أحمد عويضة
“الآن صرتُ أنا الموت.. مُدمر العوالم”.
تلك الجملة التي اقتبسها جي روبرت أوبنهايمر من أحد الكتب المقدسة الهندية عندما شاهد بنفسه أثر انفجار القنبلة النووية في تجربة ترينتي قبل جريمة إلقائها على مدينة هيروشيما.
زاد انتشار تلك العبارة في الأيام القليلة السابقة بعد الإعلان عن اقتراب عرض فيلم اوبنهايمر لصانع الأفلام الكبير كريستوفر نولان، وهو حدث جلل في أوساط السينما العالمية دائمًا. وكالعادة قبل عرض الفيلم انهمرت علينا لقاءات وتصريحات لنولان عن استخدامه كاميرات Imax في تصوير الفيلم والاعتماد على تقنيات غاية في التطور ربما لن تجد شاشات كثيرة لتعرضها كما هي في العالم، حد أنني شاهدت تعليقات للكثيرين تتحدث عن السفر من أقاليم مصر إلى القاهرة لتحضر الفيلم في قاعة Imax الوحيدة في البلد بأكملها.
تاريخ كريستوفر نولان
ربما تاريخ نولان يجعل التسويق لعملٍ قادمٍ له أمرًا في غاية السهولة، فهو الرجل الذي سحر الناس بداية من فيلم Insomnia للعظيمين آل باتشينو وروبن ويليامز (بداية شهرته الفعلية رغم أنه ليس أول أفلامه)، ثم The Prestige وثلاثية Dark Knight التي زاد جزءها الثاني من شهرته بشكلٍ مهول قبل أن تنفجر في العالم كله بفيلم Inception وبداية من هنا أصبح العالم كله ينتظر الفيلم القادم لصانع الأعمال غير كثيف الإنتاج.
كان القاسم المشترك في كل أعمال نولان، والذي لاحظناه نحن “الجمهور العادي” هو سعيه الدائم للابتكار والتجديد، الإبهار في تقديم الأعمال دون إغفال الارتباط الإنساني بين الجمهور والعمل. بداية من فيلم Memento الذي تم سرده بالعكس من البداية للنهاية، وحتى في ثلاثية مثل Dark Knight التي تتناول شقًا من حياة باتمان أشهر بطل خارق في التاريخ، وتجلى إبهاره البصري وابتكاراته في فيلم Inception ومن بعدها Interstellar فيلمه المفضل بالنسبة لي.
أوبنهايمر
بنى نولان فيلم أوبنهايمر على أحداث كتاب American Prometheus الذي يسرد سيرة أبي القنبلة الذرية من بدايته مرورًا بقمته وحتى انحداره بعد ذلك، وركز الفيلم على الفترة من بداية مشروع مانهاتن لإنتاج القنبلة النووية الأولى وحتى الحرب التي قامت على أوبنهايمر من الحكومة الأمريكية والسياسيين بعد رفضه إكمال مشروع القنبلة الهيدروجينية. واعتمد الفيلم على ثنائية السرد، فخيط من الأحداث يسرده عالم الفيزياء اللامع روبرت أوبنهايمر (كيليان ميرفي) بنفسه وخيط آخر يسرده رئيس هيئة الطاقة الذرية الأمريكية لويس ستراوس (روبرت داوني جونيور) ويتقاطع الخيطان كثيرًا، وقام نولان بحيلة إخراجية لتمييز الخيطين السرديين بأن جعل أحدها بالأبيض والأسود.
ربما ليس ذو جدوى أن نتحدث عن كريستوفر نولان كمخرج، الفنيات والتقنيات المستخدمة وجودة الأفلام تتحدث عن نفسها، إلى درجة أن كثيرًا من النقاد يصمون أكاديمية الفنون وعلوم الصورة لأنها لم تُعطِه جائزة الأوسكار كأفضل مخرج حتى الآن. وهذا الفيلم لا يختلف كثيرًا عن باقي أفلام نولان من ناحية الجودة وزوايا التصوير والإخراج وقلة الاعتماد على المؤثرات البصرية CGI قدر المستطاع.
أما أداء الممثلين فكان هو المنتظر منهم لا أكثر ولا أقل. فمن الطبيعي أن تنتظر أداءً مميزاًا من كيليان ميرفي وإيميلي بلنت ومات ديمون، ومن الطبيعي أيضًا أن تنتظر أداءً استثنائيًا من روبرت داوني جونيور، لا أحد منهم فاق التوقعات، وربما هذا يرجع إلى طبيعة أفلام كريستوفر نولان التي لا تترك الكثير للممثل ليقدمه، إلا استثناءات نادرة سنأتي للحديث عنها لاحقًا.
أما إن تحدثنا عن المشاكل فهناك مشكلتان أثرتا على متعة المشاهدة بالنسبة لي كمتفرج:
الأولى هي طريقة سرد الفيلم وتقطيع المشاهد الذي تم استخدامه بكثرة أثرت على متعة المشاهدة وتحدت قدرة المشاهد على تتبع خيوط الحدوتة من البداية للنهاية، لا ضير في التقطيع السردي والقفزات الزمنية كمحفز للتركيز للمشاهدين، لكن استخدامها بكثرة يخرج من بند التحفيز إلى بند التحدي الذي سيؤدي بالتالي إلى تقليل المتعة وتيه الكثير من المشاهدين وفقدانهم الرابط الذي يربطهم بالفيلم.
أثناء خروجي من السينما أمس وممارسة هوايتي المفضلة في التصنت على الأحاديث الجانبية للمشاهدين بعد الفيلم لأعرف آراءهم، قابلني كثيرًا تعقيب من أحدهم لصديقه: الفيلم حلو لكني لم أفهم لماذا قام بكذا؟ أو لماذا حدث له كذا؟ لماذا لم يفعل كذا؟ وكل هذه التساؤلات مُجاب عنها بالفعل في الفيلم لكن إجابات مقتضبة بشدة إلى درجة أنها تاهت وسط التشظي السردي الكثيف.
أما المشكلة الثانية فسنتحدث عنها في الفقرة التالية.
ما أفتقده في أفلام نولان من بعد Interstellar
صنع كريستوفر نولان ثلاثة أفلام بعد Interstellar، هي Dunkirk و Tenet وآخرهم أوبنهايمر، والثلاثة أفلام في مستوى استثنائي من ناحية الصورة والإخراج، وفي العموم هي أفلام ذات مستوى جيد. لكن المفقود في الأفلام الثلاثة هو علاقة المشاهد بالشخصيات وبما يحدث لهم داخل الفيلم، ذلك التفاعل الذي يجعلك تشهق، تنقطع أنفاسك، تتسع عينك، تحزن أو تفرح لأجلهم، تخاف أن يحدث لأيهم مكروهًا. وللعلم ف Dunkirk هو فيلم حربي في الأساس، فتخيل أن تشاهد فيلمًا حربيًا دون أن تتعاطف للحظة مع أحد شخصياته أو تخاف من أجله؟ وبالمثل في Tenet ومؤخرًا في أوبنهايمر. استمتعت بالفيلم ولم أشعر بالملل طوال الثلاث ساعات، لكني لم أرتبط بأي شخصية موجودة على الشاشة، رغم الانتصارات والانكسارات والتحولات لم أشعر للحظة بأي شيء.
وإن أردنا أن نُقارن مثلًا فربما يمكننا أن نتذكر شخصية آل باتشينو في Insomnia وشعورنا كمشاهدين بالانزعاج الذي ينتج عن الأرق وعدم النوم لعدة أيام، أو الخوف الشديد من جوكر (هيث ليدجر) في فيلم Dark Knight وهو الخوف المصحوب باعتبار كبير لفلسفته التي إن كنت ساخطًا بعد الشيء ستجد أن لها الكثير من الوجاهة. وتجلى ذلك الارتباط مع كوبر (ماثيو ماكوناهاي) في Interstellar الذي تحدى المشاهدين بالنظرية النسبية والثقوب الدودية لكنه قدم مع هذا التحدي حكاية إنسانية بامتياز جعلتنا جميعًا نتأثر ونتعاطف بل نبكي حزنًا وفرحًا.
أما من بعد Interstellar فأنا لا أشعر إلا بالوجود الصارخ لشخص كريستوفر نولان في كل لمحة في الفيلم، وكأنه أصبح يقف أمام عمله الفني لا خلفه كما يجب للمبدع أن يقف. كل تفصيلة في الفيلم تصرخ أنا من صناعة كريستوفر نولان، حتى أن تلك الصرخات تُلهيك عن مشاهدة الفيلم والتفاعل معه.
ومن المثير للاهتمام أن الرابط المشترك بين Insomina و Dark Knight و Interstellar وبعض الافلام الاخرى ما قبل 2014 أن الكتابة كانت لكريستوفر نولان وجوناثان نولان سويًا، وليس لكريستوفر نولان وحده كما صار الأمر بعد ذلك. هل لهذا الأمر علاقة بالمشكلة التي بزغت بقوة أم لا؟ لا أعرف.. لكنه افتراض مثير للتأمل.
ملحوظة جانبية عن فيلم أوبنهايمر (الأمريكي جدًا)
الفيلم يتحدث عن جريمتين قامت بهما الولايات المتحدة الأمريكية دون سبب سوى فرض القوة، جريمتان تقشعر لهما أبدان العالم الإنساني حتى الآن، وفي الفيلم تمت الإشارة إلى ذلك على استحياء بذكر أرقام الضحايا، والحديث المقتضب الباهت هنا وهناك عن بعض الندم الذي شعر به أوبنهايمر وبعض العلماء المشاركين في مشروع مانهاتن، لكن الأمر كله تم على استحياء شديد رغم احتواء الفيلم على فرص كثيرة لإظهاره بعض الشيء، بالإضافة إلى أن الفيلم تعمد عدم إظهار الضحايا (اليابانيين) من قريب أو بعيد ربما كي لا يشعر المشاهد بفداحة ما حدث، فقط يتم الإشارة إليهم من خلال الحوار أو البيانات، كأنهم حرصوا على ألا يتعدى الأمر كونه إحصائيا بحتا. وكأن الفيلم يريد أن يقول نعم الأمر كان خطأ وربما نحن نادمون عليه… ربما.