د. أشرف الصباغ
رواية “هبات ساخنة” لسعاد سليمان، من إصدارات دار “روافد” للنشر والتوزيع، تشكل جولة بين الذاتي والشخصي والعام، تسبح بين أطياف السيرة الذاتية وشخوص واقعية تحولت بخفة لتكتسب أبعادا روائية وفنية. وارتباط هذه الشخصيات النسائية في أغلبها بأحداث وتجليات ثورة يناير 2011 يُكسب كل شخصية بعدا آخر إضافيا وعمقا ساحرا إلى جانب كل تلك التناقضات الشخصية والحياتية. إننا ببساطة أمام مجموعة من النساء اللاتي يشكلن جزءا من حركة المجتمع القاهري في وسط البلد. وإذا كان هذا المجتمع المغلق/ المفتوح ظهر دوما في العديد من الأعمال الفنية والأدبية كمساحة يحتلها الرجال وتظهر النساء بينهم بأعداد قليلة على استحياء كمادة للحب أو العبث أو أداة لنزق المثقفين، فإننا في رواية سعاد سليمان نجد أنفسنا أمام “وسط البلد”، حيث مقهى زهرة البستان ومقهى ريش وشارع هدى شعراوي بحوارية ومنافعه ومغامراته السرية والعلنية وسحره الذي يشعل خيال الكائنات التي تلمس ترابه بداية من شارع طلعت حرب وانتهاء بشارع شريف، إضافة إلى امتداده في ممر “إستوريل”. بل ومن الممكن أن نعبر شارع قصر النيل لندخل إلى ممر “الجريون”. إنها ببساطة الخريطة القديمة التي تشبه المازورة الموسيقية أو لزمات الأغاني، حيث يقوم كل كاتب أو فنان أو موسيقي أو شاعر بوضع معادلته في الصيغة الفنية المرضية له لتظهر تفاصيل هذا المكان المركزي مختلفة عن الأخرى في كل مرة ولدى كل مبدع، ربما بسبب زوايا الرؤية، وربما بسبب القرينة الثقافية والخبرة والتراكمات لدى المبدع نفسه، وربما بسبب اختلاف الشخصيات (من حيث الثراء والفقر، ومن حيث الثقافة والخبرة الحياتية) التي تتحرك في تلك المساحة الكونية رغم صغرها وضيقها، لكنها دائمة مفتوحة ومنفتحة ليس فقط على كل أحياء ومناطق القاهرة، بل وأيضا على عواصم العالم، حيث يأتي ناس من أوروبا وأمريكا، وحيث يسافر ناس إلى أوروبا وأمريكا.
تبدو شخصيات الرواية وكأنها كتبت من أجل السينما، من أجل أن يلتقطها أي مخرج ليضعها مباشرة أمام الكاميرا حتى من دون أي سيناريو، لأن السيناريو جاهز بالفعل. فكل شخصية مرسومة بعدة كلمات وجمل، ودلالات أنثوية واضحة. غير أن المتابع لهذا المكان والعارف بخصوصيته يتوقف قليلا ليمعن النظر في كل تلك الشخصيات النسائية المتنوعة والفاعلة على الرغم من أن شخصية “مكاوي سعيد” غير راضية عن إنجازات كل هذا الجمع من النساء، يمكنه أن يرى أكثر من بعد وأكثر من عمق لكل شخصية على حدة من جهة، ولحركتهن الجمعية من جهة أخرى. وبعيدا عن نظرة الرجل “مكاوي سعيد” لحركة هذه الشخصيات، واعتقاده بأنها تبدد طاقتها ولا تهتم بما لديها من قدرات وبما تمسك به من أدوات، فإننا أمام شخصيات نسائية فاعلة وقادرة على الفعل، غالبتهن في الأربعين، أو أقل بقليل أو أكثر بقليل. أي في منتصف العمر، حيث تعاني الغالبية العظمى بينهن من المشاكل الصحية الطبيعية والتحولات البيولوجية التي تتعرض لها أجساد النساء في تلك المرحلة من العمر.
تجري مناقشة التفاصيل المحيطة بانقطاع الدورة الشهرية الذي يأخذ تسميات مرعبة لدى المصريين عموما، وبين المصريات على وجه الخصوص. يسمونه تسمية غريبة مرعبة: “سن اليأس”! الراوية تطرحه بمسميات مختلفة من وجهة نظر نسائية مكشوفة وبسيطة واعتيادية بدون تكلف أو فلسفة أو غموض. وتتناول الشخصيات النسائية في الرواية مشاكلها الصحية الخاصة وكل ما يحيط بها من قضايا وعلاقات، وتأثير كل مشكلة على الأخرى، وعلى مسار حياة كل منهن ومصيرها. إنها مشاكل الجسد الطبيعية التي يتصالح معها الإنسان حتى وإن احتج عليها وأعلن عن غضبه وعدم رضائه عنها، وربما تمرده على جسده وعلى احتياجاته. إن خفة الظل التي تتميز بها غالبية شخصيات الرواية، وصراحتها وبساطتها، وربما عفويتها، تخفف من الجوانب السوداوية لبعض الشخصيات، وتخفف من وطأة الحزن والكآبة اللذين يطلان برأسيهما بين الحين والآخر على خلفية الخيبات الشخصية، وعلى خلفية الفشل في الحب، وعدم الكفاية الجنسية، والتعامل مع الجنس بما لا يكفي من المعرفة، أو بما يكفي من الكسل والاستهتار والتآمر. خفة ظل الشخصيات النسائية تساعدهن على احتمال الحياة، واحتمال قسوة المجتمع التي تتجلى إما في أحداث ثورة يناير أو في قسم شرطة قصر النيل أو في فشل العلاقات العاطفية، وأيضا في علاقة الأم بابنتها وأشكال الوصاية المختلفة، والمصائر المركبة الحزينة والمأساوية، والحرمان، سواء الجنسي أو الروحي أو المادي.
بناء الرواية بسيط ومشوق، يغوص في ذات المرأة وفي أدق تفاصيلها الروحية والنفسية، وينزلق بهدوء إلى احتياجاتها المادية المرتبطة ارتباطا عضويا بتكوينها الروحي والنفسي والجنسي وتركبتها الجسمانية وتحولاتها البيولوجية. ومن ثم فإن “الـ هبات الساخنة” تشكل مركز بناء الرواية. وتبدو تلك الهبات وكأنها مصدر الأحداث والمحرض على حركة الشخوص، وبالذات لدى البطلة- الراوية “سلمى”. لكنه في الحقيقة جملة من الهبات التي تأتي ضمنها هبات “ثورة يناير 2011” لتتوازى مسارات الحكي والأحداث عن شخوص منها الواقعي ومنها المختلق. غير أن الطاغي على كل هذه الشخصيات هو المكان الذي يجمع بينها ليؤرخ لها وللأحداث في آن معا. وبالتالي، فإننا أمام عنوان خادع للغاية، خادع لدرجة التمويه، لأنه ببساطة يشكل مدخل مغارة نراها يوميا ولسنوات طويلة من دون أن نعرف ماذا بداخلها، ومن بداخلها. إننا نرى هذه المغارة يوميا في الصور وعلى الشاشات، بل ونراها بأعيننا كل يوم. لكننا لم نقف ولو مرة بهدوء لنمعن النظر في شوارعها وحواريها، وفي وجوه شخوصها، وفي أرواح نسائها اللاتي يتحركن على المقاهي وفي البارات وفي المصالح الحكومية ومعارض الفن التشكيلي والبارات والمراقص والشقق.
إن “هبات ساخنة” تلفح وجوهنا بتاريخ نسائي مصغر وبسيط لأحداث يناير 2011. تحمل إلينا مشاعر وأحاسيس جيل من النساء تشكلت حياتهن قبل هذا التاريخ، لكن الأحداث التي جرت أعادت صياغة تلك الشخصيات، وحقنتها بالأحلام والطموحات، ووعدتها بالأمل. وبنتيجة ذلك، تخلت الكثيرات منهن عن بعض الأحلام الشخصية من أجل الحلم الجماعي الأجمل، حلم الثورة والكرامة والحرية ولقمة الخبز بدون إذلال أو انتهاك، وحاولت هذه أو تلك الاستعلاء على واقعها بالمزيد من الأحلام والآمال، ونسيان الفشل والرغبة في تجاوزه وتجاوز نتائجه. لكن الحياة هي الحياة والواقع هو الواقع. إن الحياة والواقع سلسلة طويلة مكونة من حلقات متصلة لا يمكن فصلها عن بعضها البعض. تنتهي أحداث يناير، وتنتهي معها الأحلام والطموحات والآمال. تنخفض الأسقف مرة أخرى، وتفشل زيجات، وتنهار قصص حب، وتسقط آراء ووجهات نظر ودموع وشخصيات، وتهاجر أخرى للبحث عن سعادتها، بينما تبقى أخرى في مكانها أسيرة النكد والفشل والندم، والحركة البطيئة مثل حركة السلحفاة وسط العشوائية والفوضى والعدمية.
إن شخصيات رواية “هبات ساخنة” واقعية لدرجة الخيال. عبارة عن كائنات تسير معنا وخلفنا وأمامنا وإلى جوارنا، قررت في لحظة ما، وبنتيجة “هبات مختلفة” أن تفصح عن أوجاعها، وعن وجودها، أن تعلن عن نفسها وعن خيباتها وفشلها ونجاحها وقلة حيلتها في واقع قاسي لا يرحم، لكن لا أحد هنا يتمرد على الواقع بقدر ما يتمرد على ظروفه الخاصة. كل شخصية من الشخصيات النسائية بحاجة إلى مقال منفرد يقوم على التحليل النفسي والجسدي، ويرتكز إلى تراكمات نفسية وإنسانية وخبرات وتجارب حياتية تمر بها المرأة في مجتمع قديم متهالك يسير بعشوائية وكأن القدر وحده هو الذي يحكمه. إنها سيرة الكآبة والبؤس: “كل ما فينا أوجاع، بداية من الختان، أوجاع الدورة الشهرية، ألم أول عملية جنسية، حمل، ولادة، رضاعة، بؤس انقطاع الدورة”.
تقرر “سلمى” أن تدخل بنا إلى عالم الواقع مباشرة بدون مقدمات ولا لف ولا دوران، عندما تعلن بسخرية وقوة وواقعية “أنا امرأة كسرت حاجز الأربعين، انقطعت دورتي الشهرية، أعيش مأساة سن اليأس… لن أردد تلك المقولات الساذجة التي تدعي أن لكل سن جماله… ما الجمال في أن يتساقط شعري، تسكن الهشاشة عظامي، تمرح الخشونة بمفاصلي، ما الممتع في سن أتحول فيه إلى ربع امرأة، بصدر لا تستطيع أية حاملة صدر أن تزيف مستوى تهدله…..”.. إننا هنا أمام مدخل واقعي تماما لعالم النساء عموما، ولعالم مجموعة من السيدات اللاتي ينتمين بدرجات مختلفة إلى الشرائح الوسطى من الطبقة الوسطى، وربما تنتمي بعضهن إلى الشرائح الدنيا من هذه الطبقة الإشكالية- الزئبقية عدوة نفسها. فمن الشكوى تتضح أحجام المعاناة التي تعانيها كل منهن. ولكن أن تنقطع الدورة الشهرية في سن الخامسة والثلاثين والسابعة والثلاثين والأربعين، فهذا يعني أن هناك مشاكل أخرى و”معاناة” أخرى غير معاناة المسار الطبيعي للجسد في علاقته بالزمن وبتحولاته البيولوجية الطبيعية. هناك معاناة في العمل، ومعاناة مع القلق والتوتر، ومع الخيبات والفشل والحرمان وعدم التحقق والصراعات الهامشية التي تستهلك الوقت والطاقة والعقل والجسد. إنها سمات ومميزات تلك الشرائح الوسطى من الطبقة الوسطى التي تدور كالماشية حول الساقية. من هنا أيضا تظهر مستويات ودرجات أوضاعهن الاجتماعية والمادية والمعاناة في العمل والتوتر والخوف الدائمين من فقدان شيء ما أو أحد لم يأت بعد، أو الفشل في الاحتفاظ بشيء ما أو بأحد ما قاب قوسين أو أدنى من المغادرة والرحيل.
إننا هنا أمام جملة من المآسي والتراجيديات المركبة، على رأسها علاقة الأم بالابنة، وعلاقة المرأة بالمرأة، سواء من خلال الصداقة أو من خلال علاقا القرابة. وإذا نظرنا إلى علاقة سلمى بأمها، سنجدها مثالا وسطيا بين علاقات متنوعة على هذا النسق. صراع الأم والابنة، ووصاية الأم وما تخلفه من أضرار وكوارث مهما كانت نواياها حسنة. لكن عادة ما يحدث صلح في نهاية المطاف أو تقع القطيعة النهائية. ولكن قبل حدوث ذلك تمر الاثنتان بطرق ومسارات مأساوية للغاية تستنفد طاقة كل منهما، وتحرم الابنة من جوانب كثيرة من حياتها لدجرجة أن الوقت يصبح متأخرا للغاية في إصلاح أي منها.
المكان رغم ثرائه ووحدته من جهة، واتساعه “الافتراضي” رغم صيقة الجغرافي، لا يوحي لنا بأي شيء غير ما نعرفه عنه أصلا. إنه وسط البلد وشارع هدى شعراوي والمقاهي المعروفة. كما أن علاقة سلمى بالمكان هي علاقة تكاد تكون مرتبطة بالتاريخ أكثر منها ارتباطا بالجغرافيا. فهي تفضل الحكي عن المكان بدلا من الالتحام معه والاشتباك مع تحولاته المرتبطة بتحولاتها هي وتحولات كل من تحكي عنهم في تاريخ المكان من باشوات وبهوات وأطباء وأثرياء. ولكن إذا دققنا النظر قليلا سنجد أن سلمى تتصرف بشكل طبيعي للغاية في ظل زحمة العالم وزحمة الدماغ وزحمة العقل واختلاط المشاعر. إنها امرأة مع نساء أخريات في ماكينة وسط القاهرة، وفي مواجهة كل الأخطار الممكنة بداية من مصائد وأفخاخ الرجال وانتهاء بالقبض عليهن أو على أي منهن لأي سبب، مرورا بصراعاتهن مع بعضهن ومعاركهن الشخصية بسبب الرجال وعليهم وعلى أشياء أخرى. ولا يمكن أن نستثني هنا أفخاخ ومصائد النساء لبعضهم وللرجال أيضا. فنحن أمام رواية كشف عن عالم يتعامل معه الكتاب والمثقفون وفق أيديولوجيات واستقطابات ومعايير مزدوجة. لكن هذا العمل السردي يطرحه أمامنا بصراحة وواقعية، مؤكدا أن مطالب النساء لا تقل عن مطالب الرجال في كل شيء، بما في ذلك الجنس والرغبة والجسد والسطوة والسيطرة والأنانية. هنا لا توجد نساء ملائكة ورجال شياطين أو العكس. هنا بشر نكاد نعرفهم، ونكاد نتأكد أننا اصطدمنا بهم أو بهن في أي حارة من حواري شارع هدى شعراوي أو في أي مقهى أو بار أو مرقص أو حفل ماجن أو ندوة أدبية أو معرض فن تشكيلي.
لدينا أكثر من خمس عشرة شخصية نسائية فاعلة في هذه الرواية. ومسارات سردية، من بينها حدوتة آدم وعلاقته مع سلمى، وزواجه منها لمدة خمس سنوات أثناء زواجه من أخرى. وقصة حب الراوية التي تحكي عن نفسها وعن الآخرين والأخريات في محاولة للعثور على نفسها، وعلى استرجاع ولو حتى مقاطع من قصة حبها الوحيدة التي ظلت تلازمها رغم زيجتها مرتين.
إن الحياة في وسط القاهرة توقع الإنسان في فخ التناقض بين الواقع البائس وبين الحنين لكل الصور التي يراها يوميا حوله. لكن “بزادة هانم”، أم سلمى، قررت أن تعيش الحنين وتنقله إلى ابنيِّ سلطانة التي عاشت مغامراتها كاملة، وفعلت ما تريد وحصدت النتيجة كاملة. امرأة مسؤولة مسؤولية تامة عن نفسها وعن كل أفعالها. بينما سلمى تعيش التناقض المرعب: حيث تعيش كل تاريخ مباني ومقاهي ومعمار وسط القاهرة وتمر عليه يوميا وتدوس عليه وتمر من حواريه، وفي الوقت نفسه لا ترى أي إنجاز يشبهه أو يضاهيه. إنها تسقط أسيرة ذلك التناقض بين الواقع والتاريخ، بين ما تركه التاريخ متجسدا في جغرافيا وبين مشاكلها الخاصة وحياتها البائسة والحياة التراجيدية للنساء المحيطات بها.
تأتي أسماء شخصيات حقيقية مثل مجدي عبد الملاك صاحب مقهى ريش، والكاتب مكاوي سعيد، وأسماء كاتبات وشعراء معروفين. لكنهم تحولوا في سياق السرد إلى نوع من أنواع الشخوص، أو بالأحرى إلى جزء من “مقتنيات وسط البلد”، وانصهروا في علاقات مع الأبطال الذين، كما قلنا، يتأرجحون بين الشخصيات الواقعية- الحقيقية وبين تجلياتها وصورها المجازية. غالبية الشخصيات تمنح انطباعا بأنها التقت القارئ على رصيف ما من أرصفة وسط البلد أو أحد البارات أو المقاهي. وعلى الرغم من الخصوصية التي يتسم بها نطاق الشخصيات، وهو نطاق يكاد يكون أنثوي، وربما نسوي أيضا، إلا أن “النسوية” هنا تتسم بطابع محلي للغاية بعيدا عن مظاهر وتجليات “الفيمينيزم” بكل أشكاله وأنواعه. إننا هنا بصدد عالم أنثوي ونسوي يشكل جزءا عضويا من نسيج المجتمع لا يتعالى عليه ولا يشعر فيه بدونيته. إنه ببساطة يتفاعل بصفته طرفا مهموما بالهم العام في كل صوره وتجلياته، بعيدا عن التطرف والنزق والاستعلاء. هذا يجعل من كل شخصية نسائية بطلة حقيقية رغم كل الضياع والفقدان وعدم التحقق والفشل.
سميحة والمصري النصاب الذي يقدم نفسه كثري خليجي. سميحة تشبه نفرتيتي. أحبها أدهم الصغير لرقتها وعطفها على شريكها النصاب، وتزوجها. قُبض عليها بتهمة السكر والعربدة مع النصاب بعد أن تتبعها من الجريون وهي سكرانة. فشل زواجها من أدهم الصغير بعد خمس سنوات. إن القصة المعهودة: المرأة المتسلطة طويلة اللسان والرجل المحب الذي تختبئ شخصيته اللطيفة الدمثة خلف قناع صلب من الصبر والتحمل والأدب، تتكرر أمامنا بخفة ورشاقة. تفشل العلاقة لتعكس مدى فساد جانب لا بأس به من مجتمع النساء نفسه وشراسته ونزوعه للانتقام والعنف. نوع متطرف من النساء، نزق، يبدد طاقته وطاقة من حوله من أجل إرضاء غروره وتضخم ذاته.
سماهر (ابنة الزمالك، وابنة سعادة السفير) تم القبض عليها وهي ترقص في الشارع بعد أن نزلت سكرانة من النادي اليوناني. تمردت على حياتها ونمط معيشتها ووالدها السفير وسافرت إلى فرنسا، وتزوجت، وفشلت، وعادت بتجربة مريرة إلى مصر. ثم تزوجت من أنس الرجل الذي كان معهن في قسم قصر النيل بتهمة محاولة قتل زوجته الهولندية. قابلها يوم تنحي مبارك وطلب منها الزواج، وظل يطاردها لعام كامل، ثم تزوجا بتشجيع من الجميع. أنجبت ولدين وأقامت معارض لأعمالها، وبدأت تخطو نحو النجاح.
مريم المسيحة التي لم يعد يقبلها لا المسلمين ولا المسيحيين بعد أن تطلقت من زوجها بحكم محكمة. وصديقتيها لوليتا وراجية. وفي نهاية المطاف تتزوج مريم من مدرس ثانوي مسلم وتعيش معه بشكل أفضل، حيث يحافظ كل طرف على مساحات الآخر العقائدية والإنسانية. أما لوليتا، فتكاد تكرر حدوتة “لوليتا” الشهيرة في رواية الأمريكي فلاديمير نابوكوف، لكن في هذه المرة مع أخيها الذي يغتصبها. إننا نعيش عالم النساء في مصرة بقوة وواقعية وكشف من دون خجل أو صمت.
لدينا أمل حفيدة المرأة القوادة، وسينا، وفريدة التي تزوجت من طبيب نساء وتركت عملها كممرضة، وأخريات. لكن “فُتنة” هي الأوضح والأكثر شراسة وتحديا. إنها تمثل قطاعا لا بأس به من الشرائح الدنيا في المجتمع. النساء اللاتي يعانين من سطوة الأب، وربما تحرشه، ومن زوج الأم ومن الشرطة والتحرش ومن صاحب العمل ومن ركاب المواصلات ومن جشع الأم وتسلطها وجبروتها، ومن إمكانية التعرض للاغتصاب في أي لحظة. إن فتنة تقوم برحلة صعود في غاية المثالية رغم قسوة تجاربها ورغم بؤسها الحقيقي. وفي النهاية تحصد نتائج كل مغامراتها، وتحقق ما تريده.
أحداث كثيرة تجري على خلفية الثورة، حب وزواج وسفر، وآمال بمستقبل جيد أخيرا، ثم طلاق وفشل وعدم تحقق. تحولات على خلفية تحولات وقصص حب وآمال، وكأن عالم جديد يمد قدمه للدخول إليهن، بينما لا يستطعن، وربما لا يملكن أي إمكانية، لمد أرجلهن من أجل الدخول إليه. لم يفلت من هذا المصير إلا فتنة وأدهم الصغير. وربما تكون أمل، حفيدة القوادة، قد فلتت جزئيا من مصيرها المحتوم، لكنه إفلات غير كامل في مجتمع عشوائي وأنساق طبقية أكثر عشوائية.
في المحصلة، كلهن نجون ما عدا واحدة أو اثنتين. ولكن في الواقع، لم ينج أحد. لأن لا شيء تغير بدرجة تسمح بتحولات حقيقية. إن النجاة هنا، هي نجاة شخصية، أو تحقيق مكاسب صغيرة تليق بالزمن الردئ وبالظروف المنحطة بعد موت الأمل الكبير، وبعد سيادة الفشل الكبير، وبعد أحداث ميدان التحرير التي مثَّلَت للكثيرات منهن طريق الخلاص، وتحقيق الذات، بل ووصلت إلى درجة منحهن الأورجازم الذاتي من جهة، والاستغناء الجنسي عن الرجال من جهة أخرى. إن خيبة الأمل هنا تقف على الطرف الثاني من المعادلة التي يحمل طرفها الأول تحقيق بعض الأشياء الصغيرة والرغبات الصغيرة، وإغلاق صناديق الذكريات على رجال غادرن أو هربن أو رحلن، والاكتفاء برجال طيبين مهذبين يحترموهن ويحاولون إرضاءهن.