هل تسرقنا العوالم الافتراضية من العالم الواقعي؟

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عاطف محمد عبد المجيد

مستهلًا كتابه “المستقبل وإشكالياته..بين العلم والثقافة” الصادر عن الهيئة المصرية للكتاب، يتساءل د. خالد عزب قائلًا: من منا لم تكن له أحلام يقظة، وخيال يجمح نحو تغيير العالم؟ مضيفًا أن العلماء صاروا الآن يحلمون عند طفولتهم بإحداث تغيير ما في العالم يغير حياة الملايين، بل يحلم بعضهم أن يخترع اختراعًا يغير حياة البشر كرغيف الخبز الذي أحدث ابتكاره تغييرًا في تحول الإنسان من أكل الحيوان إلى صناعة الطعام.

هنا يرى عزب أنه من كثرة المتغيرات في هذه الحياة، أصبح اليقين في حياتنا محل شك، إذ تهز هذه المتغيرات أشياء كثيرة ليس فقط في حياة الإنسان، بل حتى داخل النفس الإنسانية.من هنا يرى المؤلف أن الدراسات المستقبلية في العالم الآن لا ترسم سيناريوهات وفق معطيات ممكنة في المستقبل، بل تذهب إلى تنميط المستقبل بحيث يقع الإنسان تحت سيطرة برمجيات الذكاء الاصطناعي التي تحدد له حياته، متسائلًا هل ينجو الإنسان من هذه السيطرة المحكمة، وهذه المتغيرات التي تجعل لدى الإنسان حالة من حالات اللا يقين في ما يدور حوله، لدرجة قد يصبح معها ليس صيدًا للآلة، بل إنها لن تشاركه في حياته فقط، بل توجه حياته.

كذلك يرى عزب أن الهروب من المدن الذكية سيكون إلى الطبيعة الأولى حيث الصحراء، وحيث البعد عن الهواتف الذكية التي تتأقلم مع الجسد حتى في الفراش، والهروب من الطب الرقمي إلى الطب الطبيعي الذي يجعل جهاز المناعة يتفاعل مع الجراثيم والبكتريا.

غاية الحياة

يضم هذا الكتاب، وفق قول المؤلف، عدة مقالات يبحث فيها، أو من خلالها، إلى أين سنذهب في المستقبل، وأين نحن منه، وكيف سنشارك فيه، متسائلًا هل هذه التساؤلات خيالية كخيال الأطفال الجامح، أم هي تساؤلات الواقع الحقيقي الذي يجب أن نبحث عنه. 

إضافة إلى هذا يطرح الكاتب عدة تساؤلات أخرى حول غاية الحياة وغاية الإنسان، وما هي القيمة وما هية القيم في العصر الرقمي.غير أن أهم ما يطرحه هنا المؤلف هو إلى أين يأخذنا العلم؟..أيضًا يضيف المؤلف أن إشكاليات المستقبل أصبحت أكثر تعقيدًا مما كنا نتصور من ذي قبل، والثقافة هنا هي هوية المجتمع التي تعبر عنه في كل مناحي الحياة.ولا يكتفي المؤلف بهذا، بل يقول إن تهديد الفضاء الرقمي للذاكرة الإنسانية المتوارثة والنفس الإنسانية وثباتها قد أصبح محل تساؤل، مما أدى بالدول إلى المسارعة إلى تسجيل تراثها الشفهي والموروث.

وبعد أن يتساءل عزب: هل يصبح الذكاء الاصطناعي هو الذي يقود الإنسان؟..يقول إن الثقافة الإنسانية تصبح شيئًا افتراضيًّا غير حقيقي، ولذا يبحث الإنسان عن روحه وثقافته.أيضًا مما يراه عزب أن الذاكرة الإنسانية تستدعي من الماضي الإنسان غير الرقمي، ولذا نجد سعيًا تصاعديًّا لدى الأجيال الجديدة في رغبة منها لفهم الماضي.

في كتابه هذا يعلن المؤلف أن هناك جدلًا عميقًا على الساحة الدولية حول مستقبل الثقافة، وفي كل دولة يبدأ الحوار من دور المثقفين هل هم فئة مهمة؟ وصولًا إلى دور الثقافة في بناء خصوصية الدولة والمجتمع.هنا يكتب عزب عن الهوية والتقدم العلمي، وعن كيفية تغيير التقدم للمجتمعات، عن فلسفة العمل في العصر الرقمي، عن القوة والحروب الجديدة وعن المدن الذكية، وعن مستقبل التاريخ وعن الثقافة العلمية وعن الصناعات الإبداعية.عزب متحدثًا عن المدن الذكية يقول إنها تساهم في التغلب على المشكلات التقليدية التي تواجه المدن الكبرى كالتلوث البيئي والاختناق المروري والفساد الإداري.

الاهتمام بالتاريخ

أما حين يتطرق الكاتب للحديث عن مستقبل التاريخ، يقول إن الماضي يثير تساؤلات عديدة، وللماضي علم يدرسه هو التاريخ، الذي أصبح هو ذاته محل تساؤلات مثيرة، فإلى اليوم يُقَدم التاريخ من خلال كتابات المؤرخين سواء في الكتب أو المجلات العلمية أو الثقافية أو الصحف، لكن مع تقدم وسائل التكنولوجيا باتت الأفلام الوثائقية مادة خصبة تجذب الكثيرين للتاريخ، طارحًا سؤاله لماذا نهتم بالتاريخ.غير أن الكاتب حين تساءل عن نهاية عصر المكتبات، ذكر أنه بات من المُلحّ أن نؤكد أن هناك سباقًا بدا في العالم اليوم نحو نوعية جديدة من أدوات تكوين المعرفة البشرية ليس عبر الورق، لكن عبر شبكة الإنترنت، ومن سيكون بالفعل مستقبل في الثقافة العالمية حلال السنوات القادمة.هنا يذكر عزب أن المكتبات الرقمية رغم أنها تختلف عن مثيلتها التقليدية في كثير من المعطيات، إلا أن العامل المشترك فيهما هو العنصر البشري الذي ينتج المعرفة لكي يستخدمها.كذلك لا يفوته أن يتحدث عن المتاحف من الواقع إلى العالم الافتراضي وعن العمارة الطبيعية وعن التراث والمتاحف.وتحت سؤاله هل للعرب مستقبل في عالم المتاحف يكتب عزب قائلًا إن الجهود العربية بدأت تلتئم في هذا المجال بعد تأسيس المجلس العربي للمتاحف ” الأيكوم العربي ” الذي يضم أبرز المتخصصين في هذا المجال من العرب.

وتحت سؤال ما التاريخ؟ يكتب عزب قائلًا إن الدول كانت تحتفظ قديمًا بوثائقها داخل دار الوثائق القومية.أما الآن فتسعى كل دولة إلى إتاحة هذه الوثائق والتعريف بها عبر شبكة الإنترنت، وهناك منهجان في هذا الصدد، الأول تطبقه الولايات المتحدة عن طريق إتاحة ما تراه غبر ضار بسياستها الجارية من وثائق كاملة على شبكة الإنترنت، والمنهج الثاني لدى الأرشيف البريطاني الذي يتيح بيانات وصفية كاملةللوثائق المتاحة للاطلاع.غير أن العالم يتجه الآن إلى ما هو أوسع من ذلك عن طريق إقامة مواقع إلكترونية أو مكتبات رقمية أو ذاكرة تاريخية على شبكة الإنترنت.هنا أيضًا يدعو الكاتب إلى إدراك أن الطباعة غيرت حياة البشر، فالكتاب المطبوع والحيفة والمنشور وبطاقات الدعاوى المطبوعة وغيرها، خلقت مجتمعات مغايرة عن مجتمعات ما قبل الطباعة، إذ صار الإنسان قارئًا مثقفًا وكائنًا اتصاليًّا جيدًا، كما غيّر التلغراف من طبيعة الاتصال بين المجتمعات والدول.

المجلات الثقافية

ومتحدثًا عن المجلات الثقافية، يؤكد الكاتب أن مجلة العربي الكويتية ما زالت تتربع على عرش المجلات الثقافية،  فهي منذ لحظة ولادتها ولدت عربية الطابع، وقدمت خدمات جليلة للثقافة العربية، وها نحن الآن أمام حالة جديدة هي ظهور مجلات ثقافية رقمية على نحو مجلة الثقافة الجزائرية.كذلك يتحدث عزب عن مجلات أخرى منها مجلة عالم الفكر، مجلة أمكنة، مجلة مدارات عربية، ومجلة تاريخ العرب والعالم.ومتأسفًا عن تراجع بعض هذه المجلات، يقول الكاتب إذا كانت هذه المجلات تتراجع، فكيف لنا أن نتحدث عن طبقة جديدة من المفكرين والفلاسفة والعلماء والمثقفين رفيعي المستوى ممن يستطيعون إما تقديم رؤًى جديدة، أو نقد الأوضاع الراهنة، أو استشراف المستقبل حيث إن هذه المجلات ساحة لاكتشاف هؤلاء.ومتحدثًا عن النشر، يسأل المؤلف هل الكتاب وسيلة تسلية وترفيه وتثقيف وتعليم؟ مجيبًا بأن معظم الناشرين لم يدركوا أن هناك منافسة شرسة للكتاب، ولذلك، يقول، لم يهتموا كثيرًا بإخراجه حتى ظنوا أن الإخراج الجيد يقتصر على الكتالوجات وكتب الفنون والأطفال، وأهملوا شكل الكتاب العادي في حد ذاته، وبالتالي لم يعد سلعة جذابة تلفت الانتباه.ومجيبًا عن سؤال هل انتهى عصر المكتبات، يقول عزب إن المكتبات عُدت رمزًا دالًّا على ارتقاء الشعوب ونهوضها، ومخزنًا لمعارفها وكنوزها، ومكانًا لاحتضان المثقفين والمفكرين والأدباء والعلماء، وكأنها حضانة تفرخ وتنمي لنا أجيالًا جديدة منهم، ولهذا السبب حرصت الدول على أن تكون لديها مكتبات قومية.هنا يرى عزب أيضًا أنه بات من المُلح التأكيد على أن هناك سباقًا بدأ في العالم اليوم نحو نوعية جديدة من أدوات تكوين المعرفة البشرية، ليس عبر الورق، لكن عبر شبكة الإنترنت، ومن سيكون له وجود حقيقي مُدار بشكل جيد، سيكون له بالفعل مستقبل في الثقافة العالمية خلال السنوات القادمة. ومتحدثًا عن أحوال الثقافة العربية، يؤكد الكاتب أنها تواجه العديد من التحديات المعقدة، لعل إبرزها تحدي الهوية، ففي ظل تراجع المشروع القومي العربي، وتصاعد النبرات القُطرية، يبقى سؤال الهوية أساسيًّا للمستقبل، مضيفًا أن علاقة الأجيال الجديدة باللغة العربية وآدابها باتت علاقة محورية للمستقبل، خاصة وأن ضعف هذه العلاقة بات يهدد هويتنا.

عالم الرواية

وذاكرًا الرواية يكتب المؤلف قائلًا إنه في العالم الرقمي سيكون هناك بُعد جديد لعالم الرواية، بُعد تفاعلي يتشارك خلاله الروائي مع قرائه في كتابة النص، عبر اقتراحات القراء، أو حتى إضافاتهم بالنص.وسيعتمد العالم الرقمي في الرواية على الجمل القصيرة والردود السريعة والبناء التصاعدي للأحداث، بحيث نجد أنفسنا هنا أمام نص يتداخل مع الحداث حتى الجارية.وهنا لا يستهلك المتلقي النصَّ، بل يتورط فيه، وقد نرى في المستقبل جيلًا جديدًا من الروائيين، وهنا تشكّل الذات الإنسانية أحد محاور الرواية في العالم الرقمي.ومما يؤكده المؤلف هنا هو أنه كلما كان الأديب لديه القدرة على التعبير عن عصر ما قبل الإنسان الرقمي، كان أدبه أكثر قراءة.وكلما كانت روايات المستقبل لديها القدرة على تشخيص الواقع، بل ودفع المتلقي إلى الاعتقاد بواقعية العالم المشخص حتى لو كان عالمًا خياليًّا أسطوريًّا، كانت الرواية أكثر قبولًا وانتشارًا في عالم المستقبل.ولأن العمل الروائي الرقمي لا يتوقف، يقول عزب، لذا سنرى حيرة من النقاد ليهرب الجميع إلى نصوص الماضي كملاذ يمكن السيطرة عليه وفهمه.كذلك يؤكد عزب أن هناك أبعاد بدأت تنشأ في دنيا الأدب ناتجة من عالم مختلف لم تعايشه الأجيال السابقة، بل نبتت وترعرت فيه الأجيال الناشئة، منشأ هذا العالم هو ألعاب الفيديو، ثم الكمبيوتر، وهي من الأشياء التي أحدثت تحولًا نوعيًّا في علاقة الإنسان بالآلة.وفي ملمح موازٍ لهذا التغيير ظهرت نوعية من الروايات والقصص تستند إلى تفاعل الإنسان مع الآلة، والصراع بين الإنسان البشري والإنسان الاصطناعي، والحرب بين عقل البشر وذكاء الآلة، وتحولت هذه النصوص الأدبية إلى أفلام سينمائية وأشرطة كرتون، ومسلسلات تليفزيونية وغيرها.

هنا أيضًا يقول المؤلف إن ثمة مجتمعات معاصرة تتقدم وتتطور، وثمة مجتمعات موازية تنمو في جوانبها الافتراضية، لكن الحدود بين الاثنين شبه معدومة، بل إن ما صُنع افتراضيًّا بات هو ما يتفاعل يوميًّا مع المجتمعات التي صنعته في الأساس.

ومتحدثًا عن واقع الثقافة العلمية في العالم العربي، وغربة المستقبل أو غيابه عن إرادتنا هو السبب الرئيس الذي جعل غيرنا يسبقنا في عملية التطور، حيث إننا نعاني من أمراض مزمنة، منها غياب التمويل اللازم للبحث العلمي، وارتفاع نسبة الأمية الأبجدية في عديد من المجتمعات العربية وشيوع الأمية الثقافية العلمية والأمية الحاسوبية، وغياب قيمة مغامرة المعرفة واكتشاف المجهول وحرية السؤال والبحث.أما الشيء الأخير الذي يؤكده هنا المؤلف فهو أن الإبداع هو الذي سيقود التغيير الاجتماعي والاقتصادي خلال القرن الحالي.ونهاية يتساءل خالد عزب في كتابه هذا قائلًا: هل تسرقنا العوالم الافتراضية من العالم الواقعي لتصبح هي الواقع؟

  

مقالات من نفس القسم