نيران حرِّية الفرد: الوجودية

Sartre
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. نعيمة عبد الجواد

“لقد خلقنا الله أحرارًا ولم يخلقنا تراثًا أو عقارًا”، تلك الجملة الخالدة التي نطق بها بكل قوَّة وثقة الزعيم المصري “أحمد عرابي” في وجه “الخديوي توفيق” عام 1881—لم يكن يعلم أبدًا أنها أحد أهم مبادئ الفلسفة الوجودية، وعلى وجه الخصوص واحدة من أهم الموضوعات التي تناولها لاحقًا الفيلسوف الفرنسي “جون بول سارتر” Jean-Paul Sartre (1905-1980)، في كتابه “الوجود والعدم” (1943)، والتي بها أشعل نيران النداء بحرية الإنسان ليس فقط في أوروبا، بل أيضًا امتد لظاها إلى جميع أرجاء العالم.

ويعد السبب الأوَّل في تفشي الإيمان بحرِّية الفرد في ذاك الوقت، بالتحديد أثناء الحرب العالمية الثانية، هو المحاولة الدؤوبة للتخلُّص، قبل أي شيء، من جميع ألوان القيود الاجتماعية التي تكون أقوى من أي قيد ديني أو سياسي؛ فخوف البشر من نظرة بعضهم للآخر يفوق أي سُلطة أخرى، فالتأثير المباشر الفوري لآراء الآخرين يخلق ضربًا من ضروب السُّلطة التي قد تجعل أي شخص قد يتبنَّى سلوكًا ليس “أصيلًا”، أو بالأحرى لا يتوافق مع طبيعته، لمجرَّد الخشية من التعرَّض للانتقاد أو فقد القبول الاجتماعي.

والفلسفة الوجودية انتشرت في جميع أرجاء العالم منذ منتصف القرن الماضي تقريبًا، ولا زالت تحظى بالعديد من المؤيدين؛ بسبب أنها لم تتبِّع المنهاج التقليدي للتيَّارات الفلسفية، بوجه عام، والتي تحاول تفسير السلوك البشري من خلال منظور موضوعي ومجرَّد. فالفلسفة الوجودية، والتي أيضًا تعنى بدراسة البشر، اختارت دراسة الأفراد وسلوكهم بشكل مستقل عن الثقافة والتقاليد والقوانين، أي أنها تعنى بالإنسان ووجوده ككائن حي بعيدًا عن أي جدليات أو قيود.

وبما أن الفلسفة الوجودية تؤكِّد أن الإنسان حرّ وله مطلق الحرِّية في جميع أفعاله، فبدراسة سلوك البشر لوحظ أن الإنسان يعتقد أن تلك الحرِّية هي عبء يُثقِل كاهله، ويود التخلُّص منه في كثير من الأحيان كي يحظى بالقبول الاجتماعي ولا يتعرَّض للانتقادات. وتلك الظاهرة قد أطلق عليها “سارتر” ما يسمى ب”سوء المعتقد” Mauvaise foi، وهي ظاهرة نفسية تجعل الفرد يتصرَّف بشكل غير أصيل؛ أي مناف لطبيعته التي جبله الله عليها، وهذا لاستسلامه للظروف الاجتماعية الخارجية. وينجم عن ذلك تبني الفرد لقيم زائفة، والأدهي من ذلك، التبرُّؤ من حريته الفطرية التي جعلت منه كيانا بشريا واعيا. أضف إلى هذا، فإن حالة “سوء المعتقد” تنشأ أيضًا من اقتران الفرد بمفاهيم تجعله يخدع ذاته، أو يساير آخرين بالشعور بالامتعاض ورفض بعض الأمور والسلوكيات ظاهريًا؛ خشية من مخالفة الرأي السائد، مما قد يجعله هو ذاته محور الانتقاض والازدراء.

ووفقًا لسارتر، “الواقع البشري هو ما ليس عليه، وهو ليس ما هو عليه”. تلك الجملة الملغزة تعني أن الإنسان يُدرك تمامًا أن إدراكه بذاته وقدراته وآراءه التي يحبسها بداخله لا تعكس أبدًا هذا السلوك أو إدراك الذات الذي يتبنَّاه ظاهريًا كي يصير مقبولًا اجتماعيًا. فالإنسان لم يُخلق ليكون “شيئًا مقصودًا” Intentional Thing، مما يعني أنه يجب أن يخضع للقيود الخارجية التي يفرضها الواقع الشخصي، أو الجسدي، أو التاريخي أو حتى المسئولية الموضوعية. فعلى سبيل المثال، تبعًا ل”سارتر”، قد يقول البعض أنهم لا يودون الاستمرار في وظيفة ما، لكن ما يكبِّلهم هو وجوب العيش طبقًا لمستوى اجتماعي معيَّن حتى لا يفقدوا احترام الآخرين لهم، أو لكي يفوا بالتزاماتهم الاجتماعية إزاء، على سبيل المثال، عائلتهم. ففي كلا الحالتين يجنح الفرد لكبح حريته الشخصية خشية نظرة الآخرين له، والحكم عليه بأنه قد هجر إلتزاماته من أجل السعي وراء متطلَّباته الشخصية. ولعل ذاك هو السبب الذي يجعل الأفراد يزعمون بأريحية أن التقاليد، أو أي شكل من أشكال النواميس الاجتماعية، تفرض عليهم أمر ما ؛ لأن ذلك يجعلهم يشعرون براحة أكثر، لعدم الرغبة في تحمُّل مسئولية حرِّية تصرفاتهم.

 فتحمُّل عبء الحرِّية الفردية التي منحها الخالق لأي إنسان هي أمر مُرعب. ووفقًا لذلك، فإن مبدأ “إرادة القوَّة” الذي كان ينادي به الفيلسوف الألماني “فريديريك نيتشه” صعب التطبيق ومرعبًا للكثيرين، بل أن “نيتشه” جاوز هذا بالتوكيد بأن من استطاع تطبيق إرادته الحرَّة يصبح نموذجًا ل”الفوق إنسان” أو كما يترجمه البعض ال”سوبرمان”. وبما أن تلك المعضلة لا يمكن تجاوزها، فإن “سارتر” يحزم الجدل بقوله أن أفضل تعريف للشخص هو تعريفه من منظور سلبي، باعتباره “ما ليس عليه”، وهذا النفي هو التعريف الإيجابي الوحيد لـ “ما هو عليه”.

لقد ألقى الإنسان بنفسه في خضم جحيم الآخرين عندما اعتبر نظراتهم تجاهه ورأيهم فيه، أي أنه قايض وعيه الأصيل بنفسه بوعي الآخرين الزائف به، الذي حتمًا قد يتغيَّر تبعًا لتغيير حالتهم المزاجية أو حتى مواقفهم تجاهه؛ أي أنه يتبنى لنفسه “سوء المعتقد” كي يتخلَّص من عبء الحرِّية التي قد تكشف “ماهو عليه” والذي قد يكون حقًا صادمًا له شخصيًا. ولقد عبَّر “جون-بول سارتر” عن تلك الفكرة بكل وضوح وعبقرية في مسرحيته الموجزة “خلف الأبواب الموصدة” Hui Clos (1944)، وهذا العنوان مستعار من اللغة اللاتينية ويستخدم في المحاكم عندما تكون الجلسات الجنائية تستبعد حضور العامة وتقصر الجلسات على المدَّعين والدفاع والقاضي؛ أي أن الانطباع الرئيسي هو وجود محكمة وحساب.

ولقد وصف النقَّاد تلك المسرحية بأنها من الأعمال الجيدة التي يجب أن يراها كل فرد؛ فهي تدور حول فكرة فريدة من نوعها؛ وهي مسألة الحساب بعد الموت. وعلى عكس وصف حساب الآخرة وجهنم، كما ورد في “الكوميديا الإلهية” عند “دانتي” أو في حتى الكتب السماوية، جاء حساب الآخرة في مسرحية “خلف الأبواب الموصدة” بشكل محتلف تمامًا. عقاب جهنم يأتي في هيئة حبس ثلاثة أفراد مع بعضهم البعض في حجرة حديثة الأثاث ويجب على كل واحد فيهم تحمُّل الآخر، والأصعب تحمُّل نظرته له ورأيه فيه. في بادئ الأمر، يحاول “جارسين” الصحفي و”إيستيل” الجميلة اللعوب إخفاء حقيقتهما، بل أن “إيستيل” تدعي أنها قدمت لهذا المكان عن طريق الخطأ، وهذا ضمن محاولة يائسة منهما لتحسين صورتهما. وعلى النقيض، “إيناز” تعترف بخطاياها بكل شجاعة، وتعلن بأن وضعهم في تلك الغرفة المغلقة هو مخطط جهنمي؛ فلن يوجد جلادًا يلقون عليه اللوم أو يستريحون لمجرَّد أن خطاياهم لسوف تظل مستترة ومخفية عن عيون الآخرين، فالعذاب الحقيقي هو تعذيب كل منهم للآخر للأبد. حتى عندما تم فتح الباب، لم يستطع أي منهم الخروج بالرغم من الشعور بالضجر الشديد؛ وهذا خشية أن ينتشر خبر آثامهم وفشلهم في الحياة، مما يعطي إنطباع سيء عنهم أمام جمهور أكبر. المعضلة الرئيسية أنهم حتى بعد الموت لا يدركون أن نظرة الآخرين لهم أصبحت لا قيمة لها، لكن العذاب الحقيقي أن الإنسان يسجن نفسه في “سوء المعتقد” بمحض إرادته.

في مسرحية “خلف الأبواب الموصدة” أُطلقت العبارة الشهيرة “الجحيم هو الآخرون”، والتي لا تزال متداولة حتى الآن. والمدهش أن الإنسان لم يكتفِ بزيف شخصه وسوء معتقده للدوائر المحيطة به، بل أنه في عصر وسائل التواصل الاجتماعي يحاول نشرهما على مدى أوسع، ويضع لنظرة الآخرين العديد من الاعتبارات. فالإنسان الحديث يسعد عندما يجمع أكبر عدد من المشاهدات وعلامات الإعجاب والتعليقات على منشوراته. لكن مصدر سعادته تلك تنقلب لشقاء عندما تكون المشاهدات لفضيحة أو كلام مسيء، وتتحوَّل علامات الإعجاب لعلامات غضب، والتعليقات إلى سباب. وكثيرًا ما يقع معتنقي “سوء المعتقد” في مشكلات كبرى قد تتحوَّل إلى محاكمات جنائية وتتطور إلى عقوبات بالسجن أو الغرامة أو كليهما، وهذا سعيًا وراء تصدُّر “الترند”. وبعد هذا يشتكي الفرد من الظلم الواقع عليه، بل وتأتي الشكوى بنفس الطريقة التي يأمل أن تجعل منه “ترند” وقد تعرضه للسباب. أي أن الإنسان أصبح يدور في دائرة مفرغة لا فرار منها.

وعندما يصبح الجحيم هو الآخرين، فيجب أن يعلم أي شخص أنه هو من فتح بوابات الجحيم عندما قايض حريته ب “نظرة الآخرين” واعتبار آرائهم. فجميع المخلوقات قد جُبِلَت على الحرِّية حتى ولو كانت حبيسة أعتى السجون أو واقعة تحت أشد أنواع القهر، لكن يأتي كبح تلك الحرية من سجن الفرد لنفسه بمحض اختياره.

 

مقالات من نفس القسم