعة، فالعاصفة الرملية تهب على القافلة فتكشف عن عاصفة موازية داخل محمود، والدليل يصف الصحراء بالغدر فيتردد فى نفس محمود وجع الذكرى:” تعال أحدّثك أنا كيف يكون الغدر”، يقول له الأميرالاى سعيد : ” إن الصحراء بستان الروح وجنة الأنبياء والشعراء، إليها يفر كل من يترك الدنيا وراءه لكى يجد فيها نفسه، وفيها تورق الأنفس الذابلة وتزهر الروح”، ولكن محمود يؤكد لنا أن المعركة بداخله عندما يقول لكاترين: ” أنا تمتد صحراء أخرى داخل نفسى، لاشئ فيها من سكون الصحراء التى نعبرها، صحراء مليئة بالأصوات والناس والصور”.
وهكذا تحمل المفردات والحكايات والوقائع معان مزدوجة تسير فى اتجاهين: رحلة بحث فى الخارج، ورحلة بحث الى الداخل، وتنتهى الرحلة الخارجية الى كشف وتعرية الداخل، وتصل فى حالة محمود الى الإنفجار والتحرر بالموت، إن أطلال “شالى” ليست فى حقيقتها سوى الترجمة المرئية لأطلال نفس يطاردها هاجس الخيانة، ورحلة البحث عن دواء لإنقاذ رجل الشاويش إبراهيم من البتر، أو لإنقاذ فيونا من السعال ليست إلا بداية النهاية لتعميق الجراح، ليكتشف المأمور البائس أنه لا دواء إلا الموت، والنجاح الأخير فى جمع الضرائب من سكان الواحة، لن يعنى فى معركة الداخل سوى الهزيمة، بعد أن اكتشف محمود أن “الضريبة” التى يجب أن يدفعها هو أصعب من ضرائب الواحة لأنها ستكلفه حياته، كل أسرار الصنعة موظفة هنا لرحلة ذات إتجاهين: رحلة خارجية تنتهى بالنجاح، ورحلة داخلية تنتهى بالفشل والموت.
فيما يتعلق بالمفتاح الثانى للرواية، يضع بهاء طاهر أبطاله فى تجربة شاقة للإختيار، يبدو أن هدف الرحلة أصلا هو ممارسة الإختيار على الأقل بالنسب لمحمود، الذى يقول فى مواجهة نفسه:” المشكلة هى أنت يا حضرة الصاغ، لاينفع فى هذه الدنيا أن تكون نصف طيب ونصف شرير. نصف وطنى ونصف خائن، نصف شجاع ونصف جبان. نصف مؤمن. نصف عاشق. دائما فى منتصف شىء ما”، ويضيف:” لم أكن أبدا شخصا واحدا كاملا فى داخله. طلعت (زميله) كان أوضح مع نفسه، ما دام قد خان فليكمل الطريق الى نهايته، باع نفسه وقبض الثمن الذى يريده، أما أنا فبعت بلا ثمن وبقيت قانعا بالسخط على نفسى وعلى الإنجليز وعلى الدنيا كلها دون أن أعرف ماذا أريد. حتى الحب اكتفيت منه دائما بالمتعة ثم وقفت لا أكمل الطريق”.
الإختيار، حتى لو كان خاطئا، أفضل من اللاموقف واللامعنى واللاهدف والوقوف فى المنتصف، والإختيار أيضا فعل وإيجابية وليس عزلة وسلبية، وإلا تحول الإنسان الى نسخة من الشيخ يحى، الذى يعرف الحق ، ولكنه لايستطيع أن يوقف الزيف والشر، فيقنع فى النهاية بالعزلة حتى الموت، تبدو ابنة اخته مليكة أفضل منه كثيرا بتمردها على التقاليد، وبهروبها المتكرر من زوج فرض عليها، بل وبموتها الغامض الذى يتأرجح بين الإنتحار أو القتل على أيدى القبيلة، النتيجة واحدة فى رأيى، لأن مجرد خروجها من العزلة المفروضة عليها كأرملة رغم معرفتها بالعقاب، هو نوع من اختيار الإنتحار والموت، بدلا من حياة لامعنى لها تجعلها دمية، مثل تلك الدمى التى تجيد نحتها من الطين.
الرواية كالحياة تماما، ليست سوى تجربة أو امتحان لكى نختار، والشخوص تمارس فعل الإختيار بدرجة أو بأخرى، فتزيد من معاناة محمود وشعوره بالعجز: فيونا اختارت أن تتخلى عن مايكل الذى أحبته لشقيقتها كاترين التى اختارت أن تقبل الهدية، ولكنها دفعت ثمن سوء الإختيار، والشيخ صابر اختار أن يتعلم فى جامع الزيتونة فى تونس، ليعود الى سيوة حليفا للشيطان، ونصيرا للحرب والشر، والشاويش إبراهيم اختار أن يعطى بقية حياته لأحفاده، بعد أن أعطى شبابه للعرابيين، والضابط وصفى اختار أن يكون رجل المرحلة الجديدة، ويوسف خنفس اختار أن يخون العرابيين، فى حين اختار محمد عبيد أن يلتصق بمدفعه حتى صهرته حرارته، ولكنه كان قد أصبح أسطورة.
“واحة الغروب” بهذا المعنى هى رواية عن ذلك الإختيار الذى يحدد مصير الإنسان، فإما أن تصبح متسقا مع ذاتك، أو مشتبكا معها، ليست المشكلة فقط فى الوقوف فى المنتصف ، وفى إمساك العصا من الوسط، ولكنها أيضا فى أن تختار شيئا يخالف ما تؤمن به وتعتقده، فتخون نفسك أول ما تخون، وتدفع الثمن مرتين: مرة لأنك خنت الآخرين، ومرة لأنك خنت نفسك، بهاء طاهر يرفض إذن النموذجين الشهيرين: الصامت عن الحق لكى يبرىء ساحته، ويحمى موقفه، والخائن لنفسه وللآخرين، أى أنه ضد بيلاطس ويهوذا معا.
ولكن الروائى يوسع دائرة الرؤية بالإنتقال من الخاص الى العام الى الإنسانى، من أزمة شخص (إحساس محمود بالذنب) الى مأساة أمة ( الولس الذى هزم عرابى) الى مرض إنسانى عام ( العجز عن الإختياروالعجز حتى عن فهم ما نريد)، تترجم شخصيات “واحة الغروب” هذه النظرة والرؤية الشاملة، هناك خليط من الأجناس والديانات واللغات، ومع ذلك نكتشف أن الآلام والهواجس والمخاوف واحدة، المعالجة الذكية تقدم الشخصية وهويتها، ثم سرعان ما تضعها فى مواقف تكشف عن الصحراء (المتاهة والخواء والسراب) أو الواحة (السلام والطمأنينة) داخل أعماقها، بسبب هذا المزج، ستجد بقليل من التأمل تقاربا عجيبا بين شخصيات فرقت بينها عوامل اللغة أو الدين أو الجنس، على سبيل المثال، فإن تناقضات الإسكندر المقدونى تذكرك بتناقضات محمود، والعكس صحيح، والسلام النفسى الذى تتمتع به فيونا الأيرلندية الكاثوليكية يجعلها قادرة على التواصل مع الشيخ يحى، خريج الأزهر، ورهين المحبسين (عجزه وداره)، وشر الشيخ صابر ورغبته فى تحطيم الآخرين يتقاطع مع شر مايكل الذى دمر حياة كاترين، وفى هروب مليكة ابنة سيوة التمردة ما يذكرك بهروب نعمة الجارية الزنجية التى تخلى عنها محمود، لأنه لا يليق به أن يتزوج خادمة سوداء.
تتأكد هذه النظرة الإنسانية الشاملة بلعبة تبادل الأدوار التى تكتشفها الشخصيات، أو تجد نفسها فى داخلها بدون قصد، محمود مثلا الذى يعامله مستر هارفى الإنجليزى مستشار نظارة الداخلية بصلافة باعتبار أن المأمور جزءا من شعب تحت الإحتلال، يقوم بدوره بممارسة نفس التسلط مع سكان الواحة الذين يعتبرون المصريين من الغزاة، وفيونا التى تتخلى لشقيقتها عن حبيب سابق (مايكل)، يأتى الدور على الشقيقة كاترين لكى تسلّم بأن زوجها محمود يحب أختها، ولن تجد بأسا فى ذلك، بعد أن انتهى محمود بالنسبة لها.
تدور الدوائر وتتغير الظروف والأدوار، ولايبق إلا الإنسان فى موقف يتطلب منه أن يختار الآن وفورا، ولكن يجب أن نتوقف طويلا عند مشهد للإختيار الأخير، الذى انتهى بهدم المعبد على رأس المأمور، وهو المشهد الذى تصب عنده كل الخطوط، بل إن من أجله كتبت الرواية .
(3)
تستحق “واحة الغروب” أن توصف بانها رواية الصحراء والواحة والمعبد، ولأن الصحراء هى رمز التيه والحيرة، ولأنها المرآة التى تعكس المأساة، ولأن الواحة رمز الطمأننية والسلام تبدو حلما بعيد المنال، بعد أن امتلأت بالأحقاد والصراعات، وبعد أن أصبحت مجرد بقرة تدر الأموال والضرائب والزروع، فإن من المنطقى والطبيعى أن ينتهى الأمر بتدمير المعبد الذى كان قديما عنوانا للقداسة، فأصبح مكانا للطبخ، تنتهى الرواية بمشهد جدير ببطل ترجيدى، فى مسرحية مؤثرة، يحمل المأمور محمود الذى أسلته القاهرة الديناميت، ليدمر معبد أم عبيدة.
يمكن فهم هذا التصرف على المستوى الواقعى كنتيجة طبيعية لانفجار شخصية مأزومة نفسيا، تعانى من آلام مبرحة منذ بداية الرواية نتيجة ذنب لم تغفره لنفسها، ولم يعد ممكنا أن يستمر صراعها الداخلى الى الأبد، ولم يعد ممكنا إصلاح خطأ الماضى، أو إرجاع عقارب الساعة الى الوراء، وينعكس هذا الصراع الداخلى فى صورة تقلبات واضحة فى تصرفات المأمور منذ صفحات الرواية الأولى، كما أنه يعبر عن أزمته النفسية مباشرة من خلال ما يحكيه، حيث يتمنى الموت أحيانا، ويحلم أحيانا بالعودة الى طفولة سعيدة لم تستمر، ويتمنى فى مرة ثالثة أن يكون فى موقف أخيه سليمان، الذى هرب وتزوج وأنجب فى الشام، كما يبدو واضحا أنه يهرب من مواجهة نفسه بالإسراف فى الخمر وفى علاقاته النسائية، ويعوض عجزه النفسى عن الفعل والحسم، بإسراف فى نشاط الجسد، لدرجة أنه يقول لزوجته كاترين تبريرا لخيانته لها بأنه لا تكفيه امرأة واحدة، وعندما تقول له إنها تستطيع أيضا أن تخونه يهددها بالقتل، تقول عنه كاترين أيضا :” اعتدتُ من زمن بعيد على تقلباته التى لا تنتهى، فى البدء كان يذهلنى عندما كان يقول الشىء وعكسه، أو يفعل أشياء متناقضة، دون أى تمهيد، أما هذه المرة، فالمسألة تختلف، حزنه يزداد عمقا”.
يصل هذا الحزن الى ما يقترب من الإكتئاب، خاصة عندما تزيد الصحراء والواحة من تناقضاته، وتكشف له نهائيا أنه باع كل شىء، وأن ترقيته ونقله الى سيوة لجمع الضرائب ليس إلا العقاب المؤلم والمركّز لذنوب الماضى، كانت فيونا هى أمله الأخير لسكينة النفس المفقودة، فقد ذكرته ب “نعمة” الحبيبة الزنجية الهاربة، واعتبرها الواحة التى يحلم بها، ولكنه يكتشف أن فيونا تنتظر الموت، فى نفس الوقت الذى يكتشف فيه أن الضابط وصفى يستعد لكى يحل محله، بعد أن أدى محمود ما طلب منه، انتهت مأموريته، وتم استخدامه بنجاح.
لكن السؤال الهام هو: إذا كانت الدراسة النفسية الجيدة لشخصية المأمور تنبىء بانفجار مفاجىء ومتوقع، فلماذا ارتبط الأمر بالمعبد على نحو يعيد ما فعله شمشون؟ الإجابة وفقا لسياق النهاية مفهومة، فعند هذا المعبد تأكد للمأمور عجزه وجبنه وتراجعه عندما اصطحب كاترين إليه، وهناك سقط حجر ضخم من المعبد على طفل يجلس أسفل نخلة، فى لمح البصر هرع المأمور والشاويش إبراهيم لحماية الصغير، ولكن المأمور تراجع، فى حين أنقذ الشاويش الطفل، اكتشف المامور أخيرا أنه كاذب حتى فى تمنى الموت، وأنه أجبن من أن ينقذ إنسانا، لأنه أصلا لم يستطع أن ينقذ نفسه.
نسف المعبد بالنسبة للمأمور يمكن فهمه على أنه تفجير لسنوات طويلة من ماض مخز مكتظ بالعجز والجبن والخيانة والكذب على النفس، ويمكن تفسيره أيضا كرد إنتقامى ضد كاترين التى وجدت فى عبارة مكتوبة على جدار المعبد، دليلا على اقترابها من اكتشاف قبر الإسكندر المزعوم، محمود بدأ فى كراهية كاترين بنفس الدرجة التى أحب فيها فيونا، ولاشك أن كاترين سببت له فى الواحة الكثير من المتاعب.
ولكن تدمير محمود للمعبد له مستوى رمزى شديد الأهمية لا يمكن استيعابه إلا بالربط بين أزمة محمود وتناقضات الإسكندر الأكبر كما عبّرت عنها الرواية، ليس من قبيل المصادفة أن يختتم بهاء طاهر القسم الأول من الرواية من عالم الظلمات، وأن يختتم محمود القسم الثانى من الرواية ليذهب الى عالم الظلمات، من المستحيل تفسير مغزى الحادثة الأخيرة بتدمير المعبد، إلا بالعودة الى الجزء الذى يحكى فيه الإسكندر، والذى يشكل العمود الفقرى للرواية، وبالمقارنة بين سرد محمود واعترافات الإسكندر، سنكتشف الكثير من أوجه التشابه.
يقول الإسكندر الأكبر إن أمه أوليمبيا زرعت فى نفسه اليقين بأنه ابن الإله منذ وعى على الدنيا، ويقول المأمور محمود إنه ” فى ثوان معدودة سقطت صورة ماض كاذب رسمتُه لنفسى، وسقطت معها كل أفكارى المنافقة عن الحياة والموت”. يقول الإسكندر : ” كان هناك دائما إسكندر آخر هو الذى ينتزعنى من الفرح. إسكندر الدم الذى يطرد إسكندر النغم، ظل هناك طوال عمرى القصير إسكندر ضد إسكندر”، ويقول محمود:” لا ينفع فى هذه الدنيا أن تكون نصف طيب ونصف شرير. نصف وطنى ونصف خائن. نصف شجاع ونصف جبان. نصف مؤمن. نصف عاشق”، يقول الإسكندر:” استغرقت كل مغامرتى فى آسيا سبع سنين، وكل حياتى فى الأرض ثلاثا وثلاثين سنة، لم أعرف فيها أبدا طمأنينة النفس”، ويقول محمود لنفسه وهو يتأمل رجاله النائمين:” استطاعوا أيضا أن يجدوا السلام والنعاس فى هذا القيظ . وحدى أنا العاجز عن النوم. أقضى الأيام والأعوام فى تلفيق صلح مع نفسى لايعيش طويلا. ما إن أقول إننى عملت ما ينبغى عمله، حتى يهزأ منى شىء فى داخلى، فأجرى الى الخمروالنساء، مثلما كان حالى وأنا مراهق وشاب .. ولكن أين هى براءة العمر الأول، عندما كانت الأشياء سهلة وبسيطة، وطمأنينة النفس تأتى دون تعب ولا تعقيد؟”.
الإسكندر ضحك على نفسه حين صدق أنه ابن الإله عندما استقبله الكهنة فى معبد آمون، والمأمور محمود ضحك على نفسه عندما اعتبر نفسه شهيدا اضطهده الإنجليز بالتحقيق معه، فى حين أنه تبرأ من العصاة ووصفهم بأنهم بُغاة، كما أنه أنكر الحقيقة، وقبل أن يخون لكى يحافظ على جلده، الإسكندر لم يفارقه الإحساس بالذنب، وخاصة عندما قتل الجندى الشجاع كليتوس، الذى أنقذه فى المعركة مع الفرس، ومحمود طاردته وصمة الخيانة حتى نهاية عمره، الاثنان روحان معذبان رغم الأمجاد والمناصب، لأنه ببساطة لا معنى لأن تكسب العالم، وتخسر نفسك، ولأنه من الحماقة أن تصدّق أكاذيبك.
على جدران المعبد ستنمو الأكاذيب والأساطير التى تمجد ابن آمون المزعوم، وستكتشف كاترين نصا يحمل صلاة تعتقد أنها رُفعت الى الإسكندر، ولكن محمود ينظرالى المعبد من زاوية أخرى، ويقول فى سياق مختلف فى حوار مع وصفى:” كان الفرس يستعدون لغزو مصر، وكنا نستعد لهم ببناء المعابد. عظيم! رأى الملك أن بناء المعابد أفيد للبلد من بناء جيش، وهو يعرف أن الفرس قادمون!”، وعندما يقوم بتدمير المعبد يصرخ قائلا:” يجب أن ننتهى من كل قصص الأجداد ليفيق الأحفاد من أوهام العظمة والعزاء الكاذب”، ويضيف:” هيا أيتها النار المقدسة، التهمى المعبد المقدس، لننتهى من هذه الحكايات كلها”.
لم يعد المعبد إذن كما تقول كاترين وسيلة حماية ورمزا للبلد كله، ولم يعد قدس الأقداس مكانا لتجلى الإله الذى يحمى الوطن من الخراب ومن الأعداء، فقد دخل الإنجليز، واحتلوا الوطن بسبب الخيانة، وانقلب ثوار الأمس الى خدام العهد الجديد، وأنكروا ما فعلوه، ولم ينجح المعبد سوى فى استقبال طارد الفرس لكى يحل محلهم الإغريق، وانتهى الأمر أخيرا فى القرن التاسع عشر، بأن يتحول المعبد الى مطبخ لإعداد الطعام.
المعبد بالتالى فقد دوره قبل نسفه بسنوات طويلة، وأصبح رمزا لماض تعيس، وتجسيدا لخيبة أولئك الذين فقدوا أنفسهم، والذين صدّقوا أكاذيبهم، لا يهم أن تكون فاتحا عظيما تحمل اسم الإسكندر، أو أن تكون مأمورا مصريا يجمع الضرائب فى سيوة، المهم أن تصالح نفسك، وألا تفقد الإنسان بداخلك، المعنى الرمزى الأهم فى تدمير المعبد هو أن التطهير من الذنوب له ثمن ضخم، وأن الميلاد الجديد لايمكن ان يتم دون ضحايا.
لا ينبغى أبدا أن يُفهم تدمير المعبد باعتباره سخرية من التاريخ، ولا ينبغى أن يفهم باعتباره سخرية من القداسة، ولكنه ثورة على التاريخ المزيف، وصرخة احتجاج على قداسة مزعومة، ونهاية تراجيدية من تلك النهايات التى لفتت نظر الإسكندر، وهو يقرأ ما قاله أستاذه أرسطو عن شعر المأساة، الذى يثير فى النفس الشفقة والخوف.
هناك جزء نبيل فى الإسكندر لم يتقبل أبدا فكرة أنه ابن الإله، وهناك جزء نبيل فى محمود لم يصدق أنه ضحية أو شهيد، بسبب ذلك لم يهنأ الاثنان بطمأنينة النفس، ولم يستريحا إلا بالموت، ويبقى الدرس العظيم بأنك لا تحتاج الى فتح العالم والموت محموما فى بابل، لتدرك أنك إنسان ولست إلها، ولا تحتاج الى السفر الى سيوة لكى تواجه نفسك، وتهدم معبد أكاذيبك.
بهاء طاهر يقول لنا فى “واحة الغروب”: الصحراء بداخلكم، والواحة أيضا، اختاروا كما تشاءون، ولكن تذكروا أن المعبد الذى لا يحمى صاحبه، ولا يحقق له الخلاص، ولا يعيد إليه إنسانيته وصدقه المفقود، يستحق حتما الهدم والتدمير.