محمد السيد إسماعيل
لا تنفي الكاتبة الروائية المصرية نورا ناجي وصف كتاباتها ب”الكتابة النسوية”، بل ترى أن الكتابة الحقيقية هي – بالضرورة – “نسوية” سواء كتبها رجل أو امرأة. فالنسوي – عندها- يرادف “الضعيف والمهمش”، وهذا ما يبدو في روايتها الجديدة “بيت الجاز” التي لا ينسحب وصف “الهامشية ” فيها على الشخصيات فحسب، بل تشمل اختيار المكان ذاته، فبيت الجاز منطقة مهمشة معزولة من مناطق “طنطا” تضم: المقابر ومستشفى الجذام وكوبانية الجاز، وهي تنتمي – بدورها – إلى ما يعرف بالكفور القبلية، هذه الكفور التي تمثل مكاناً بينياً بين القرية والمدينة، إنها حالة “وسطى” فلا هي حافظت على ريفيتها ولا استطاعت الانتقال إلى الطبيعة ” المدنية “.أضف إلى ذلك أن معظم الأحداث تدور في أماكن الموت والفقد والمآسي مثل المقابر ومستشفى الجذام وعيادة د. يمنى وكوبانية الجاز.
وتتوزع فصول الرواية – على تفاوت واضح في عدد صفحاتها – إلى هذه العناوين: الكاتبة، التي تأخذ اسم “رضوى” وهو ما يعكس – كما صرحت بذلك – تعلقها الشديد بالكاتبة الكبيرة رضوى عاشور، ثم فصل تحت عنوان “الراوية” ويدور حول يمنى الطبيبة بمستشفى الجذام والتي تسكن في بيت مقابل لبيت الجاز مما أتاح لها رؤية ما فعله ” زيزو” مع “مرمر” ابنة أخيه وما ترتب عليه من حملها. ثم الفصل الذي يحمل عنوان “الحقيقة” ويدور حول مرمر وأسرتها وهكذا يمكن أن نقول إن هناك إشباعاً للتوقع، فبمجرد راءة عنوان الفصل نعرف الشخصيات التي سيتحدث عنها.
الأسلوب البريختي:
يضرب المسرح البريختي إيهام تقديم الواقع، ويؤكد أنه يقدم “لعبة” مسرحية قائمة على التأليف والتخييل، يمكن أن يشارك فيها المتلقي، وهذا ما فعلته نورا ناجي في أكثر من موضع من الرواية، فالكاتبة تصرح بأنها تسعى لتأيف رواية عن د. يمنى ومرمر وزيزو، وهذه المنطقة المعزولة التي يعيشون فيها، أو حين تقول “ربما ستترك الكاتبة التي تبحث عن أصلها قليلاً – حيث أخبرتها امها أنها ليست ابنتها – وتبدأ التفكيرفي الأم نفسها، الأم التي ألقوا بطفلها من الشباك، منذ أن قرأت هذه الحادثة، وهي تتخيل فتاة بعينها ستطلق عليها اسم مرمر تعيش في الحي المجاور لحيها. في ذلك المنزل الأسطوري المسمى ببيت الجاز ” نحن إذن أمام أحداث تنتمي للخيال وإن لم تفقد صلتها تماما بالواقع، أحداث ترتبها الكاتبة في ذهنها وتؤلف بينها. فعندما ترى “بيت الجاز” تقول إنها “ربما تكتب رواية عن ذلك البيت” الذي أصبح مجرد مثير إبداعي تخلق الكاتبة – من خلاله – شخصيات الرواية وأحداثها. وهو أمر متكرر تشير إليه الذات الثانية المتعالية على الجميع بمن فيهم الكاتبة نفسها مستخدمة ضمير الغائب، حين نقرأ في موضع آخر “جلست – أي الكاتبة – في الشرفة أمامها اللاب توب، تفكر في يمنى، الشخصية المعقدة التي تطاردها منذ بدأت في كتابة الرواية” أو قولها إنها “سرقت اسم الطبيبة وسنها وأفكارها وحبها للأفلام، ومنحت كل ذلك إلى بطلة روايتها، ستكتب عن الواقع والخيال، ستكتب رواية بطلتها يمنى، وستقص واقعاً بطلته مرمر” وتربط رضوى نهاية هذه الرواية التي تتحدث عنها بالراوية الكائنة بين أيدينا، ففي نهاية “بيت الجاز” تقول ” عندما انتهت من كتابة روايتها الأخيرة، نامت فحلمت برضوى عاشور” مما يدل على التماهي بين الروايتين وكأننا أمام رواية تكتب نفسها أمامنا أو رواية تتحدث عن نفسها.
غايات السرد:
تؤكد الكاتبة – الشخصية السردية – أنها سوف تكتب عن الفقد غير المرئي، والموت غير الملموس، وهو مايعني أنها سوف تكتب عن نفسها وتكشف عن ذاتها لتتمكن من نسيان رضوى القديمة، حين تعرف “أن كل ما تملكه ليس لها، وأن حياتها محض وهم” وإذا كان ذلك كله فقداً غير مرئي وموتاً غير ملموس، فإنها قد تحدثت – أيضاً- عن الفقد المرئي حين ذكرت انتحار “مرمر” حرقاً فوق سطح بيتها بعد اكتشاف حملها من عمها “زيزو” تحت تأثيرما يتعاطاه من “حشيش”، إن مرمر شخصية مأساوية حقاً فقد عوقبت على ذنب لم يكن لها يد فيه، ذنب وقع دون أن تدرك فداحته.ومن ساعتها وهي لا تف عن التلاشي ” مرة عندما اختفت أسفل جسد زيزو، ومرة عندما اختفت في جلبابها المحترق، ومرات عديدة عندما كانت تراقبها – أي يمنى – عبر الشباك وهي مقيدة في سرير، تبهت شيئاً فشيئاً، ومرة عندما تمزق اسمها مع الكشك المنهدم، ومرة الآن والبلدوزر ينتزعها من الأرض أمام الجميع ” هذا التلاشي المستمر حتى بعد موتها يرادف ما يحدث لمرضى الجذام، وهو ما يقربنا من دلالات ” الديستوبيا” على مستوى الشخصيات التي تمارس الرذيلة بوصفها أمراً اعتيادياً، فيمنى الطبيبة المتزوجة تمارس “الجنس” مع طبيب الأسنان، وبعد أن ينتهيا يقومان بارتداء ملابسهما والخروج من العيادة دون كلمة كأنهما لم يفعلا شيئاً. وعندما تعرف رضوى من المرأة التي تبنتها بأنها ليست أمها لا تتوقف كثيراً إزاء هذا، ولم تحوله إلى مأساة، إضافة إلى حياتها الحميمة مع أحد الكتاب وحملها منه وإجهاضها، لأنها – بوصفها كاتبة – “لن ترى العالم من خلاله أبداً، تراه من خلال أشياء أخرى، من خلال اللغة والحروف والحكايات والقراء والمعجبين…لا بيت يتحمل كاتبي “. وعندما يعرف الجميع أن زيزو هو الجاني الذي اعتدى على مرمر لا يفعل أحد معه شيئاً، ويمارس حياته كما لو لم يرتكب هذه الجريمة، وتقوم ” نجاة ” عمة مرمر بإجهاضها وإلقاء الطفل من شباك المستشفى دون اكتراث، بل إن زيزو أصبح رمزاً للجميع، كما نفهم من قول يمنى إن “عليها ألا تكره زيزو إلى هذا الحد، وعليها ألا تشعر بالغثيان كلما لمحته واقفاً في كشكه، لأنها لا تختلف عنه كثيراً، لا هي ولا والداها ولا عائلة مرمر ولا الناس جميعاً”. كما يلعب المكان دوراً واضحاً في تأكيد هذه الديستوبيا حيث تظل الشخصيات محاصرة بأماكن الموت (المقابر) والفقد (مستشفى الجذام) والمأساة (بيت الجاز الذي شهد احتراق مرمر)، على أن أكثر المشاهد بشاعة هو محاولة اغتصاب مرضى الجذام للممرضات اللائي لم يخلصهن إلا تدخل الشرطة.
كتابة الألم:
الحقيقة أننا أمام كتابة الألم الإنساني أو كتابة المأساة، تقول رضوى “الكتابة أقسى من الحياة. في الحياة سيسقط الطفل من الشباك” لكنها – في الكتابة – “لن تفكر كثيراً في الطفل بل ستبحث عن أصل الحكاية، عن الجذر المختفي داخل الأرض، عن القسوة التي أدت للفعل” هذه القسوة التي ترادف فقدان الحياة الحقيقية تستدعي ما يعرف عن الحضارتين: الآشورية والفرعونية ورؤيتهما للموت، فقد “خاف الآشوريون من الموت أو احتقروه، لأنه مجرد ظلام ينتهي إليه الجميع، لم يؤمنوا مثل الفراعنة بأن الموت هو الحياة الحقيقية، أضاع الفراعنة حياتهم في التأهل للموت، وأضاع الآشوريون حياتهم في الهرب منه ” فضياع الحياة هو النتيجة الحتمية للرؤيتين رغم تناقضهما. وضياع الحياة هذا يؤدي – بداهة – إلى الإحساس بالاغتراب حتى بين الزوجين، فيمنى – دائماً- ما تتخيل رجالاً آخرين غير زوجها أثناء علاقتهما الحميمة و”أحياناً ما تشعر بالذنب لأنها تتخيل زوجها رجلاً آخر في السرير، تتخيله واحداً من أبطال خيالاتها” وهو ما أدى إلى إحساسها الدائم بالكوابيس حيث لا تحلم “سوى بثعابين تطاردها” ولعل ذلك ما أدى بها إلى تفعيل خيالها في محاولة لتجاوز واقعها.
إن لعنة الرذيلة التي طالت نساء الرواية توازي لعنة الفقر التي دمرت حياة أسرة مرمر مادياً وأخلاقياً. ويمكن القول إن هناك ثيمات موضوعية كثيرة التردد في الرواية مما يحقق مايسمى بالإيقاع الروائي، ومن ذلك الإشارة المتكررة إلى سقوط الطفل من شباك المستشفى، والحديث عن الملائكة التي تهبط كل ليلة من السماء “لتأخذ شيئاً من أشخاص مختارين. تأخذ الألم أو الفرح أو الحب أو الراحة أو الحزن ” إن نورا ناجي قد عبرت – باستفاضة – عن آلام جيلها ومعاناته التي لاتنتهي.