عبد النبي بزاز
“نوافذ باسنوفا “مجموعة قصصية من نوع القصة قصيرة جدا ضمت بين دفتيها نصوصا لأربع كاتبات مغربيات، هن: نزهة الغماري، فاطمة الشيري، سعدية بلكارح وبهيجة البقالي القاسمي. وسنحاول في هذه القراءة مقاربة أهم موضوعات وتيمات هذه الأضمومة المشتركة، وما يوحد قصصها من قواسم، وما يفرق بينها من نزعات واتجاهات.
فنصوص نزهة الغماري الموسومة ب ” قصاب الأحلام ” تزخر بالعديد من العناصر التي تغني متنها القصصي ليغدو أكثر انفتاحا وانسيابية وامتدادا. بدءا من معجم متنوع تتقاطع فيه جوانب قومية (الوطن)، واجتماعية (الجوع)، ومعرفية (الكتب)،ونفسية سيكولوجية (السكون والخراب)، ووجودية أنطولوجية (الموت)، وقد صيغت النصوص بكثافة واقتصاد تمثُّلا وتمثيلا لمقومات جنس القصة القصيرة جدا الذي تنتمي له المجموعة في تشكيلها لتفاصيله ومعالمه بمجازية تخترقها مسوح شعرية، وتغيرات لا تخلو من انحسار وانكفاء: ” بيع الوطن، أحس بالتخمة ” ص 14، تنطلق من وصمة الخيانة إلى موت بامتدادات رمزية مفتوحة: ” انقض عليها نسر شرس. غسلت دماؤها مدافننا. ” ص17 لتتحول إلى صور تطفح بهاء وسطوعا : ” تضيء ضحكته المكان ” ص 15 بعد أن تتخلص من أدران لوثت صفاءها ونقاءها: ” تعفرت بالرماد ” ص 18، وما يحيل إليه (الرماد) من مخلفات انتكاسة وخفوت بعد ألق الاشتعال، وتوهج شرارته. ثم إثارتها لموضوع الكتابة وما يحفه من معاناة ومكابدة: ” توقف صبيب الحكي، مزق الورقة، وألقى بها في سلة المهملات ” ص 18، قد تسفر عن اندغام حسي وذهني مع طقوس حكي تتخللها نواميس متغيرة السيرورة والمجريات: ” تكتبني الحكاية ” ص 34 لنصبح أمام حالة توحد مع حكاية متقلبة الأطوار، متبدلة المنابع والمجاري. تتأرجح بين تمنع واستعصاء، ولين ومطاوعة. وتتضمن المجموعة كذلك موضوع الأسطورة بحمولاتها الرمزية والتاريخية كسيزيف، وأورفيوس،وسميراميس… مما يمنحها عمقا معرفيا ودلاليا يثري مدونتها السردية، ويوسع آفاقها، فضلا عن استلهام عبارات لأعلام مرموقين كالشاعر الفلسطيني محمود درويش: ” أحن إلى قهوة أمي ” ص 32، أو الشاعر السوري محمد الماغوط: ” عكاز الماغوط ” ص 37.
أما قصص فاطمة الشيري فتقوم على عناصر تضفي على مجموعتها (باقة حروف) طابعا يمنحها ميزة في النهج الإبداعي، والنمط القصصي كعنصر السؤال الغني بإيحاءاته، وانفتاحه على تأويلات موسومة بالتشعب والرحابة: ” سأله: من أنت؟ متى أصبحت غريبا؟ أم غيرك القرش؟” ص53 وما يفرزه من بحث عن هوية ديدنها التبدل والتحول لاجتراح أجوبة عصية على التحديد والإقرار. كما تتقاسم مع نصوص نزهة الغماري النزعة المجازية في عمق وشفافية صورها: ” فضح البياض وقار الليالي ” ص 42 في مفارقة البياض والسواد الرابض في ثنايا إهاب الليالي بلغة تنشد الكشف والاستجلاء (فضح)، ومزجها بين اللوحة التشكيلية: ” رسمت غيرها. وجدت نفسها تحضر لمعرض رسوماتها” ص 43، والتدوين على الورق: ” التهمت الألوان سواد الحروف” ص 43 في الزج بلون الصفحة، المعروف بالبياض، وسط معمعة ألوان غير محددة. وتتضمن مجموعة (باقة حروف) أسماء لشخصيات تاريخية كحنظلة: ” شاخ حنظلة ” ص 48 مقرونة بمرحلة الشيخوخة وما ترشح به كزمن عمري من مواصفات قيمية تختزلها الحكمة والخبرة والوقار… فضلا عن أماكن مثل غزة وما تحبل به من دلالات تاريخية ورمزية وإنسانية (معقل المقاومة الفلسطينية وقلعة صمودها في وجه المحتل الصهيوني الغاشم)، بأسلوب استغاثة: ” واغزتاه !” ص 48 في استنهاض لهمم الأمة العربية الإسلامية والضمير الإنساني للالتفاف حول وضعها المأساوي مساندة ودعما.و يرد في نصوص المجموعة كذلك نقد لما يعتور المجتمع من اختلالات، وما يشيع فيه من مظاهر الفساد: ” بأمر من الداخلية يفصل الرئيس، لاختلاسه أعراض الشعب” ص 97.
أما قصص الأضمومة الثالثة (ريح الصبا) لسعدية بلكارح فهي أيضا تتوسل،على غرار نزهة الغماري وفاطمة الشيري بلغة مجازية تدثرها غلالة شعرية: ” لملم جراحه وما تبقى من ذكرياته ” ص 76 تمثلا لمقومات جنس القصة القصيرة جدا وما تتأسس عليه من تكثيف واقتصاد دلالي ولغوي وإن كان بطابع غرائبي: ” أهذا زوجي أم سمكة قرش ترتدي معطفه ؟ ” ص 93 ما فتئ يتنامى ويتطور: ” يسحب لسانها لتذويب السكر ” ص 81، إلى أن يطال مدى تتم فيه أنسنة الطيور: ” ـ مرحبا هل أنت سنونو…جديد ؟ ـ لا، أنا حسون جديد ” ص 102.
غرائبية تحضر في مجموعة (لنون النسوة نقط فوق الحروف) لبهيجة البقالي القاسمي من خلال سؤال يشذ عن المألوف لمكونات طبيعية : ” سألت عنه الجبال، الهضاب، الوديان ” ص 105، وما تعرفه من تنويع يتشكل عبر شتى ا لتمظهرات والتجليات: ” كلما نادتها الحروف ” ص 115 تنتقل فيه الكاتبة لخلع صفة الكلام على الحروف في إيحاء وتلميح لنوعية العلاقة القائمة بين الكاتب المبدع والحروف من خلال ما يرسمه من آفاق لقراءة منتجة تصدر عن رؤية تأويلية مستشرفة، وقد تمتزج النزعة المجازية، في طابعها الموجز الكثيف، بمظاهرطبيعية كالأرض والبحر والرياح: ” ينتعل الأرض. يسكن العراء. يخاف البحر والرياح” ص 121، وما تحفل به من أبعاد رمزية، وإشارات دلالية أكثر ثراء وانفتاحا.
مجموعة ” نوافذ باسنوفا ” المندرجة ضمن لون القصة القصيرة جدا من تشكيل أربع قاصات مغربيات مبدعات تمثلن بعمق وتبصر مقومات الجنس القصصي الموجز في اختزاله للبعد الدلالي الكثيف، والتقتير اللغوي المنحوت بدقة وسلاسة وانسيابية وما شكله من ومضات تعج بإواليات حكي زاخر وثري مع تقاسمهن لتيمات طبعت نصوصهن بالغنى والعمق مع حضور موضوع الكتابة كهاجس لازمهن وشغلهن أثناء اشتغالهن وانشغالهن في نحت و تشكيل نصوصهن : ” لأطفو على السطح قفلة للنص ” ص 41، فالقفلة عنصر أساسي ومحوري في خلق نص قصصي موجز ظل يشغل مخيلة الكاتبة كهَمّ إبداعي جسيم ومكلِّف، وما يصاحبه من جهد إبداعي يستنزف مقدرات القاصة الحسية والذهنية في متحه من معين الفكر و الخيال: ” جف قلمه، كتبها قصة قصيرة جدا ” ص 107.
فمقاربة هذه الأضمومة القصصية تتطلب التوسل بالتؤدة والروية والتركيز لاستجلاء خفاياها، ورصد تبدلاتها الممعنة في التشكل والتجدد نرجو أن نكون وفقنا في بعضها من خلال فقرات هذه المقاربة.
…………….
الكتاب : نوافذ باسنوفا (قصص قصيرة جدا)
ــ الكاتبات: نزهة الغماري ـ فاطمة الشيري ـ سعدية بلكارح ـ
بهيجة البقالي القاسمي.
المطبعة : سليكي أخوين ــ طنجة2020.