‏هوية التشظي والانهيار في رواية مقاطع من سيرة أبو الوفا المصري

neamat al behery
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

نعمات البحيري

كثير من الأدباء تظل حياتهم تتراءى في أعمالهم الفنية فتتجلى في القصص والروايات والقصائد ولا يكتبون سيرتهم الذاتية. ولماذا يكتبونها ونحن لو جمعنا مجمل ما قرأناه لهم يصبح بمقدورنا على نحو أو آخر أن نستلهم التفاصيل الدقيقة لسيرهم الذاتية..

أشرف الصباغ واحد من هؤلاء يصر طول الوقت على أن تتجلى حياته وربما حياة الآخرين في قصص وروايات ومقالات وتراجم.. يضع الماضي والحاضر وربما المستقبل على المائدة وكل من رفقائه وأحداث حياته وشخصياته له حصته من الصمت والكلام وفى كل قصة أو رواية نصر صغير على إحساس الاغتراب عن الوطن وإغواء الفشل وراحة الإحباط، وهزيمة صغرى أمام إغواء الموت..

لم يكن في نيته في “مقاطع من سيرة أبو الوفا المصري” إضفاء آيات البطولة والثورة، لكنه التمرد المطلق على الثوابت الواهية التي ساهمت في تشويه الوعي وتشويه الحاضر وربما المستقبل. فضلا عن ثراء التفاهة وهدم وتدمير القيم وتحلل الإنسان المصري والعربي وتحلل القيم النبيلة والأصيلة وضياع الطريق والهدف.. كل هذا تعكسه صور مكسورة لمجموعة من الأصدقاء المثقفين في فترة السبعينات والثمانينات فيهم الفنان والكاتب والإعلامي والصحفي وكاتب المسرح والسينمائي ورسام الكاريكاتير. هم رفقاء السياسة والثقافة واللعب واللهو والجد والخمر يتباعدون ويتقاربون، توزعهم الإحباطات والهزائم على منافي صغيرة أو كبيرة وكل يختار منفاه بإرادته أو بقوة الدفع وأحيانا بالقصور الذاتي.

كان رفقاء الراوي يسعون سعيا دؤوبا ألا تسقط كره الحلم من أيديهم. حلم الحب والحرية والعدل الاجتماعي والجمال ثم صبغتهم الرأسمالية العالمية بنمطها الاستهلاكي حيث لا قيمة تعلو على قيمة السوق فيحتدم الصراع ليصير على أشده بين الأصدقاء وقد صاروا يعيشون حياة ملتبسة، حياة ليست بالحياة وغناء مثل النواح ورقص كالزار وثقافة مهرجانات وموالد وزفات منصوبة للحاكم و للمسئول الكبير ولأباطرة الفضائيات محتكري الحقيقة وتجار الأخبار والأفكار في رؤية ضبابية لا تخلو من التشظي وهاجس هدر القيمة والروح والحلم…

هذا ما فعله أشرف الصباغ في سيرته الفنية التي اختزلها في مقاطع من سيرة أبو الوفا المصري.. رواية في قطع صغير صدرت عن دار نشر جديدة “الدار” بالقاهرة يتبنى تدعيمها ماديا ومعنويا مجموعة من الأصدقاء الذين يفتقدهم طول روايته ويتباكى على أيامهم الراوي…

ويبدأ السرد بما آلت إليه الحال والأحوال وضياع الانسجام والتواؤم وانفراط عقد الأصدقاء حتى صار كل منهم يستخدم الهجوم كآلية دفاع آمنة تجاه الآخرين وتجاه الواقع الذي يلتهمه ويدهسه في دوامات الحاجة والفقر والبحث عن الذات التي تتخبط بين الوجود والعدم.. والراوي لا يتعامل مع الصديق المفقود في زحام الواقع باعتباره الابن الضال ولكن باعتباره نتاج الواقع وتحصيل الحاصل..

ومن اسم الرواية نجد فعل الكاتب في البناء وطريقة السرد.. فالرواية على الرغم من تقسيمها إلى فصول تأخذ أرقاما إلا أنها مقاطع كاشفة عن هوية الثقافة وترديها في منظومة إعلامية كاذبة ومزيفة تتحرك في إطار خطاب سلطوي قائم على التبرير والمنفعة طول الوقت. يعكس الشخصية المصرية وما آلت إليه عبر ثلاثين عاما حتى تسعينات وبدايات قرن جديد. تزداد حدة التناقضات وتأخذ سمتها بالهوة الشاسعة بين الفوارق الطبقية والهزائم والإحباطات وضياع الطريق وحالة الفراغ الروحي والسياسي والإنساني التي يتم ملؤها بثراء التفاهة على كل المستويات والأصعدة..

“العالم يتغير، وبالله عليك ماذا في إذاعة الحرية؟ وما العيب في العمل الصحفي الخالص بدون أفكار أو توجهات؟ هل هناك ما يثبت أن المخابرات الأمريكية هي التي تمول هذه الإذاعة؟ إنها مجرد شائعات أطلقتها أبواق وسائل الإعلام المغرضة وربما سربتها المخابرات الأمريكية نفسها من أجل أن توهم العالم أن كل شيء بيدها”..

استخدام الراوي لضمير المتكلم أسهم في تأكيد تشابه الشخصيات التي راحت تبدو كشخصية واحدة وإن كانت مركبة ذات طبقات متعددة كالطبقات الجيولوجية شديدة التعقيد والفارق يكون في الدرجة وليس في النوع في تبادل العنف والبحث عن المال والقوة والسلطة، شخصيات تحاول دائما إيجاد حلول بديلة وسريعة وتجيد القفز على الفرص السانحة وغير السانحة.. تنتظر من يشاركها القيم والاهتمامات والقسوة على الآخرين وتهميشهم والحصول على علاقات جاهزة بشروط الواقع وقيمه الهشة والسريعة مثل وجبات التيك آواي..

وفي هلاوس وضلالات الخمر تصل كشوفات الراوي إلى أعلى درجات تجليها ونحن نراه وقد أسقط كل أبطاله الثوريين وصار هو نفسه البطل الثوري ولكن بشروط المرحلة. السرد في رواية أشرف الصباغ كائن عضوي قائم بذاته كقيمة جمالية وفنية تتفادى معها الإحساس بالملل رغم “تكسيرات” الصور الشخصية والفنية للشخصيات وانعكاس الواقع عليها بكل متغيراته. وحين تسحبه الرمال الناعمة للهزائم المتوالية والاحباطات يأخذه الصمت والتأمل، وتنطلق سخرية لاذعة تطوى الواقع وكأنها تدينه..

“أن لا صوت يعلو فوق صوت “نانسي عجرم” فلا اللمبي ولا فيفي عبده ولا محمد هنيدي ولا حتى الاستاذ شعبان عبد الرحيم يمكن ان ترتفع أصواتهم فوق صوت المعركة، ونانسي عجرم ليست معركة وإنما هي معارك الدنيا والآخرة.. موقعة حطين والجمل وجلجامش والمنيرة والزاوية الحمراء والسنبلاوين. نانسي هي المعركة الفاصلة التي تستخدم فيها كل الأسلحة التقليدية وأسلحة الدمار الشامل، بما في ذلك النووي والذري والكيماوي والبيولوجي”…

وفي المقطع التالي يختزل أشرف الصباغ رؤيته للواقع الذي لا يخلو من إدانة حتى الذات الراوية مازجا عامها بخاصها:
“في الصمت كما في الخمر تجلس مع نفسك تواجهها، يكون هناك متسع من الوقت لامتلاك الشجاعة من أجل الجلوس مع النفس ومن الممكن أن تتحول هذه الشجاعة إلى “فروسية” لكي تتمكن أنت نفسك من أن تبصق في وجهك”..

وعن هزيمة المثقف بداخله يقول:
“وللخمر قوانين لا يخالفها إلا الجاحد بالنعمة والناكر للجميل وفى رحابها تتكسر حدود الواقع وتتمدد مساحات الخيال وتنهار كل الأطر والحواجز..
“كان الضحك يبدأ عندما تفعل الخمر أجمل أفاعيلها فيحكي كل منا لقاءاته بعبد الناصر عندما كان يسير متنكرا من أجل الاطمئنان على أحوال الرعية، وأنور السادات عندما كان يحشش في إحدى غرز شبرا، ثم تأتى مرحلة البطولات الكبرى والتعذيب على أيدي أجهزة الأمن بسبب النشاطات الشيوعية أو التضحية بالمستقبل في سبيل الفقراء والطبقة العاملة والفلاحين”. وقد اختزل في سطور قليلة انهيار وتداعي دور النخب في تحقيق أحلام الطبقات الكادحة..”.

والراوي لا يهتم بمحاولة فهم ماذا حدث للحياة في مصر بطريقة مباشرة، لكنه عبر السرد يجعلنا نحن نحاول فهم ما حدث للمصريين عبر الثلاثين عاما الماضية مع تحليل- شديد الفنية- يعكس الأنساق الاجتماعية ومعضلاتها الثقافية والسياسية..

ثم يراوح الكاتب عبر تقنيات السرد بين زمن الانفتاح وانفتاح موسكو حين سافر ليدرس ويعمل، ثم سرعان ما يفقد وظيفته في الوقت الذي صار فيه الأصدقاء نجوما في الصحف والتليفزيونات وعلى الفضائيات..

لا يعتمد الكاتب في روايته المفهوم الارسطي في النص الأدبي حيث الالتزام بالبداية والعقدة ثم الحل. فالرواية تتحرك في أفق واسع مترامي الأطراف ليمنح القارئ فرصة ذهبية لأن يشتعل خياله كما لم يلتزم بوحدة الزمان والمكان، فليس هناك احداث في زمن واحد أو مكان واحد كما يحدث في الرواية التقليدية ولكن هناك أزمنة متعددة، وأماكن متعددة تتوافق مع أسلوب التداعي الحر.

والراوي، وهو الشخصية الأساسية مشتت وفاقد القدرة على التركيز، أحيانا يتناول شخصياته من الداخل ويستبطن وعيها، ثم وفى مكان آخر يتناول شخصياته من الخارج ويعقد لها محاكمة..

وعن لسان بطله يقول أشرف الصباغ مخاطبا المثقف العضوي الذي يجب أن يلعب دورا تنويريا أو تثويريا:
“أنت نفسك وهم لا يتجسد إلا في سلخي وسلخ رغباتي بكلامك الفارغ الذي لا أفهمه.. أنا لا أراك أصلا هل سألت يوما ما أحدا عن رزقه ورزق أولاده.. هل حضرت جنازة أمي.. هل سألتني يا صاحب العقل المضيء كم أكسب يوميا وعلى أي دخل أعيش..”..

السرد في رواية أشرف الصباغ أشبه برياضة روحية في الوقت الذي يسعى كل شيء حوله سواء في بلاد المنشأ أو بديل الوطن وسقوط روسيا وتفككها إلى نسف الطمأنينة والأمان بداخله وبداخل شخوصه.. حتى السخرية اللاذعة أحيانا تستطيع أن تستخلص منها إدانة صارخة للواقع ومتغيراته…

“الأصدقاء الذين صاروا في لمح البصر نجوما في الصحف والتليفزيونات، بل وصار جزء كبير منهم محللين سياسيين ومتخصصين في علم السياسة والثقافة والقانون الدولي واللاهوت”..

وبين توجيه الإدانة ودفع الهجوم بهجوم مواز ينفي الراوي عن نفسه ضعف الدفاع:
“كان لابد أن يصنع كل واحد منهم لنفسه سيرة ذاتية جديدة مطعمة ببعض بنود النضال ضد الإمبريالية والاستعمار وأنه صحفي وسياسي بالوراثة ولكن ظروف النضال السياسي دفعته للعمل نجارا أو بائع أحذية أو تاجر شنطة من الذين كانوا يملأون الاتحاد السوفييتي سابقا”..

وعن هزيمة المثقف أمام ضراوة الواقع:
“خالد السايح الذي سرق فكرة المسرحية التي اقترحها على فريق التمثيل بالجامعة وأعطاه دورا صغيرا ونفذ العرض بنفسه وانطلق من أنه لا حاجة لديكور ولا أثاث أو ملابس. ثم تطورت الفكرة وأصبح العرض لا يحتاج إلى مكان، كما أصبح الجمهور غير ضروري. وأصبح على الممثلين أن يتفرجوا على أنفسهم ولكن المشكلة التي واجهتهم في ذلك كيف يمثلون ويتفرجون على أنفسهم في نفس الوقت..”..

وعبر الكثير من “مقاطع من سيرة أبو الوفا المصري” يستطيع القارئ عبر الصور الفنية لحركة الشخوص داخل الواقع أن يستبطن أن ثمة ضميرا فنيا يحاكم الشخصيات، بما فيها الراوي أنهم لم يكونوا يوما على مستوى الحلم أمام هزائم وكوابيس الواقع..

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم