حسن عبد الموجود
كنت أقرأ كتاب العالم البريطاني ريتشارد دوكنز “سحر الواقع” وقلت لنفسي إن المكتبة العربية تفتقر إلى هذا النوع من المؤلَّفات، التي يمكنها تبسيط علم الأحياء للناس، من خلال قصصٍ مدهشة، مكتوبة بلغة أدبية، وبنوعٍ من التشويق، لكن أخيراً وقع في يدي كتابٌ مذهل في لغته وفي تفاصيله وفي قدرته على شرح أفكار علم البيولوجيا، وهي أفكار تجدى صدى عند كل إنسان يريد أن يفهم ويعي سر الوجود، ومن أين تنشأ المادة وأين تذهب، وكيف يحدث التطور المستمر في الأحياء سواء في الإنسان أو الحيوان أو النبات.
الكتاب هو “كواليس الحب.. بعض أسرار البيولوجيا” للدكتور مدحت مريد صادق، أستاذ كلية علوم أسيوط بمصر. وما شجعني على اقتناء الكتاب هي مقدمة الكاتب المصري محمد المخزنجي له، فهو بدوره طبيب نفسي، وباحث مولع بالعلم، وقدم من خلال عمله بمجلة “العربي” الكويتية، على مدار سنوات طويلة، مادة علمية شديدة الثراء والتنوع والمصداقية. المخزنجي يصف مدحت مريد صادق، بأنه يحقق المعادلة التي صاغها العالِم والأديب البريطاني سي بي سنو لكاتب “الثقافة الثالثة”، أي الثقافة التي تجمع بين العلم والأدب، وهذه المعادلة تقول إنه مُشتغل بالعِلم، يمتلك موهبة أدبية، ويكتب في الثقافة العِلمية بجماليات الأدب، وبمستوى عالمي.
المخزنجي يؤكد أن المؤلف يبحر في نهر البيولوجيا، ويصحبنا في رحلة ممتعة يرينا فيها كنوز هذا النهر حتى أعمق أعماقه، بدقةٍ وتمكُّن وسلاسة، وجمال كتابة تنتمي إلى كتابات باقة الكبار النادرين من كُتَّاب الثقافة العِلمية في عالمنا العربي وبمستوى عالمي قياساً على ما يقرأه من كتابات مهمة في هذا الأفق.
بعد مقدمة المخزنجي تطالعنا مقدمة المؤلف نفسه، حيث يتساءل ما الذي يحدث بين الميلاد والممات؟ بل ما الذي يحدث قبل لحظة الميلاد؟ كيف يتشكَّل الكائن على هيئته التي نألفها؟ ما الذي يجري داخل جسمه من طور إلى طور؟ وكيف يعيش ويتكاثر ويعقب أفراداً تشبهه؟ وما السر في تنوع الأحياء؟ وما المشتركات التي يتقاسمها الإنسان مع غيره من الكائنات؟ هل هناك كائنات غير الإنسان تملك القدرة على التفكير والتدبُّر، أم أن التفكير صفة بشريَّة خالصة؟ وإذا كانت هناك كائنات تفكر، فكيف تقوم بذلك؟ وما حدود قدراتها؟ مؤكداً أن هذه الأسئلة، وغيرها، هي بعض ما يشغل علماء البيولوجيا، ومن ثَمَّ يُفترض أن تكون البيولوجيا حقلاً ممتعاً.
الكتاب يحتوي على عدد من الفصول كلها تتضافر لتقريب وتقديم صورٍ غريبة من عالم الأحياء، لكنني في هذا العرض القصير أختار ثلاث قصص، الأولى تتعلق بظاهرة تجدُّد الأعضاء. يحكي المؤلف: لو أن إنساناً فقد إصبعاً من يده في حادثة مثلاً، فإنه في الغالب سيمضي بقية عمره دون أن ينبت له إصبعٌ آخر، لكن الحال ليست هكذا في عالم الحيوان، فلو أنك أمسكت بكائن كالجمبري مثلاً ثم قطعت جزءاً من إحدى أرجله وأعدته إلى الماء ثانية، فإن جزءاً آخر سرعان ما ينمو في المكان نفسه. لا يهم إن كان الجزء الذي قطعته صغيراً أو كبيراً أو حتى رِجْلا كاملة، فالذي يحدث هو تكوُّن جزء جديد مساوٍ بالضبط للجزء المبتور أيَّاً ما كان حجمه. والمدهش أن الطرف الجديد لن يختلف في صفاته عن الطرف الذي سبق قطعه، ولو أن أحداً غيرك هو الذي قطع إحدى أرجل الجمبري، ثم عرض عليك الحيوان بعد تمام التجدُّد، فلن يمكنك التفريق بين الأرجل القديمة والرجل المتجددة. أكثر من ذلك أنك إذا أعدت قطع الطرف المتجدد، أو جزء منه، فإن الكائن سوف يعيد تكوين الجزء المفقود، وبالكفاءة السابقة نفسها، بل هناك بعض القواقع إذا قطعت رأسها فسوف ينمو لها رأس آخر مكان الرأس المقطوع! هناك أيضاً ما هو أكثر من ذلك، ففي ديدان الأرض ونجوم البحر، إذا قُطِّعَ الفرد الواحد إلى خمسة أجزاء مثلاً، فإن كل جزء لا يلبث أن يجدد ما ينقصه من أنسجة ويتحوَّل إلى فرد كامل. وهناك دودة يعرفها البيولوجيون، اسمها «بلاناريا»، تقطِّع جسمها إلى نصفين، ثم يكوِّن كلُّ نصفٍ نصفَه الآخر، لينتهي أمر الدودة إلى دودتين.
العالم شارلي بونيه اجتهد لتفسير عَمليَّة التجدد، فقال إن الحيوان يمتلك عدداً هائلاً من نسخ كاملة ومصغرة جدَّاً له، تنتشر في جميع أرجاء جسمه، وإنك عندما تقطع رجل الجمبري مثلاً، فإن النشاط يدبُّ في الرجل الدقيقة للنسخة الأقرب إلى موضع القطع، فتنمو إلى رجل جديدة، بمعنى أن الحيوان لديه احتياطي ضخم من كل أعضائه وأطرافه، وهي أعضاء موجودة مسبقاً، لكن أحجامها دقيقة جدَّاً وغير مرئيَّة، وموزَّعة على جميع أنحاء الجسم، فإذا قُطع أحد الأطراف استدعى الحيوان على الفور أقرب هذه الأطراف الاحتياطيَّة الصغيرة جدّا لينمو ويحل محل الطرف المبتور! وفي قصة أخرى يحكي أن العلماء حاروا في أمر ثعبان السمك فترة من الزمن، ولم يفهموا قصته إلا قبل خمس سنوات تقريباً. كانت المياه التي تغترفها السفن، لأغراض مختلفة، وهي تمخر عباب المحيط الأطلنطي، تخرج محملة – ضمن ما تحمله – بديدان نحيلة وضئيلة. ونظراً لأن العلماء كانوا يعرفون أن ثعبان السمك لا يعيش إلا في مياه الأنهار والبحيرات العذبة، ظنوا أن هذه الديدان الصغيرة حيوانات أخرى غير ثعبان السمك، خصوصاً أن أطوالها كانت أقصر من عود الثقاب. أخيراً، فحص العلماء هذه الديدان النحيلة فوجدوا أنها «أطفال ثعابين» السمك. كانت مفاجأة ليس لها إلا تفسير واحد، هو أن هذه الصغار عائدة من المحيط إلى موطن آبائها في الأنهار، بعد أن هاجر آباؤها إلى المحيط بقصد التزاوج. أما كيف ومتى تحدث الهجرة، وأين مقصدها، فهو ما عكف العلماء على دراسته، ليكتشفوا تلك الحكاية الأغرب من الخيال.
لم يكتشف العلماء، بحسب المؤلف، سر ذلك النداء الغامض، الذي يستدعي حشود ثعابين السمك من أنهار شرق الأطلنطي وغربه، ويقتادها مسلوبة الإرادة إلى بحر سارجاسو، كما «نداهة» الكاتب يوسف إدريس. لكنهم اكتشفوا الكثير. عرفوا مثلاً أن الزفاف الجماعي لثعابين السمك في بحر سارجاسو يتم على عمق 300 متر. عرفوا أيضا أن الذكر يلتقي بالأنثى مرة واحدة أو اثنتين على الأكثر. وعرفوا كذلك أن الذكر لا يعيش بعد اللقاء الجنسي إلا يومين أو ثلاثة، وأحياناً بضع سويعات، وأن الأنثى ليست بأوفر حظَّاً منه، فهي بدورها لا تعيش بعد اللقاء الجنسي إلا فترة زمنية تكفي بالكاد لوضع بيضها المخصب.
وفي فصل ثالث يتساءل الكاتب: هل يعرف الحيوان صورته في المرآة مثلنا؟ ويجيب: قبل أكثر من أربعين عاماً، أجرى عالِم أمريكي، اسمه جوردون جالوب، أول تجرِبة في هذا المجال. كان يعرف أن الحيوانات كثيراً ما تلاحظ صورها على صفحة المياه مثلاً عندما تشرب، لكن المؤكَّد أن اضطراب الماء بفعل حركة الحيوان ذاته يشوِّه الصورة ويبددها، وبالتالي ربما لا تكون أمام الحيوان في الطبيعة فرصة حقيقيَّة لمعرفة صورته. لهذا أحضر جالوب مرآة ووضعها في أحد أقفاص الشمبانزي. في البداية تعاملت القِرَدة مع صورها وكأنها حيوانات أخرى، ولكن بعد فترة بدأت الحيوانات ترتاب في الأمر وتؤدِّي حركات استطلاعيَّة أمام المرآة، وسرعان ما عرفت الحقيقة. ويضيف: لنا أن نتخيَّل مقدار الذهول الذي أصاب هذه الحيوانات الجميلة لحظة اكتشاف صورها في المرآة، لكن الأهم هو ما لاحظه «جالوب» من أن الشمبانزي سرعان ما يتغلَّب على دهشته ويتعلَّم كيف يستفيد من المرآة في تمشيط شعره وتهذيب هيئته، والاطلاع على مناطق من جسمه لم يكُن ممكناً رؤيتها بغير المرآة. عندما أعلن «جالوب» اكتشافه قوبل بكثير من التحفُّظ من جانب زملائه العلماء، الذين كان رأيهم أن الشمبانزي ربما يكون قد انبهر بالمرآة، باعتبارها شيئاً جديداً لم يرَه من قبل، فأخذ يلهو أمامها على النحو الذي فهم منه «جالوب» خطأ أنه يعرف صورته، وأن الحقيقة ربما تكون غير ما تصوَّر «جالوب».
ويلفت المؤلف أن «جالوب» طور تجارِبه، ليحصل على دليل قوي، حيث أخذ الشمبانزي الذي شاهد صورته في المرآة إلى غرفة خالية من المرايا، وخدَّره، ثم لوَّنَ بقعة صغيرة فوق حاجب العين اليمنى، وبقعة أخرى أعلى الأذن اليسرى، وذلك باستخدام طلاء عديم الرائحة، ثم انتظر حتى زال أثر المخدِّر، وتأكد من أن الحيوان لم يبدُ عليه ما يدل على أنه شعر بما استُحدِث على وجهه من علامات في أثناء التخدير. بعد ذلك أعاد الحيوان إلى القفص الذي به المرآة مرة أخرى، فوجد أن الحيوان يحدِّق مليَّاً في المرآة، ويمد إصبعه فيلمس البقعة الملونة فوق حاجبه، ثم يتشمَّم إصبعه كما لو كان يود معرفة طبيعة هذه الصبغة الغريبة، ومرة أخرى يعاود النظر في المرآة ويمد يده ثانية فيتحسَّس الجزء الملوَّن من أذنه، ويظل يكرر هذه الحركات الفضوليَّة عدة مرات قبل أن يسلِّم بالأمر الواقع وينصرف إلى شؤون حياته. كان واضحاً، بحسب مدحت صادق، أن الشمبانزي قد أدرك أن ما يراه أمامه هو صورته، وأن البقع اللونيَّة التي يطالعها في المرآة لا توجد داخل المرآة، بل توجد على جسمه، لذا كان يتحسس أذنه وحاجبه، ولا يتحسَّس المرآة!