وُصِفَ فيلم “الصمت” Silence، المُستوحى من رواية للكاتب “شوساكو إندو” تتناول قصة آباء قسيسين ينتمون لما يعرف بـ “الرهبنة اليسوعية” في يابان القرن السابع عشر، بأنه “المشروع الذي كرس له مارتن سكورسيزي عاطفته وحماسته”. لكن المفارقة أن غالبية أعمال سكورسيزي ينطبق عليها هذا الوصف من الأصل.
وربما يبدو مغرياً للمرء تقسيم مسيرة هذا الرجل إلى قسمين؛ أولهما يضم أفلاماً ذات طابع تجاري، والثاني يشمل أعمالاً أخرجها سكورسيزي لأهدافٍ ربما توصف بالشخصية (مثالٌ عليها تلك الأفلام التي لا يُرجح أن تُدِرُ أرباحاً كبيرة).
ولكنك إذا نظرت عن كثب إلى الأعمال التي تندرج في إطار النوع الأول مثل “ذئب وول ستريت”، أو “المغادرون” – الذي حصل بفضله سكورسيزي على جائزة الأوسكار الأولى والأخيرة له حتى الآن – فستجد الأسلوب الفني لهذا المخرج الشهير واضحاً فيها، وكأنما مَهَرَ هامشها بتوقيعه، لتبدو كرسالةٍ منه إلى المؤمنين بقدراته الفنية.
وفي أحدث أفلام سكورسيزي؛ نرى الأبيّن اليسوعييّن القادميّن من البرتغال: رودريغيز (يجسد دوره الممثل آندرو غارفيلد) وغاروبيه (الممثل آدام درايفر) مفعميّن بالرغبة في التبشير بالكتاب المقدس، ولكنهما يُجبران على القيام بذلك سراً، بعيداً عن الأعين الساهرة للنظام العسكري الإقطاعي الحاكم وقتذاك في اليابان، والذي كان يُعرف باسم “توكوغاوا شوغوناته”.
ففي ظل التعذيب البشع الذي كان يتعرض له المسيحيون اليابانيون إذا ما ضُبِطوا وهم يمارسون شعائر دينهم، من قبيل حرقهم ببطء بسوائل مغلية حتى الموت، أو تعليقهم من أقدامهم مع وضع رؤوسهم في حُفرْ، كان من المنطقي أن يتوقع القساوسة الذين يلقنونهم هذه الشعائر مصيراً أكثر سوءاً.
لكن مبعث الخوف الأكبر بالنسبة لهذين الرجلين كان يتمثل في إمكانية أن يُجبرا على الإذعان لطلب بالارتداد عن دينهما والتخلي عنه، وسب ربهما علناً، وهو أمرٌ يخشيان من أن يكون معلمهما الأب فهيرا (الممثل ليام نيسون) قد أُرغم عليه.
فالتقارير الواردة إلى البرتغال أفادت بأن هذا الأب اختفى، وربما يكون قد فارق الحياة، أو نبذ الدعوة إلى المسيحية، أو ربما يكون قد اتخذ اسما وزوجة يابانييّن. ولذا يبدأ رودريغيز وغاروبيه رحلةً تستهدف تحديد مكانه والتعرف على ما حل به، واستكشاف ما إذا كان بوسع المسيحية البقاء في اليابان في غيابه أم لا.
غير أن فيلم “الصمت”، الذي حوله سكورسيزي وجاي كوكس، رفيق دربه في فيلمي “عصابات نيويورك”، و”عصر البراءة”، من روايةٍ إلى عمل سينمائي، يُغفل بغرابة سبب اضطهاد نظام “شوغوناته” للمسيحيين، في أعقاب انتفاضة نظمها اليابانيون الكاثوليك عامي 1637 و1638.
لكن العمل على أي حال، لا يتمحور حول وقائع التاريخ رغم أن أحداثه تدور في إطار تاريخي، كما أنه لا يركز بشكل خاص على المذهب الكاثوليكي، الذي طالما اشتبك معه سكورسيزي من خلال أعماله.
رودريغيز وغاروبيه بدورهما ليسا رجليّ دين مُحاطيّن بهالات القداسة، بل مبعوثيّن مُخلصيّن وجاديّن.
فإذا ما نزعت عن رودريغيز – مثلاً – ذلك الزي الذي يرتديه لملائمة الفترة الزمنية التي تدور فيها الأحداث، فستجد أنه بشعره المشعث الذي يُعيد خصلاته إلى الوراء، لا يختلف كثيراً عن الشبان الذين يحملون لافتات تأييد حزب ما، ويجوبون شوارع المدن لفتح حوارٍ مع المارة بهدف الحصول على تأييدهم لهذا الحزب.
يواصل رودريغيز في هذا الفيلم أداء مهمته رغم وجود العديد من الخصوم من ذوي الميول الإيديولوجية المتنوعة ومثله مثل بعض الليبراليين ممن يكرسون وقتهم لرفع شعارات الإصلاح الاجتماعي أو الدعوة إلى رفاهية الإنسان، يبدو هذا الرجل عرضةً لخطر أن يعميه تفانيه هذا، ليصبح عاجزاً عن إدراك القدر الذي يستطيع الناس – الذين يبشر بأفكارهم وسطهم – استيعابه حقاً من تلك الأفكار.
كما قد تؤدي التبعات السلبية لهذا التفاني إلى جعل رودريغيز غير راغبٍ في التفكر والتبصر في عواقب أفعاله من أي منظور آخر، بخلاف منظوره هو.
وبدا البعض من هؤلاء عازمين بحق على محو “بلاء المسيحية”، بينما كان آخرون أقرب إلى أشخاصٍ ساديين مستعدين لممارسة نزعاتهم هذه مع آخرين مقابل أجر. ويتمثل خصمه الأقوى، أو الغريم الذي يخوض ضده أكثر معاركه ضراوة، في شخصية تحمل اسم “إينووأ” (يجسدها إيسيه أوغاتا الذي قام من قبل ببطولة فيلمي “يي يي” و”توني تاتشيتاني”).
ورغم أن ألوان العذاب التي يبتكرها هذا الرجل لتحيق بأولئك الذين يمارسون شعائر ديانتهم الممنوعة تتسم بطابع شيطاني ووحشي بحق، فإن أسلوب تجسيده لشخصيته كمحققٍ في الفيلم جعلته أقرب كثيراً إلى شخصيات القصص المصورة (الكوميكس)، إذ يتحدث الإنجليزية بصوتٍ مجلجل وطريقة مُنغّمة، وكأنه يتلو الأجزاء الأخيرة المحورية من دعابة قاتمة لا يفهمها سوى أعضاء جماعة أو طائفة بعينها.
وحتى ظهور هذه الشخصية على الشاشة، يبدو الفيلم – بشكل أو بآخر – كما لو كان سرداً مباشراً وواضحاً لإحدى قصص الاضطهاد الديني. لكن “إينووأ” يرتدي في العمل عباءة أحد محققي روايات الكاتب الروسي فيودور دوستويوفسكي، طارحاً سلسلة من الأسئلة على رودريغيز تزعزع أسس إيمانه، وتربطه في نهاية المطاف بالتاريخ الطويل والدموي للاستعمار الأوروبي.
وبحسب أحداث الفيلم؛ كان رودريغيز معنياً في الأساس بالتبشير في أوساط المتحولين دينياً. وهنا نجد “إينووأ” وهو يُذكّره بالكيفية التي جرى بها إقناع عددٍ كبيرٍ للغاية من اليابانيين باعتناق المذهب الكاثوليكي، ويُذكّره كذلك – وهذا هو الأهم – بالغاية التي حدث ذلك لأجلها.
ومثلما حدث في “ذئب وول ستريت”، يوازن “الصمت” ما بين جانبي نمطٍ وحشي منقسمٍ على نفسه يتصارع كل جانب منه مع الآخر. فقصته مؤثرة على نحو عميق، ومقلقة ومزعجة بعمقٍ وعن عمد في الوقت نفسه.
فالفكرة المبتكرة التي يتفتق عنها ذهن “إينووأ” تتمثل في تهديد رودريغيز؛ لا بإلحاق أذى بدني به وإنما بتعذيبه روحيا، خاصة عبر إشعاره بالألم والكرب جراء رؤية المعاناة التي يكابدها رفاقه المسيحيون.
كما يواجه المحقق الياباني هذا الأب اليسوعي رودريغيز بفكرة مفادها أن تقواه وورعه ليسا سوى ضربٍ من التفاخر والخيلاء، وبأنه إذا ما كان يعبد إلهاً ما – وخاصة المسيح الذي يؤمن المسيحيون بأنه ضحى بنفسه في سبيل البشرية – فإن عليه إذاً أن يغدو قادراً على تقديم تضحية مماثلة، حتى وإن كانت في صورة الكفر علناً بالمسيحية.
وهنا يظهر السؤال بالنسبة لـ”رودريغيز”: هل يفترض أن يسير على درب يسوع، أم أنه في محاكاته له سيكون مُرتكِباً لضربٍ من الغطرسة ليس له نظير؟
وفي اللحظات التي تسبق القبض عليه في النهاية؛ يجثو رودريغيز على ركبتيه ليلمح انعكاس وجهه في المياه. ولوهلة؛ تتبدل ملامح الوجه لتُفسح المجال لظهور صورة مرسومة لوجه المسيح. ربما يرى المرء ذلك على أنه رؤيا، أو قد يعتبره مجرد هلوسة يائسة، وذلك بناءً على مدى إيمانه.
لكن السؤال الأكثر إزعاجاً في الفيلم، يلوح في خضم عالمٍ يتداخل فيه التبشير بالمسيحية مع الإبداع الفني. فقبيل نهاية رحلته، يضطر رودريغيز أخيراً للتساؤل عما إذا كان الناس الذين جعلهم – ولو ظاهرياً – يتحولون إلى المسيحية؛ يعرفون طبيعة ما يعبدونه حقاً أم لا.
إذ يعمد هؤلاء إلى جعل أيقوناتهم وحتى صلواتهم أشبه بالأيقونات والصلوات البوذية. فهل إقدامهم على ذلك، يعني تشبثهم بالإيمان أم تحريفهم وتغييرهم له؟ وهل يمكن أن ينقل المرء عقيدته إلى غيره، أم أن الأمر لا يعدو علاقةً بين المرء وما يعبده من إله أو آلهة؟
لنحو 50 عاماً، عكف سكورسيزي على حفر أفكاره وقناعاته على أشرطة أفلامه السينمائية، لكن معاني هذه الأفكار والقناعات لا تزال غامضةً وسريعة الزوال، أكثر من أي وقت مضى.
في نهاية المطاف، لا يشكل “الصمت” فيلماً يمكن حل رموزه أو إيجاد حلٍ لألغازه، بل عملاً يجدر تأمل ما ورد فيه من أفكار. فهو لا يمثل حكايةً رمزية لأخذ العظة والعبرة، وإنما يعبر عما يطلق عليه البوذيون اسم “كوان”، في إشارةٍ إلى اللغز أو القصة الحافلة بالتناقضات، التي تُروى لإثبات أن التفكير المنطقي ليس كافياً في كل الأوقات.
…………………
*نقلاً عن بي بي سي