بصري محمد
لا يمكن أن يختلف اثنان في بنية السياق الفقهي الديني السلفي الحنبلي ومرجعياته
و المتشبث بحرفية النص وثباته و الذي ينتمي إليه أبو العباس أحمد بن عبد السلام النُميري الحراني المشهور بابن تيمية (1263/1328 م) .لكن قد يبدو القول مجازفة غير معقولة شرعيا إذا وضعنا ابن تيمية في سياق المتكلمة والمتفلسفة الذين اتهموا بالزندقة والخروج عن الملة و إجماع أهل السنة والجماعة . لا يمكن الجمع بين الفلسفة واللاهوت في خلطة ثقافية متجاوزة للحقائق والتاريخ لأن ذلك يعتبر مماحكة تلفيقية وخروج عن الأطر التاريخية في تقرير السير والترجمات لشخوص العلماء بل اختراق للمألوف والمعلن في تقييد سير الفقهاء. لكن الغوص في دفاتر ابن تيمية ومخطوطاته ورسائله وكتاباته التراثية يجعل الباحث يتريث في إصدار حكم قيمة ويعيد أشكلة أسئلة تقليدية هي بمثابة يوتوبيا ميتافيزيقية وطابوهات فقهية أو نوع من المغامرة الإبيستيمولوجية التي تتجاوز التقليد وتراهن على تأويلية ظرفية تتجول في ثقافة هذا الرجل الثائر والمثقف الاصولي الذي مازال الاعتقاد السائد أنه الأب الروحي لكل الأصوليات الجهادية الراديكالية وهو شكل من الانزياح السلبي في الرؤية التصورية للفكر الماضوي أو المحاكمات الايديولوجية لثقافة معينة . السؤال هل كان إبن تيمية ثيولوجيا؟
إبن تيمبة كان علَمًا وفقيها وحافظا للسنن والمتون والمدونات الكبرى في الفقه مدونة مالك والشافعي أحد أئمة الجرح والتعديل .
مراد وهبة جبران 1926 المفكر والفيلسوف الاسيوطي المصري يرى في أن المرجعية الفكرية لابن تيمية ألحقت ضررا بالفلسفة واعتبره رافدا من روافد الطفيلية الاصولية التي أعاقت الحركة العقلانية العربية المعاصرة .1
خاض إبن تيمية في مسائل كلامية وفلسفية إلى درجة الجدال والهرطقة بالمفهوم اليسوعي. فقد ردّ الكثير من مقولات الأشاعرة و نقض مبادئهم في القول بالكسب بل كان ميالا لرأي المعتزلة وهم الطائفة الأكثر بغضا وهامشية في أفق التفكير الفقهي السلفي وهو ما ذكره المفكر التونسي أبو يعرب المرزوقي. بل جرأة هذا الفقيه والتي يقفز عليها كثير من أنصار اليقين الحرفي التصديقي أنه دافع عن الحرية الثقافية والفكرية حسب هذا المثقف العالم، لأنه حسب المرزوقي الحرية يترتب عنها مسؤولية والكسب يُخل التوازن بالميتافيزيقي بين المسعى الذي تفتحه الحريات أمام مسؤوليات الإنسان العاقل المكلف.الإنسان الكاسب لفعله عن طريق ارادة الله كما ترى الأشعرية هو نسف للإرادة الحرة وهو ما رفضه إبن تيمية.تبدو هنا منهجية هذا الفقيه بعيدا عن التأصيل الشرعي والديني العلمي و فرادة ثقافته الاصولية فقد كان إثمولوجيا يهتم بجذور المفاهيم وشبكاتها المعرفية وهنا تطفو شخصيته كفيلسوف مفاهيمي لتطيح بالصورة النموذجية النمطية التي لصقت به تاريخيا أي الأصولي والسلفي المتزمت لمذهب أهل السنة والجماعة.
في إحدى مرافعاته الكلامية نجد إبن تيمية متحديا الجهمية المعتزلية والضرارية و النجارية الذين نفوا الصفات وقالوا بخلق القرآن وأنه كلام مخلوق في جسم من الأجسام المخلوقة ولم ينفي عنهم تموقعهم في عقائد السلف أن الله لا يرى يوم القيامة وأنه ..وهو يبدو تفكيكيا حين ينقل الجدل العظيم بين الجهمية ودعاة القول بالخلق وبعض المتأخرين من المعتزلة من مركزية خلق القرآن إلى هوامش جزئية ترفع من مقام كلام الله حول الشبه المتأتية من حوار قديم حول التنزيل واللغة والجسم الذي تجلى فيه كتاب الله ووحيه.
من المقاربات الخطرة في عالم الفكر هو التصنيف والتنميط وحرب السياقات والأنساق.توريط مفكر أو مثقف أو داعية في حركة سياسية أو الحجر عليه في نسق هو عين الظلم.الايديولوجيا تغدو كثقافة ومنهج خائن حين نصادر العلماء والعارفين مواقفهم ومواقعهم لصالح تلك النزعة أو ذاك الفكر.نمط من العماء الايديولوجي الذي يقفز على الحقائق الموضوعية بإدعائية انتقائية وتشويه غير مبرر مخالف للواقع كما يرى بول ريكور.
الصورة النمطية الموروثة في تصور إبن تيمية، أنه مجرد فقيه غارق في تأصيل الاجتهادات الحرفية. إبن تيمية كان انتقائيا يلتقط الافكار الصارمة والمنضبطة والفكرية التي تتناغم مع عقيدة التوحيد وإن سلبه موقعه السلفي الذي يزعمه أنصاره الذين يميلون إلى آرائه السياسية ويصادرون أفكاره الجوهرية ويسحقونها لصالح ايديولوجيا سلفية قتالية وأحيانا جهادية راديكالية.ابن تيمية الكاتب السجين الكئيب ليس هو إبن تيمية صاحب الرأي الفقهي الحر.رفض فكرة الكسب الأشعري واتجه الى مناصرة المعتزلة فهو المعتزلي حين يكون الأمر منوطا بالحرية في الفعل كما يقول يعرب المرزوقي.
توريط هذا الفقيه في أيديولوجيا نصية هو عنف مضاعف ضد هذا الرجل إحكام الإغلاق عليه داخل نسق سلفي ظلامي، أفقده حضوره الثقافي التاريخي العابر.تم تعمُد أدلجة إبن تيمية ، حركة التبرير والإدماج التي علق بها فكره واجتهاده كفقيه نصي لا تخرج عن تفسير بول ريكور بتأسيس أفق غامض بل تشويهها لإعطاء فرصة لثقافة سياسية ضبابية وراديكالية لتتمترس خلف رجل كان عصيا على الاستثمار والاختراق السلطوي .تم تشويه فكره وإدماجه داخل سياق سلفي ليس له ما يبرره تاريخيا.
يبدو أن إبن تيمية كان ثيولوجيا وعالم كلام وفيلسوف وأن ظلما كبيرا لحق به جراء القراءات الخاطئة لميراثه الفقهي .فهو المعتزلي في القول بالحرية والاشعري في الصفات والصوفي في المجاهدة والعزلة والخلوات والعقلاني في الدفاع عن العقائد.
…………………………..
1 -انظر مراد وهبة ملاك الحقيقة المطلقة مكتبة الاسرة ط 1 ص 210
* باحث من الجزائر