من هنا ندخل إلى عالم الرواية،عالم الهدوء البارد للقتل،حيث المفارقات التي تبدأ مع مفردات صغيرة مثل اسم البطل (سالم) الذي لا يمت لشخصيته،ثم الهدوء الغامض الذي يحمل اسم الرواية،والذي يتميز به سالم أيضا،هناك هدوء صامت في شخصه يدفع بالرواية إلى الصخب المشوق للكشف عن مضمون النص وغاياته،إنه هدوء ينسجم مع الغموض المعتم،ومع اللون الأسود الذي تم اختياره ليكون غلافا للرواية،هناك أيضا ازدواجية البطل في الحياة ضمن عالمين يتنقل فيهما بصدق تام،فيكون مخلصا لكليهما،إخلاصا لا يدفع للشك بحقيقة أمره.تتدافع التفاصيل في رواية إمام لتتمحور حول هذه الفكرة،لكن يظل لب الحدث ينطوي في التساؤل عن فعلي (القتل-والكتابة)ما الرابط بينهما،ولم اختار الكاتب الجمع بينهما في بطل واحد؟ وكأنه يسعى للنبش في ازدواجية الذات داخل القاتل، وداخل الشاعر أيضا.ثمة تأكيد على بعد نفسي واضح في النص،إذ لا يوجد شيئا مخلصا تماما لذاته.لاشيئ صافيا بالكامل ولا ملوث تماما،ليس للأمر علاقة طبعا بمفاهيم الخير والشر عبر الرواية،وليس هذا ما أراده الكاتب بقدر الجهر بقانون المتجاورات في النفس البشرية،والتحرك في الحدود القصوى في الذات الواحدة،من هنا تتشكل شخصية “البطل” القاتل والكاتب في آن واحد. تبدو علاقة التاريخ والأسطورة في رواية”هدوء القتلة” ظاهرة بوضوح،فالكاتب يحاول في كتابته القدوم للتاريخ بشكل عكسي،هو لا يذهب إليه،بل يحضر ومضات تاريخية إلى نصه،ثم يتلاعب بينها وبين عنصر الزمن، كأن يقول في الصفحات الأولى “كل صباح كان يمد أصابعه الخشبية النحيلة نحو المجلد الضخم غرامه السري..كان يتأمل المدينة التي صارت مكاناً آخر غير الذي وطأته قدماه منذ ما يزيد على ألف سنة،لقد كانت-حين جاء حافيا تحت شمس قوية-أشبه بدير خال لا يحتاج الناس فيه إثما كي يتعذبوا”.يمنح طارق إمام بطله خلفية تاريخة أسطورية،تظل معلقة بين الممكن والمستحيل،ثم يطلقه ليمضي حياته بشكل واقعي تماما كما لو أن ما حكاه عنه من قبل مرهون بخيال القارئ وقدرته على تفعيل هذه المعرفة في اكتشاف غموض النص.يعرف بطله “سالم “أنه ينحدر من سلالة قاتل ما،قاتل “ترك نسلا كثيرا في أرجاء المدينة،أبناء وأحفاد يحملون وجهه،عينيه الملونتين وصوته المبحوح،جميعهم قتلة متوحدون،غارقون في منامات خطرة مثله”. يستخدم إمام تيمة الأسطورة بأن يجعلها ماضي الأبطال،هذا ما يفعله حتى في نصوصه القصيرة التي ينشرها كقصص متفرقة أو أجزاء من رواية،وهذا ما يبرز في”هدوء القتلة” في الجزء الأول من الرواية تحديدا،فهو يفترض تاريخا معينا لبطله (القاتل-الشاعر) ثم ينطلق من هذا الافتراض في سرد حكايا المدينة الأسطورية أيضا،مع الإتكال على حيلة ذكية في تفسير فلسفة القتل عند البطل،هكذا تصير مكونات الرواية التي تجمع فكرة أسطورة ما مع فلسفة القتل وتاريخ المدينة الحاضر بشكل شبحي،كل هذا يشكل الوجود الفعلي لمدينة (القاهرة)،إنها مدينة تتكون وفق رؤية البطل،ثم تصير هي العامل الأكثر حضورا في النص.فالبطل سالم يقتل من أجل المدينة وعلاقته المشوهه معها،من أجل بحثه عن مدينة أكثر هدوءً وأقل عنفا،وفي ذات الوقت يقتل ليخفف آلام بشر يراهم هو تعساء وحيدين،المدينة استنزفتهم وألقتهم على أرصفتها.فالبطل هنا كما لو أنه يقشر المدينة بحثا عن نواتها،والقتل يصير فعلا بحثياً يبرر السعي في التفتيش-قتلا- عن جوهر المدينة المختفية بل المتوارية خلف زحام لن ينتهي إلا بمزيد من القتل الذي سيحرر المدينة من قشورها،ويخرج نواتها إلى الواقع،وبذلك هو يؤرخ لها بأسلوبه الخاص،فيغدو القتل في الرواية فعلا بريئاً يشبه كتابة الشعر،ويتوحد معه،حيث لا يمكن على الإطلاق رؤية بطل “هدوء القتلة” بشكل مجزء،هو يقتل ليكتب الشعر،ويقتل لتصير المدينة أجمل،فهو قاتل صوفي حكيم ينثر رؤاه الخاصة عبر الحبر والدم ،يقول “ناسك اختارني لأخلفه في تخليص المعذبين،من عذاباتهم…سلمى،جابر،وليل…كلهم وحيدون يكملون للمدينة زينتها الضرورية…أنا القاتل الذي يخاطر بحياته ليترك للعالم قصائده كما ينبغي أن تكون،كتبتها يد بلا تاريخ،بدماء الضحايا” بين اللغة والمعنى إذا كان النص ليس إلا لغة تحمل معنى،فإن المعنى هو الهدف الأسمى للغة،ربما من هنا تقوم العلاقة بين اللغة والحكاية،وفي نص روائي مثل “هدوء القتلة” نتساءل عن حدود الحكاية التي تبرز بوضوح لكنها تتخلى عن مسارها التقليدي في مضمونها لتشكل جوهر وجودها عبر الحالة العامة للنص. الحدث هنا أو الحكاية،تنقسم إلى شطرين،فعل القتل،ثم جانب العلاقة مع المدينة.يقول:”طالما أخافتني هذه الضاحية،رقعة شطرنج هائلة..شوارعها مستقيمة ومتقاطعة بلا أسماء.كل شارع تم اختصاره في رقم مكتوب بوضوح على لافتة زرقاء.تقطع الشوارع صفوف أشجار مهذبة متساوية القامات،آلاف التوائم من الكائنات الناحلة تؤكد التيه.لازلت حتى الآن أتوه في الضاحية،وأضل طريقي إلى الهيئة.فكرت أن أذبح بعض الأشجار لتصير علامات تصنع بعض الفارق،لكنني خفت من عقاب الحي….المدينة التي تبدو ضخمة تحيا هناك،معزولة ومتوحدة،هنا الضاحية،ولا شيئ آخر”. لقد سار طارق إمام في روايته على خطين يبدو ظاهرياً أن أحدهما منفصل عن الآخر،الأول هو خط الحكاية التي وضع خيوطها في الفصل الأول مع شخصية (الناسك-جد القتلة)،ثم الخط الثاني الذي يتولد مع قصة البطل سالم الذي يسحب القارئ إلى مدار مغامراته في القتل على أرض المدينة. يحفل نص “هدوء القتلة” بوجود عنف مكمون وغموض بين،إلى جانب ظلام متعمد،حتى في أوقات لا ظلام فيها.إنه نص يشبه فيلم يتحرك أبطاله أمام عين القارئ،ويمكنه تخيلهم بسهولة،بل يمكنه تميز ملامحهم بدقة،وهذا يعود إلى المخيلة البصرية التي يتمتع بها الكاتب والتي تبدو ضرورية بالنسبة لهذا النوع من الكتابة.