محمد العبادي
هو عام استثنائي في الأوسكار بالتأكيد.. نجحت كورونا في أن تغير خريطة مواعيد الجائزة الأمريكية الأبرز.. بل وأجبرت الأكاديمية أن تغير قواعد الترشح للجائزة الراسخة منذ عشرات السنين
انعكست هذه الاستثنائية على ترشيحات الجائزة نفسها.. فنجد مجموعة من الأحداث التي تحدث للمرة الأولى.. خصوصا في فئة الإخراج.. لأول مرة يتم ترشيح سيدتين في فئة الإخراج في نفس العام ولأول مرة يتم ترشيح شخصان من أصل آسيوي في نفس الفئة.. ويبدو أن المستفيد الأول من كرم الأكاديمية تجاه المرأة وآسيا هذا العام هو الصينية “كلوي شاو”، لتصبح أول صينية ترشح لجائزة الإخراج.. بل أول مواطن صيني يحصل على هذا الترشيح.. بالإضافة لحصولها على ثلاث ترشيحات أخرى عن فيلمها “نومادلاند”
لكن من الصعب أن نعتبر هذه الترشيحات هي نتاج لعبة الأفضليات السياسية والعرقية التي تحب الأكاديمية أن تلعبها كل عام.. الحق أن “شاو” نجحت في تقديم فيلم استثنائي.. جمع بين صدق السينما الوثائقية وجمال السينما الروائية.. فيلم عن الإنسان والوحدة.. ليست الوحدة بمفهومها الخارجي البسيط بالابتعاد عن البشر.. بل الوحدة الداخلية التي تتملكك حتى إن كنت وسط زحام من الناس.. بل وسط من يعدون أنفسهم عائلتك…
بتتبع الفيلم لرحلة “فيرن”، فرانسيس ماكدورماند.. التي تعيش حياة “الرُحل” فتتنقل بسيارتها عبر أرجاء الولايات المتحدة.. بعد اندثار المدينة التي عاشت فيها مع زوجها بسبب إغلاق مصنع المدينة.. ونتعرف عبرها على مجتمع من “الرحل” العابرين عبر الولايات من مكان لآخر بلا استقرار.. سياراتهم هي بيوتهم.. يستقرون فيها بين السهول والبراري أو في باحات انتظار مخصصه لهم.
اختارت المخرجة أن تقدم فيلمها عبر مجموعة من “الرحل” الحقيقيين وليس بالاستعانة بممثلين محترفين، إلا لعدد محدود من الأدوار.. هذا الاختيار الجريء أعطى صبغة وثائقية للفيلم.. لكن الأداء المميز لفرانسيس مكدورماند في الدور الرئيسي ساعد على وضع الفيلم في سياق خاص مختلف.. أجادت فرانسيس الاندماج في الشخصية.. فعاشت في سيارة لعدة شهور تنقلت خلالها عبر سبعة ولايات.. جاء أداؤها واقعيا حتى أن رفاقها من “الرحل” لم يعرفوا أنها ممثلة هوليودية واعتبروها “منهم”.. أداء “ماكدورماند” وإن بدا بسيطا إلا أن المشاهد الفطن سيجد ان تحت قشرة البساطة هناك الكثير من العمق في هذا الأداء الذي استحقت عنه ترشيحها السادس للأوسكار.. بمتابعة أداء مكدورماند هنا وأداءها السابق الحاصل على الأوسكار في “ثلاث لوحات إعلانية خارج إيبنج، ميسوري” نجد أن اختيارها يذهب للأدوار المتحدية التي تحتاج لأداء خاص يتطلب لياقة فنية على أعلى مستوى ووعي كامل بالسياق الاجتماعي والنفسي للشخصية والفيلم ككل.
يرى البعض أن الفيلم هو انتقاد لنظام التمويل العقاري الأمريكي الذي يغرق المواطن في الديون سعيا وراء اقتناء منزل ضخم لا يحتاجه حقا.. لكن ربما أذهب خطوة أبعد وأزعم أن الفيلم ينتقد نمط الحياة الأمريكي.. بل نمط الحياة الغربي المعاصر عموما.. يعرض الفيلم لشخوصه من الرحل وهم يعيشون في نمطهم الخاص.. ورغم توفر المسكن المستقر والمناسب لبعضهم إلا أنهم اختاروا نمط الحياة “المتنقل” بمحض إرادتهم.. لأسباب تختلف من شخص لآخر.. لكنهم يظهرون جميعا كأرواح حرة.. لا يقبلون الحياة تحت قيود العائلة والمجتمع والمنزل بشكله البارد والخالي من الروح.. أي أن الرحل كما قدمهم الفيلم ليسوا “ضحايا” للنظام.. بل “متمردين” عليه.
رغم اعترافنا بتفرد أداء “فرانسيس ماكدورماند” في شخصية “فيرن” لكن تبقى البطلة الحقيقية لهذا الفيلم وراء الكاميرا.. “كلوي شاو” هي المبدعة الرئيسية لهذا العمل بكل مراحله.. السيناريو ثم الإخراج والمونتاج.. قدمت شاو نفسها كمؤلفة سينمائية ذات لغة بصرية شعرية ومحتوى فلسفي عميق.
لا ينافس شاو على دور البطولة خلف الكاميرا إلا مدير التصوير “جوشوا جيمس ريتشارد” الذي ظهر إبداعه في تصوير البراري الأمريكية الممتدة.. خصوصا في أوقات “الساعة الذهبية”.
بروح شاعرة.. قدمت لنا الصينية “كلوي تشاو” فيلما عن الوحدة والترحال في براري أمريكا.. فأظهرت روح أمريكا أجمل مما رأتها عيون ملايين الأمريكيين.