نمر سعدي
هل كلَّما اتَّسعَ الحنينُ يضيقُ دربي؟
يا لقلبي كلَّما مرَّتْ رياحٌ فيهِ راحَ يئنُّ مثلَ محارةٍ في قاعِ بحرٍ
يا لقلبي.. الريحُ تعزفُ فيهِ موسيقى الشتاءِ ولا تربِّي غيرَ أحلامِ العذارى فيهِ
أو شغفِ النوارسِ بالرمالِ وبالأغاني.. هل أسمِّي الليلَ زنبقةً توهَّجَ ماؤها؟
هل أعتلي في البهوِ طاولةً لأصرخَ أو أذرِّي في الفضاءِ قصيدةً.. أو أقتفي جرحَ الكلامِ ورغبةَ الحبقِ المضيءِ إلى مصبِّي؟
الليلُ يجرحني ورائحةُ الخريفُ، قصائدُ الغرباءِ والريحُ الحرونُ وزنبقاتُ الماءِ تجرحني وأصواتُ النساءِ..
وترٌ خريفيٌّ إلى قلبي يشدُّ مجرَّةً وكواكبَ اندثرتْ، فهل يأتي الشتاءُ إلى القصيدةِ بعدَ صيفِ الحُبِّ؟ هل تأتي القصيدةُ في الشتاءِ؟
طوبى لأوراقِ الخريفِ، لحلمكَ الأبديِّ يا ابنَ حدائقِ الليمونِ، للأزهارِ فوقَ البئرِ
للشغفِ القديمِ وللمسافةِ بينَ روحكَ والسديمِ وللصدى الحافي.. لصوتكَ
للندى ولذكرياتِ القلبِ
طوبى للنسيمِ.. لأوَّلِ القبلاتِ
طوبى لانسكابِ الليلِ في عينينِ
طوبى لاشتعالِ الضوءِ فوقَ العشبِ
طوبى لاحتراقِ الوردِ في غيمِ اليمامِ
أحتاجُ هجرةَ سندبادَ وآخرَ الأوتارِ في الجيتارِ
صوتَ الماءِ في الغزلِ القديمِ
وفكرةً زرقاءَ عن أحلامِ رمبو أو هواجسِ كوفمانِ البيضاءِ
شهراً من رواياتِ الطيورِ
حديقةً زمنيَّةً.. رملاً.. هواءً عارياً
أمطارَ موسيقى.. حماماً زاجلاً.. وصدىً لأوجاعِ الرخامِ
سأقولُ في سرِّي الذي قالتهُ لي تلكَ الغريبةُ والوحيدةُ والجميلةُ في النساءِ:
لا تجرحِ المعنى الذي في خاطرِ امرأةٍ ولا لا تجرحِ امرأةً تعلِّمكَ الحنينُ إلى أنوثتها.. فإنَّ الأرضَ أنثى تحتويكَ وإنَّ أيلولَ احتفاءُ يديكَ بالأشياءِ والألوانِ، نهرٌ غيرُ مرئيٍّ، طفولةُ شاعرٍ، شجرٌ نسائيٌّ، رياحٌ تعزفُ بلوزَ المساءِ على طريقتها، وتفرطُ في شراييني السنابلُ، تفركُ النعناعَ والليمونَ في جسدي، تضيقُ الأرضُ في لغتي ويتسِّعُ الحنينُ كأنهُ نملٌ يضيءُ الليلَ في فخَّارِ قافيتي، ويتسِّعُ الحنينُ كأنهُ قلبي وظلُّ قصيدتي وخطايَ فوقَ النارِ، أمشي، أعتلي في البهوِ طاولةً وأصرخُ أو أقولُ قصيدةً عن ذكرياتِ الصيفِ أو حبقِ الخريفِ المرِّ، لا لا تجرحِ امرأةً تعلِّمكُ اقتفاءَ الضوءِ في كلماتها والعطرَ في دمها، الشفيفةُ كالفراشةِ والقويَّةُ مثلَ شلَّالِ الظلالِ هيَ، المحاطةُ بالهديلِ أو المصابةُ باحتمالاتِ الفصولِ…
لوحدتي غنَّيتُ في سرِّي، حفظتُ الصمتَ في صغري، القصائدَ كلَّها عن ظهرِ قلبي، ما أخطُّ على الوسائدِ من زفيرِ الشوقِ. كوني نقطةً ضوئيَّةً في الليلِ، كوني قطرةً في البحرِ، غصناً في أناشيدِ الحياةِ ولا تقولي أيَّ شيءٍ، كلُّ ما في الأمرِ أنَّ الوحدةَ البيضاءَ ظلٌّ لاخضرارِ البئرِ في نظري، وأنَّ الاحتواءَ سفينةٌ تجري بنا وتطيرُ..
كيفَ على يديكِ الآنَ يكسرني العبيرُ؟
أحتاجُ حُبَّاً كيْ أخطَّ على النسيمِ عبارتي وعلى المياهِ
أحتاجُ برعمَ قُبلةٍ ينمو على شَعرِ الحبيبةِ مثلما ينمو دخانُ الأرضِ في أقصى الغيومِ ومثلما تنمو القصيدةُ في دمائيَ والنوارسُ في شفاهي
لو كنتِ زنبقةً أعيشُ هناك في أقصى غوايتها، شمالَ جمالها، وعلى مسافةِ قبلةٍ أو لمسةٍ منها ومن أعلى مرامي ليلِ حيفا الياسمينةِ والهواءِ.. لكنتُ ماءكِ واخضرارَ عبيرِ ناركِ في الجبالِ وكنتِ لي حوريَّةً في القلبِ، أوَّلَ شهوةِ البرقوقِ أو وحمَ السنابلِ في حزيرانَ، القصيدةَ والصدى، ولكنتُ أبحثُ عنكِ في صوتي وفي صمتِ الفراشاتِ العطاشِ وكنتُ منكِ أصبتُ وحدي بالرمادِ وكيمياءِ الحبِّ..
وحدي مثلَ نهرٍ في العراءِ، القلبُ خبطُ فراشةٍ والأغنياتُ صدى اشتهاءِ
وأنا أفكِّرُ لا بشيءٍ.. أستعيدُ يديَّ من شوكِ العناقِ ومن ظلالِ الوردِ في شبقِ النساءِ
أعدو وتركضُ فيَّ أنهارٌ وغاباتٌ وتعدو بي القصيدةُ أو تعانقُ ظلَّها الشجريَّ كالأشباحِ، كيفَ أضيءُ ليلي باستعاراتِ الهباءِ وأقتفي عينينِ من عسلِ الهواءِ؟ وكيفَ ترقصُ في القصيدةِ شهرزادُ؟ وكيفَ تكملُ غزلها بنلوبُ؟ أو تمشي على الأمواجِ أوفيليا لتفتحَ وردها الأبديَّ في لغةِ المجازِ وفي الحرائقِ والحدائقِ، في حقولِ القطنِ، فوقَ ذرى الجبالِ، وفوقَ ضوءِ العشبِ أو حبقِ الجليلِ، وفي اشتهائي
حبري مضيءٌ والندى الصيفيُّ يكتبني على ورقِ الينابيعِ البعيدةِ، والصدى يأتي ليسكبَ في القصيدةِ ماءَ صوتِ المرأةِ الأولى وأجنحةَ الزنابقِ في غيومِ الأرضِ. تنقصني طريقُ النثرِ، تنقصني عباراتُ المديحِ، معلَّقاتُ الجاهليِّينَ الأخيرةُ واستعاراتُ الصعاليكِ الذينَ تناثروا في الأرضِ كي أحمي مجازي من كناياتِ الظهيرةِ أو تطفُّلها المريبِ على مرايا رغبتي وعلى خطايَ، على الرؤى الخضراءِ في لغتي التي قايضتها بالوردِ في الحربِ الأخيرةِ، خارجاً من مشتهى مدني ومن أحلى قرايَ، يضيئني ملحٌ ولم أنظرْ ورائي
*