محمد العبادي
التقدم في أي مجال لا يأتي إلا بالصدق مع النفس وذكر العيوب قبل المميزات.. بالتالي إن أردنا أن نصنع مستقبلا حقيقيا لصناعة السينما المتهالكة فلنرصد عيوبها بحيادية وبدون مجاملة.
علينا أن نعترف أن أبرز عيوب السينما المصرية عبر تاريخها هو المبالغة في الاقتباس، أو قد نتخلي عن التأدب ونسميها “السرقة”.
كم هائل من الأفلام المصرية على مدى تاريخ السينما مقتبس عن أفلام من جنسيات أخرى.. وخاصة من السينما الأمريكية الجماهيرية.. ومقابل كل فيلم ينص صراحة على اقتباسه عن أصل أجنبي نجد عشرات الأفلام التي تم اقتباسها بدون التنويه عن العمل الأصلي التي أُخذت عنه.. ولا من شاف.. ولا من دري…
ربما كان هذا متقبلا أو معتادا في السينما “التجارية” التي تبحث عن الأفكار والنماذج الناجحة لتحاول أن تكتسب شيئا من نجاحها.. لكن الحقيقة أننا حين ندقق النظر نجد أثرا لهذا “الاقتباس” المتعسف حتى في الأفلام “الفنية” التي شاركت في المهرجانات الدولية.. وفي أعمال واحد من أهم مخرجي السينما العربية: يوسف شاهين.
لا أحد يستطيع أن ينكر القيمة الفنية والتاريخية لسينما يوسف شاهين.. أعتبره شخصيا من أفضل مخرجي السينما العربية خصوصا على مستوى الصورة والرؤية الفنية.. وبالتأكيد لن يحتاج شاهين لشهادتي، فاسمه يتصدر قوائم أحسن الأفلام المصرية والعربية في التاريخ.. لكنه يبقى في النهاية بشرا يخطئ ويصيب.. رغم أننا في بلاد تحترف تقديس البشر.
فيلليني وشاهين.. الأصل والصورة:
من المعروف للمهتمين بالسينما العالمية أن هناك تشابها بين سينما يوسف شاهين وسينما المخرج الإيطالي الفذ “فيديريكو فيلليني”.. خصوصا في المراحل المتقدمة من مسيرتيهما.. فنجد لدى المخرجين النظرة السيريالية للعالم.. كما نجد لديهما الميل للتجريب..والقدرة على خلط الدرامي بالتوثيقي في أفلامهم.. لهذا لقب البعض شاهين بـ”فيلليني العرب”.
ربما كانت بداية الالتقاء بين عالميهما ترجع إلى عام 1963.. حين شارك كليهما في مهرجان موسكو السينمائي.. عُرض ليوسف “الناصر صلاح الدين”.1963 وحصل على تقدير نقدي وجماهيري..خصوصا لإدارة الإنتاج الضخم وجودة تصوير ومونتاج المعارك والتعامل مع المجاميع.. لكن عُرض لفيلليني تحفته الأعظم “ثمانية ونصف”.1963.. الفيلم الذي بقي من علامات تاريخ السينما العالمية حتى الآن.. كان من الطبيعي أن يغطي حضوره على كافة الأفلام المشاركة ليحصل على كل الاهتمام النقدي والجماهيري.. وعلى الجائزة الكبرى للمهرجان بالطبع.
لكن يبدو أن فيلليني ظل ملازما لشاهين بعد ذلك.. ليس على مستوى المنافسة.. بل على مستوى التأثير الفني.. فانعكست أعمال فيلليني على سينما شاهين بشكل كبير.. أحيانا يبقى هذا الأثر في دائرة التأثير والتأثر الفني المتوقع– أو لنقل المشروع– بين الفنانين في المجال الواحد.. لكن في أحايين أخرى تزيد سيطرة أثر فيلليني على أجزاء من العمل فتصل لمرحلة التبعية والاقتباس المباشر.. أو.. هل نقول.. السرقة؟…
سيظهر هذا الأثر حين نحلل بالتدقيق عدداً من أفلام يوسف شاهين.. فحتى إن وجدنا اقتباسات من مخرجين آخرين (أهمهم بوب فوس).. سنجد ظل فيلليني ملازما لنا دائما…
إسكندرية ليه؟.1979:
هو الجزء الأول في رباعية يوسف شاهين عن حياته..وهو بالتأكيد من أكثر أفلامه أهمية.. ويمكن أن نعتبره الفيلم الذي فتح باب الاعتراف العالمي أمام شاهين بحصوله على الدب الفضي لمهرجان برلين (بغض النظر عن وجود أسباب سياسية وراء هذا الفوز)…
كان “إسكندرية ليه؟” بداية مرحلة جديدة في سينما يوسف شاهين.. بل وربما السينما العربية عموما.. لا أحد ينكر أهمية الفيلم وتميزه.. لكن ربما كان أيضا بداية ظهور الأثر الجارف لفيلليني على سينما يوسف شاهين..وإن ظل هذا الأثر محدودا بالمقارنة بما شهدناه في أفلام تالية..هناك روابط بين الفيلم وبين سينما فيلليني..تحديدا “روما”.1972 و”أماركورد”.1973.. يبدأ الارتباط من القصة الأساسية للفيلم.. فهنا يسترجع “جو” سيرته الذاتية في مرحلة المراهقة.. مع ربطها بالأسرة والمدينة “الإسكندرية”.. أمر مشابه لما قام به “فيديريكو” في “أماركورد” قبل سنوات..حيث استرجع سيرته الذاتية في مرحلة المراهقة.. وربطها بالأسرة والمدينة التي شهدت مسقط رأسه: بورجو سان جولياني. ريميني.
ترايلر أماركورد:
https://www.imdb.com/title/tt0071129/videoplayer/vi3793467417?ref_=tt_ov_vi
وإذا دخلنا في تفاصيل “إسكندرية” شاهين سنجد تشابها أيضا.. مثلا مشهد حفلة المدرسة المقامة خلال معركة العلمين متقارب مع مسرح المنوعات الذي عرض له فيلليني في “روما”..كذلك هناك تقارب كبير بين مشاهد المدرسة والأصدقاء في “أماركورد” وكلية فيكتوريا والأصدقاء في “إسكندرية”.. ويمكن أن نلاحظ تشابها كبيرا بين شخصية أوريليو: الأب الثري العصامي محدود الثقافة.. وشخصية والد محسن ثري الحرب.. الذي قام بدوره فريد شوقي.
مشهد مسرح المنوعات في روما فيلليني:
https://www.youtube.com/watch?v=oxi5RtAHVJU
حدوتة مصرية 1982:
الجزء الثاني من السيرة الذاتية لشاهين.. ربما هو أكثر فيلم أثار تساؤلات حول مدى الاقتباس من أعمال أخرى في سينما شاهين…
شارك الفيلم في المسابقة الرسمية لمهرجان فينيسيا السينمائي.. لكن ربط الكثير من النقاد بينه وبين الفيلم الأمريكي “كل هذا الجاز”.1979 الحائز على أوسكار أحسن إخراج قبلها بعامين.. وخرج الفيلم خالي الوفاض من جوائزالمهرجان.
والحقيقة أن الآراء التي تحدثت عن التشابه بين الفيلمين لها وجاهتها.. فالفيلم الأمريكي مقتبس من السيرة الذاتية لمخرجه بوب فوس.. مخرج استعراضي يحتاج لإجراء عملية قلب مفتوح.. وخلالها يسترجع تفاصيل حياته السابقة..أما حدوتتنا فمقتبس أيضا من حياة مخرجه.. مخرج سينمائي يحتاج لإجراء عملية قلب مفتوح.. وخلالها يسترجع تفاصيل حياته السابقة…
ترايلر “كل هذا الجاز”
https://www.imdb.com/title/tt0078754/videoplayer/vi469220121?ref_=tt_ov_vi
ورغم هذا التشابه الصارخ، فمن الظلم أن نعتبر “حدوتة مصرية” مجرد نقل عن “كل هذا الجاز”.. فبينما الفيلم الأمريكي هو فيلم استعراضي نجد أن المصري درامي وذو صبغة أكثر سريالية..لكن للأسف.. بالتدقيق في نقاط الاختلاف تلك بين الفيلمين نجدها قادمة من عالم سينمائي آخر.. فيلليني مرة أخرى.
فحين نرى الاستعراض السيريالي لحياة يحيى.. خصوصا مع عرض النساء اللاتي مررن في حياته.. وظهور يحيى الطفل كشخص مستقل.. نلاحظ التشابه الكبير بين هذه الخطوط السردية ومثيلتها في تحفة فيلليني السيريالية “ثمانية ونصف” المقتبس أيضا من حياة مخرجه..هنا أيضا نجد المخرج الطفل والسرد عن النساء اللائي ظهرن في حياته.. بداية من أمه وحتى مضيفة الطائرة ذات الصوت المميز…
مشهد “نساء فيلليني”. من ثمانية ونصف:
https://www.youtube.com/watch?v=1k8cQ1x0aAk
بناء على هذه الروابط بين الأفلام الثلاثة.. نجد أنه للأسف.. وعلى الرغم من جوانب التميز الفني في “تنفيذ” حدوتة مصرية.. إلا أنه افتقد الأصالة.. فأصبح مجرد نسخة ممصرة من إبداعات أجنبية.
إسكندرية كمان وكمان.1989:
الجزء الثالث من السيرة الذاتية لمخرجنا.. ومن عجب أن نجد أن أكثر الأفلام التي احتوت على نقل واقتباس من أفلام أخرى هي الأفلام التي من المفترض أن تكون منقولة من حياة مخرجها!!.. في هذا الفيلم الذي يعرض لعلاقة المخرج بممثله المفضل وأزمة نقابة السينمائيين.. يستخدم شاهين نمطه السريالي في السرد لينتقل بين عصر الإسكندر والعصر الحالي.. لكن لا تخلو سيريالية شاهين من سيريالية فيلليني مرة أخرى…
في مشهد هام يصل المخرج بمساعدة جرسون يوناني لمقبرة الإسكندر الأكبر.. التي ظل مكانها لغزا.. لكن ما أن يدخلاها حتى يداهمهما حفار ضخم يخترق سقف المقبرة ويدمر كل شئ.. المشهد هو مجرد إعادة لمشهد اكتشاف البيت الروماني في مترو الأنفاق الذي قدمه فيلليني في رائعته “روما”.
مشهد البيت الروماني:
https://www.youtube.com/watch?v=Wjtst-Vr87A
القاهرة منورة بأهلها.1991:
https://www.youtube.com/watch?v=2lkueLW7wGs
فيلم شاهين القصير عن القاهرة.. الفيلم الذي تسبب في المطالبة بسحب الجنسية منه. والفيلم الذي شهد الظهور الأول لخالد يوسف في عالم السينما…
استخدم شاهين في فيلمه خليطا بين تقنيات السينما الوثائقية والدرامية ليعرض للعاصمة الكبرى.. فصنع فيلما مكثفا كشف العديد من التفاصيل من أعماق القاهرة فتظهر كمدينة مرهقة بين طوفان التغير الاجتماعي والغليان السياسي…
يمكننا أن نعتبر هذا الفيلم أكثر أفلام شاهين القصيرة نضجا.. لكنه للأسف اتكأ على عالم فيلليني أكثر من اللازم…
حين نعود إلى “روما” نجد عند فيلليني نفس النمط “التوثيقي/ الدرامي” الذي استخدمه شاهين في فيلمه..تبدو الرؤية الفنية المستخدمة في الفيلميين متشابهة بدرجة تقترب من التطابق…
ربما يكون تحليلنا لهذه الأفلام على قدر من القسوة.. لكن أن نقسو على أنفسنا لنتطور خير من أن نغتر بـ”عالمية” وهمية.
لا أحد يستطيع أن ينكر أهمية وقيمة سينما “شاهين” لكنه وإن نجح في إبراز تميزه كمخرج على مستوى الصورة.. خانه التوفيق دوما على مستوى التأليف.. فبرزت هذه الاقتباسات الفجة بالذات في الأفلام التي تصدى لكتابة السيناريو لها.
إن الطرح الذي قدمته هنا ليس جديدا.. فنجد أثر لهذه الانتقادات والاتهامات موجود بين سطور العديد من المقالات التي كُتبت عن سينما شاهين.. لكن إدماننا لصناعة الأصنام وعبادتها دفع لتجاهلها…
المراجع:
مقالات:
- يوسف شاهين حدوتة مصرية. 3. سمير فريد. المصري اليوم. 28/7/2008.
- يوسف شاهين بين مثلث الاتهامات والإشاعات والدعاوي. عمر طاهر. الحياة. 12/3/1999.
- اسكندرية كمان وكمان في الميزان. مجلة الهلال.1/10/1990 . نقلا عن مدونة الناقد مصطفى درويش.
- عن رباعية يوسف شاهين: الحساب مع الذات. محمود عبد الشكور. عين على السينما. 19/11/2013.
كتب:
- أضواء على سينما يوسف شاهين. سمير فريد. مكتبة الأسرة. الهيئة المصرية العامة للكتاب. 1997
أفلام:
- إسكندرية ليه؟. يوسف شاهين. 1979
- حدوتة مصرية. يوسف شاهين. 1982
- اسكندرية كمان وكمان. يوسف شاهين. 1989
- القاهرة منورة بأهلها. يوسف شاهين 1991
- 8 1/2: Federico Fellini. 1963
- Roma: Federico Fellini. 1972
- Amarcord: Federico Fellini.1973
- All That Jazz: Bob Foss. 1979