محمد السيد عيد
(1)
المخاض.. الممر
هاتان هما باكورة الابداع الروائى للقاص السكندرى رجب سعد السيد، وهما بلا شك يستحقان الوقوف عندهما، لأن البداية عادة تشير الى ما بعده.
والروايتان – كما سنرى- تنتميان لأدب الحرب، وهو نوع من الأدب تحرص عليه الأمم لأنه يسجل بطولاتها وتضحية أبنائها من أجل الأرض والمبدأ، ويترك للأجيال التالية القدوة والمثل في الكفاح من أجل القيم النبيلة.
وتزداد قيمة هاتين الروايتين حين نعرف أنه قد خرجت الى الوجود منذ سنوات بوادر اتجاه أدبى جديد يتغنى باسرائيل. ونجمتها السداسية، وأبنائها الذين لا يزالون “هم أو ذريتهم الممتدة يؤسسون ويشيدون في كل مكان”، ولا يرى حرب ٧٣ أو غيرها محاولة لاسترداد الأرض أو إنقاذ الشرف، بل يراها مجرد غول أسطورى “يلتهم حتى الوطنية ذاتها”.
وقد تبلورت بوادر هذا الاتجاه وتركزت في كاتب مقيم بالاسكندرية، طبع حتى الآن مجموعتين قصصيتين في إسرائيل. وبث خلالهما آراءه ومعتقداته، ولعله من المفيد أن نقف أمام بعض قصص هذا الكاتب وقفة سريعة، نقدم فيها للقارى، بعض النماذج لأبطاله وأفكاره ومعالجاته الغريبة.
البطل في قصص هذا الكاتب صعيدي، عرف اليهود في طفولته وصباه، وكان حبه الأول دائماً من الفتيات اليهوديات، أو على الأقل التقى بفتاة يهودية بعد أن أصبح شاباً ناضجاً، وما إن رأى النجمة السداسية على صدرها الجميل حتى وقع أسير هواها. وراح يبحث عنها في كل مكان، الى أن عثر عليها في نهاية المطاف..
و يكشف لنا الكاتب في إحدى قصصه أن الكثيرين من أهل الاسكندرية الذين يرتدون الملابس الوطنية، ويحملون لقب «حاج» ليسوا سوى يهود متنكرين، وأن الكثير من المحال الموجودة في أهم مناطق الاسكندرية ليست سوی محلات ليهود يخفون حقيقتهم. وأن الكثير من المباني القائمة في المدينة ليست سوى مبان يهودية طمست العلامة من واجهاتها، حتى ليخيل للقارىء أن نصف سكان الاسكندرية يهود دون أن يدرى.
وبقدر ما يحرص هذا الكاتب على إظهار الطيبة اليهودية، واضطرار اليهود الى الخروج من مصر بليل هرباً من النازي في الأربعينات، وعلى يد الثورة في الخمسينات، بقدر ما يصور المصريين في صورة خالية من أى بريق، أو بمعنى أصح في صورة الأضعف، فحين يلتقى شاب مصرى بحبيبته السابقة “اسرائيلية”، بعد معاهدة السلام، لا يدور الحديث حول بطولة الجندى المصرى في أكتوبر، بل حول نكسة يونيو ١٩٦٧، وتقول الفتاة الإسرائيلية للشاب المصرى:
“في حرب ١٩٦٧ تقع في الأسر. أقرأ اسمك في القوائم.فأذهب لزيارتك. لقد جندت أنا أيضاً. أراك في الأسر في صورة أليمة. أنظر من بعيد ولا أعلن عن نفسى، وأوصيتهم خيرا بك. أم من الأفضل أن أعلن عن نفسى ويكون لقاءً مؤثراً”..
ولا أعرف لماذا يكون المصرى – الذي انتصر في أكتوبر – هو الذي يوجد، في الأسر في صورة أليمة، ولا تكون الاسرائيلية -كما كان غيرها – هى الأسيرة لدى مصر بعد انتصار ۱۹۷۳ ؟ أهي الرغبة في ضرب احساس المصرى بالنصر ؟
وحين تذكر الفتاة الاسرائيلية لحبيبها ( السابق ( المصرى) موت أخيها في غارة على العمق المصرى، لا تصور هذا الأخ كمعتدٍ جاء ليقتل المدنيين كما حدث في بحر البقر وأبي زعبل، بل كمحب جاء ليموت فوق أرضه:
” داني استشهد عام ۱۹۷۰ كان طياراً. في غارة من غارات الأعماق في سماء مصر. فوق أرضها “.
ويتعمد الكاتب أن يسوق في قصصه عبارات تتغزل في نجمة اسرائیل:
“ليس لى إلا اسمها والعلامة كنجم أهتدى به”.
“أنا من جيل لم ير هذه العلامة ظاهرة على صدور الناس في بلدي. كم من العلامات أخفيت في صدور الناس. كم من العلامات الظاهرة طمست و محیت “
وأخيراً يحلم هذا الكاتب بعودة اليهود الذين أجبروا على الاختفاء إلى الظهور في بيوتهم، وفتح نوافذهم، ويعلن فرحته حين يرى علم اسرائيل يرفرف أمام عينيه:
“في قلبي يرف حلم جميل أن تنفتح نافذة في القصر ويطل وجه شوشانا.. وفى الصباح كان علم يرتفع مرفرفاً فوق القصر مرسومة عليه النجمة في الصع صورها.”
في مقابل هذا الاتجاه الذى بدأه هذا الكاتب، وسار وراءه فيه غير واحد، نشرت الصحف المصرية والعربية أسماءهم، كان لا بد من كاتب سكندرى آخر يعيد تصحيح الأمور، ويبين كيف كانت حرب اكتوبر صفحة مشرقة من صفحات النضال المصرى والعربي من أجل استرداد الأرض ومحو العار، ويصور في كتاباته البطولات والتضحيات التي بذلت في سبيل النصر، ويقول لمن يرون الحرب غولاً يلتهم الوطنية أن الحرب كانت هى الوسيلة الوحيدة لإنقاذ شرف الوطن. ولم يكن هذا الكاتب سوى رجب سعد السيد صاحب المخاض، و الممر
(۲)
المخاض، في الأصل قصة قصيرة نشرت في مجموعة الأشرعة الرمادية، بعنوان “نقش على جدران كهف الخوف”، يروى فيها الكاتب قصة مجموعة من أفراد الحرب الكيميائية في حرب اكتوبر، ويبرز خلالها معاناة الشباب من النكسة الى النصر. و تضحياتهم من أجل استعادة التراب السليب. ولا تختلف الرواية عن القصة القصيرة كثيراً، إلا في حشد مزيد من التفاصيل، وإضافة بعض الأحداث والشخصيات.
والتجربة التي يقدمها هذا العمل الفنى تجرية حقيقية، خاضها الكاتب نفسه كرقيب مجند في الحرب الكيميائية، ومعظم أحداثها حقيقية، كما أن الشخصيات والمعالم التي يشار اليها داخل العمل أيضا حقيقية، وقد أسهم هذا في جعل قصتنا قطعة نابضة بالصدق.
قدم لنا رجب في قصته مجموعة من الشخصيات الناضجة فنياً، تمثل قطاعات مختلفة من المجتمع المصرى، وأولها: محمد کامل، السائق محدود التعليم، الانساني الطابع، الحريص على إقامة علاقات انسانية حتى مع الجماد، الى حد أنه يطلق على سيارته اسما بشرياً، “عزيزه” و “يسايسها”، كما لو كانت امرأة من لحم ودم
ومحمد كامل أكول، لا يحتمل الجوع، بسيط لا يعرف الغضب، يكذب أحيانا ليضفى على نفسه الأهمية، لكنه رغم قلة تعليمه ذكي، فحين تخرج المجموعة لاستطلاع منطقة تشك القيادة في أنها ملوثة، وبينما الجميع يستخدمون الأجهزة ويجهدون أنفسهم يكتشف هو أن المنطقة خالية من التلوث بملاحظته المباشرة، اذ يرى ثعباناً يلتهم فأراً، فيستنتج أنه لو كانت المنطقة ملوثة لما كانت بها آثار حياة، وبهذه الملاحظة يحسم الأمر.
أما الشخصية الثانية الهامة والجيدة في قصتنا فهي: أحمد سعد، الذي يدير مدفعاً مضاداً للطائرات. لقد عاش طوال فترة الانتظار يحلم بدور في الحرب، كان حلم حياته من قبل أن يصبح طياراً يثأر من أعداء الوطن، لكنه لم يوفق في تحقيق هدفه، فأصبح حلمه الجديد أن يسقط طائرات العدو. ورغم أنه يداخله الخوف أحياناً إلا أنه حين يشتد الخطر يثبت ويموت وراء مدفعه.
وأهم شخصيات قصتنا – بلا شك – هو الراوى، فهو البطن الحقيقي لهذا العمل، وهو أكثر الشخصيات اكتمالا من الناحية الفنية.
بطلنا ينظر للنكسة كطعنة شخصية له، جعلته، يهيم في شوارع المدينة الحزينة، يلونها بدماء طعنته، لكنه بعد التجنيد أصابه الملل من طول الانتظار، لذا نراه يحصى المدة من النكسة للحرب بالأيام والساعات: “ألفان ومائتان وثمانون يوما – خمسة وخمسون الف ساعة أيوبية، وما إن تمضى سطور قليلة من القصة حتى تسمع هذا البطل يقول: “لم يبق اذن سواى وحيداً أسير الملل “
ولا يذهب الملل عن بطلنا إلا مع بداية الحرب، إذ نرى موجة من الفرح تملأ جوانب نفسه إلى حد البكاء:
“تمنيت لو أسمع صوت زغرودة ممدودة ممدودة، مجلجلة. أحسست بجوع شديد لسماعها.. لم تكفنى الزغاريد الخشنة التي كانت ترددها قمم الجبال في وسط التكبيرات. ولم أسال نفسى لماذا هذه الدموع المنسالة من عينى.. فقد كنت أعرف الاجابة”..
ومع الحرب يبدأ الخوف، ليس الخوف الجبان على الحياة، بل الخوف على الرجال وعلى مصر من أن يصيبها مكروه، ومع هذا الخوف يبدأ التوتر العصبي، فهو يتابع الانتصارات ويسعد بها، ويصيبه الضيق عند حدوث أية خسائر، وكأنه يريد حرباً لا تخسر فيها بلاده شيئاً. لكنه رغم الخوف والتوتر يحلم بدور يحكيه لأولاده مستقبلاً، وما إن يكلف باستطلاع منطقة مشكوك فى تلوثها حتى يمضى إليها على الفور، ويقوم بواجبه دون تردد.
ويؤمن بطلنا إيماناً قوياً بأن النصر هو البداية، لذلك فهو يقوم بدوره على أكمل وجه، حتى تحترق عربته تحت قصف الطائرات، ويموت رفاقه، وتصاب ساقه بشظية، ويخلى مع الجرحي من جبهة القتال.
إن شخصية البطل هذا شخصية حقيقية، وقد نجح الكاتب في نقل أدق مشاعرها، وتصوير الأحاسيس المركبة التي تصل لحد التناقض أحياناً بشكل يحسب له بلا جدال.
الملاحظة الوحيدة على هذه الشخصية أن الراوي أخفى عنا السلاح الذي يخدم فيه إلى قرب منتصف القصة، وأغفل ذكر الدراسة التخصصية له الى النهاية، مع أنها كانت مهمة في تفسير معرفته بالرائحة الغريبة التي جعلت القيادة تشك في وجود تلوث، مع أنها لم تكن أكثر من رائحة الأعشاب البحرية. إننا كأصدقاء لرجب نعرف أنه خريج كلية العلوم ودارس لعلوم البحار والكيمياء، لكن ليس معنى هذا أن القراء أيضا يعرفون كل شيء عنه.
ومما يستوقفنا في هذا العمل الفنى هذا القاموس اللغوى، وتلك التعبيرات العسكرية التي تشير إلى خبرة حقيقية بحياة الجندية والحرب، وتضفى على العمل فيضاً من الصدق – وفيما يلى قائمة بمفردات هذا القاموس وتعبيراته:
“الدورية، شبكة التمويه، الحفرة، ساعة الصفر، الفوهة. الرشاش، غارة جوية، الحفر البرميلية، التحرك. الجماعة. الخوذة، الأسلحة، التشكيلات، الطائرات، التباب، اصابة الهدف، طبول الحرب، مدير المدفعية، المعارك، الاستنزاف، دانة، البارود، الشظايا، زخات الرصاص، الضبط والربط.. البيانات العسكرية، الخسائر، مركز عمليات، نوبة حراسة، أعمدة الدخان، الصاروخ، المطار، الفانتوم، انفجار، قنابل موقوته، اقتحام، سواتر، جسور، المواقع، الأحزمة الناسفة. اللاسلكي، القيادة، التمام، الرتل، كتائب، نقطة حصينة، هجوم، كيما، إخلاء الخسائر، الخدمات الطبية، آليات، أشلاء. الزناد، مفرزه، كمين، هجوم مضاد، التعيين، استطلاع، أقنعة واقية، ضربة غاز “.
إن هذا القاموس وتلك التعبيرات يسهمان في رسم الجو العام للرواية، وإضفاء مزيد من الصدق على أحداثها، كما يدلان على خبرة الكاتب بالعسكرية وثراء قاموسه.
وترتفع لغة رجب في مواضع كثيرة لمستوى الشعر، خاصة في لحظات مناجاة النفس:
“یا ساعات عمرى القادمة.. أنا في انتظارك.. كوني لي.. لا تكونى مقترة.. لا تمری بی غير عابئه.. كفاني ضياعاً… كفاك عبثاً.. انتشليني من ربقة أسر تفاهاتك.. اقذفي بي في آتون معانيك العظيمة أتعرى وأصطلى بجمرها. أشتاق اليها نعيماً… ضعيني تحت أنصال مباضعها تبتر ترهلاتي وتستأصل من داخلى الأورام الخبيثة لينطلق ماء الحياه مزغرداً في دروبي العطشى، وليعود للفارس شبابه الذي لم يبدأ.”
إن هذه الشاعرية كانت عاملاً رئيسياً في الابتعاد بالعمل كثيراً عن الخطابية التي كان من الممكن أن يقع فيها نظراً الحرارة الموضوع، إلا أن هذا لا يعنى خلو العمل تماماً من أي أثر لها. ففي أحيان قليلة أفلتت بعض العبارات مثل:
” أيها الجنود هبوا. اخرجوا من خنادقكم، دعوا فوهات أسلحتكم تلمع تحت وهج الشمس – اليوم لا نكوص. اليوم لا نكوص “
“یا طبول الحرب دقى.. لا تتوقفي.. أسرعي.. اشتعلي..الغي كل ما عداك.. لا نريد أن تسمع غير صوتك يصك آذاننا ويمحو من سجلاتها كل الأصوات..”
لكن مثل هذه الجمل – في رأيي – لا تؤثر على البناء العام كثيراً، ولا شك أن موسيقيتها وظروف الحرب التي قيلت فيها يبررانها..
والسرد في قصتنا يتم بلغة فصحى، على عكس الحوار الذي يعتمد على العامية، لكننا في الحالين نجد أن الجملة القصيرة السريعة هي الأساس
وأعتقد أن لجوء رجب للعامية في الحوار كان بحثاً عن مزيد من الصدق، وأظنه نجح في تحقيق هدفه.
والضمير المستخدم في الرواية كلها هو ضمير المتكلم، وهذا أيضا مصدر من مصادر الاحساس بالصدق في القصة.
ومع أن السرد القائم على ضمير المتكلم هو عماد القصة إلا أننا نجده يمتزج بسمات أخرى في بعض المواضع، ففي البداية نجد شكلاً تسجيلياً يعتمد على رصد الأحداث باليوم والتاريخ والساعة. وفي أكثر من موضع نجد رجوعا بالذاكرة Flash Bach يحاول رجب من خلاله أن يثرى الحدث أو الشخصية الرئيسية في روايته. كما نجد الخطابات تلعب دوراً هاماً مرتين: الأولى في رسالة البطل الى أمه التي ينهاها فيها عن البكاء خوفاً عليه، ويلومها لأنها – ككل الأمهات – ربته على الخوف، والثانية في رسالته إلى صديقه، صبرى أبو علم، التي أنهى بها قصته.
وقد أضفى هذا التنوع في الأساليب على قصتنا حيوية واضحة، خاصة وأن توظيف الأساليب كان جيداً.
استفاد كاتبنا بالتراث استفادة جيدة، وفي أكثر من صورة:
استفاد به حين جعل سائقه يغنى موال شفيقة ومتولى في مواضع مختلفة من روايته، اذ المعروف أن هذه الأغنية تتحدث عن العار الذي غسله صاحبه بالدم.
واستفاد به حين وصف ساعات الانتظار بأنها أيوبيه. بكل ما ترمز له قصة أيوب لدى الإنسان المصرى من معاني الصبر انتظارا للفرج.
واستفاد به في الاشارة لأمنا الغولة التى تخوف بها الأمهات أولادهن.
وأخيراً استفاد به في شكل الأمثال الشعبية التي أوردها لتبلور بعض المواقف:
.. وقت البطون تتوه العقول.
الجايات اكثر م الرايحات.
إن هذه الاشارات والأمثلة ساعدت الكاتب على توصيل معانيه من أقرب الطرق وأكثرها تأثيرا.
ورغم جهامة الموضوع وجديته الا أن الكاتب يضفى عليه من آن لآخر بعض البسمات، وموقف السائق حين فتك بالطعام ثم تجشأ وقال لنفسه صحة وعافية شاهد على ذلك. والموقف الذي يتحدث فيه الجميع عن الرولزرويس وعدم تمييز بعضهم بينها وبين عربات قطار النوم شاهد آخر.
وقد أضفت هذه البسمات على الشخصيات طابعاً إنسانياً. كما كسرت حدة الموضوع.
تبقى بعد هذا عدة ملاحظات على القصة، هي:
١ – إن الكاتب حين أراد أن يصور خروج الطائرات المصرية للضربة الأولى وعودتها سالمة لجأ الى حيلة ساذجة، اذ جعل بطله يحصى عدد الطائرات في الذهاب والعودة، وكأن الطائرات أوز يسبح في بركة.
2- يشير الكاتب في نهاية قصته إلى مقطع من قصيدة لصبري أبو علم يقول فيه.
“ولكنك لا تنسى دائما أن تدعو حوريس لكي ينجب حوريس وحوريس وحوريس”…
وفي رأيي أن هذه الاشارة لا تفهم جيدا بعيداً عن سياق القصيدة، التي يحدث فيها أوزوريس زوجته قبل موته، ويذكر فيها أن ست يترصده، ثم يتحدث بعد هذا إلى ولده حوريس. قائلا:
“إن سقطت أغصاني تحت سنايك عمك ست.
و عدوت بعيدا عن مصر
ضاجع امك يا حوريس
لا تتركها للأندال يعبثون ببصماتي الأولى
ولتمنح عينك للرب كما كنا
ولتحتضن الأيام الزهراء بقلبك مثلى
واعشق أمك يا ولدى
انجب منها أطفالا كالفيضان
حوريس وحوريس وحوريس وحوريس
يهبون الأرض سخاء الحب “
حوريس هنا له دلالة خاصة: انجاب الأطفال الذين يهيون الأرض سخاء الحب، وهى عكس صورته الرمزية التي عرف بها على مر التاريخ كمنتقم. ومن هنا فالاستخدام غير موفق لأنه لم يوضح المعنى الذي قصده الشاعر في قصيدته المشار اليها
– ان الإضافات التي أدخلها رجب على قصته القصيرة لم تقنعنا بأنها كانت كافية لتحويلها من قصة قصيرة إلى عمل روائی.
(3)
إذا كانت “المخاض” تسجيلاً لقصة رجب الشخصية في حرب اکتوبر، ف “الممر” تسجيل لقصة صديق من كفر الشيخ، كان يدرس العمارة في كلية الفنون الجميلة في الاسكندرية، ثم جند في سلاح المهندسين، وشارك في حرب أكتوبر كقائد فصيلة أسهمت بفتح ثغرة في الساتر الترابي على الشاطئ الشرقي لقناة السويس.
وقد اعتمد رجب في أحداث قصته وشخصياتها على خطاب مطول أرسله هذا الصديق “أحمد ماضي” لصبرى أبو علم، الصديق المشترك له ولكاتب القصة، كما ذكر رجب في بداية قصته.
كتب رجب هذا العمل أولا كقصة قصيرة ضمن مجموعته الأشرعة الرمادية، بعنوان، عن ازالة السواتر، ثم عاد اليها فأضاف المزيد من التفاصيل، وعدل شخصية خال البطل ووالد زوجته من رجل متعنت مادى الى صورة مغايرة. كما حذف بعض الأجزاء، وأضاف غيرها ليصبح العمل كما هو الآن.
وإذا كانت الشخصيات جميعها في “المخاض”، من العسكريين فهي في هذه الرواية قسمان: عسكريون ومدنيون.وأهم الشخصيات العسكرية بعد أحمد ماضي هو حسن سليمان، أما الشخصيات المدنية الهامة فهي: ميرفت،زوجة أحمد التي لم تزف اليه بعد، ووالدها، بالاضافة الى أم البطل وأخيه العمدة.
وثمة علاقة بين حسن سليمان وبين بطل قصة المخاض. فكلاهما يعاني من الملل، تنتابه لحظات يأس، ويتحرق شوقاً إلى الساعة التي تأتي لتنهى هذا الانتظار الممل.
وحسن الى جوار هذا طيب القلب، يجيد الحديث عن النساء، وفيه خفة دم ابن البلد. ويعرف أيضا ـ عند اللزوم – كيف يقوم بواجبه العسكرى، بل انه لما ضرب مدفعية العدو البلدوزر الذي كان من المفروض أن يساعده في تمهيد الثغرة، واصل عمله بالكواريك لكى يتم مهمته، وواصل آداء واجبه رغم قصف الطائرات.
أما أحمد ماضي نفسه فهو صورة عكسية لكل هؤلاء الذين يقض مضاجعهم الملل واليأس، فهو مؤمن بأن الحرب آتية لا ريب فيها، يقول لحسن:
“الحرب قادمة يا عزيزي. نحن هنا لنحارب، اذن فهي قادمة – أشياء كثيرة تجعلني أشعر بريحها، ولأنه مؤمن بضرورة الحرب وقربها فهو يستعد لها، ويعد لها جنوده. ولا يكف لحظة عن تخفيف توتر صديقه حسن، أو غيره من الجنود الذين طال انتظارهم، لأنه يعلم أن هذا التوتر » روح شبه عامه بين الشباب أفرزتها أحزان النكسة.”
واحمد عاشق، لذا فهو يشعر بأنه ليس وحيداً، فهو يحِب ويحَب، ومن خلال هذا الحب تتوثق صلته بالحلم والحياة. ثم هو أيضا رسام، وشاعر، يحاول التعبير عما بداخله من توترات بالصورة والكلمة العذبة:
“. لأنك يا شهر زاد الفؤاد بعيده
عشقت السفر”.
وبالحب، والشعر، وبالايمان بالله أيضا، أصبح أحمد متفائلاً، على عكس جميع من حوله.
ومن أهم سمات أحمد في قصتنا: الواقعية، فأحلامه كفنان لا تفقده الإحساس بالواقع، وتبلغ به هذه الواقعية الى حد أنه يبحث بينه وبين نفسه: ماذا لو استشهد في الحرب ؟ ويكتب لزوجته بما يجب أن تفعله، ولصديقه صبرى أبو علم کی يأخذ اشعاره وكتاباته لعله يستطيع أن ينقذها من الضياع بعد موته.
ان شخصية هذا البطل من أجود الشخصيات فنياً، ويحسب الرجب قدرته على تجسيدها بهذه الصورة.
والشخصيات غير العسكرية في هذه الرواية تقدم في مجملها نماذج مختلفة لشخصيات من المجتمع المصرى تعرفها جميعا
– الأم الحنون المتلهفة على رؤية ابنها في احسن حال
– الأب الطيب الذي يسعى لتزويج ابنته بمن تحب، ويسهل لهما كل ما يعترضهما من صعاب.
– الأخ المادى الذي لا يهتم الا يجمع المال.
لكن الشخصية اللافتة للنظر بين هذه النماذج هي ميرفت.. إنها عطاء بلا حدود، أحبت أحمد بصدق، وارتبطت به رغم ظروف التجنيد، وأدارت ميزانيتها البسيطة بما يحقق لهما بناء البيت، ولم تبخل عليه حتى بنفسها رغم أنها لم تزف اليه.
وبعد
أنها شخصية أخرى جيدة، لا يقل نجاح رجب في تقديمها عن نجاحه في تقديم أحمد ماضي.
وللمرة الثانية نقف أمام قاموس المفردات والتعبيرات العسكرية، – دون أن نكرر ما سبق ذكره في القصة الأولى – العلنا بهذا تكون قد حددنا ملامح قاموس الكاتب في هاتين الروايتين.
يستخدم الكاتب في روايته المفردات والتعبيرات العسكرية التالية:
“مؤتمر القائد، المشروع، برنامج التدريب، الفرقة السرية – الفصيلة. أرباح الكانتين – الممرات – المعدات – الميز، الموقع – الانتشار، الحرب، كلمة السر، الملجأ، المهندسون العسكريون، جندى المراسلة. صف ضابط. ضابط احتیاط، جركن، الاجازة الميدانية. الشئون الإدارية. الطوابير – التوجيه المعنوى – المحاكمة العسكرية. الاستشهاد. الكاكي – المضخة. النابالم – الشرطة العسكرية. التدبيشة. الاحتياطي التعبوي. التجهيزات الهندسية. التلقين. مرابض الدبابت – منظار. جاكت نجاه – ساحة الإسقاط. التحرك الليلي – البرمائيات، المدرعات – الإبرار، هندسة الميدان، مدفع الموليتكا. الكواريك، المجنزرات – الشدة. الفيكرز. الكباري. المعديات “.
ان هذه المفردات والتعبيرات العسكرية حين تضاف الى سابقتها تبين لنا بوضوح ثراء قاموس الكاتب العسكري.
وقد خفتت شاعرية اللغة في هذه الرواية كثيراً، وتراجعت الصور البيانية عن ذي قبل، واختفى تماماً ضمير المتكلم، واعتمدت اللغة الجديدة على جمل فعلية، تروى بضمير الغائب، تطول حيناً وتقصر حيناً، طبقاً لمقتضيات الحدث. والملاحظ بوجه عام أنه في معظم الأجزاء، قبل أن يصل الحدث الى قمة توتره، تكون الجمل طويلة، وإيقاعها بطيئاً مثلما نرى في وصف أحد اجتماعات القائد بضباطه:
“في المرة الثانية كانت كلمات أوامره محددة. المطلوب من كل قائد فصيلة تجهيز ملاجيء حديدية تحت سطح الأرض على حافة القناة لتخزين ماكينات الضخ وملحقاتها، ثم عمل حفر عميقة ليتم تخزين القوارب فيها وتغطيتها بشباك التمويه. المهم أولا عمل الحفر والملاجيء.
وكانت هذه الأوامر إشارة من القائد –دون أن يفصح_ إلى اقتراب موعد الهجوم. فمعنى أن يتم تخزين هذه المعدات الثقيلة على حافة القناة أن الحرب ستكون في الصباح التالي. “.
ان هذا المقتطف الطويل لا يمثل سوى خمس جمل، مجموع كلماتها سبعون كلمة، بمتوسط أربع عشرة كلمة للجملة الواحدة، وهو متوسط عال للغاية، اذا قارناه بالجمل القصيرة السريعة التي تأنی مع توتر الحدث:
“… تغير وجه الأرض فجأه. مريض الدبابات مزدحم بالجنود. حركة كثيفة فى اتجاه مياه القناة. كان الأرض التي كانت تبدو صامتة منذ لحظات تتحرك الآن إلى المياه “.
الجمل السابقة وعددها أربع لا تزيد كلماتها عن ست وعشرين كلمة، أی أقل من نصف كلمات الجمل الطويلة السابقة.
لكن ينبغى أن نشير الى أن الجملة الطويلة كانت هي القاعدة، أما الجملة القصيرة فلا تمثل الا الاستثناء. غالباً
ويلعب الحوار في هذه الرواية دورا أبرز من دوره في المخاض،، ويختلف عنه في أن لغته هى الفصحى لا العامية، لكنها فصحى بسيطة تجتهد في التعبير عن الأشخاص والمعاني دون الإخلال بعنصر الصدق الفنى، وهذا نموذج يدور بين قائد السرية والملازم أول أحمد ماضي:
. – أسهمك في ارتفاع مستمر عند الرجل الكبير.
– الحمد لله. وعلى كل حال، لا أفعل سوى الواجب
انتحی به جانبا، وهمس اليه:
– آسف يا أحمد بشأن تأخيرك عن اجازتك
– لا عليك الظروف تحكم الجميع
– فعلا. حالة شد غير عادية. والسحب القادمة مع الأيام التالية ثقيلة.
– احسست بهذا فعلا، وفكرت فيه طوال يوم أمس،.
ان اللغة هنا تكاد تكون لغة عادية بين مثقفين في حوارهم العادي، وهذا مما يحسب لرجب.
والسرد في هذه الرواية هو الأسلوب الأساسي: لكنه يتضمن في طياته أكثر من خطاب، وهذه الخطابات غاية في الأهمية، خاصة خطابه الميرفت الذي يلخص فيه معاناة جبل كامل ينتمي اليه أحمد ماضي:
” معنى أن أتخرج أن اتقدم للتجنيد مباشرة، فأنا وأبناء جيلى مواجهون بكابوس رهيب يعيش معنا منذ يونيو ١٩٦٧. وعلينا أن نعد أنفسنا لحرب لا بد مقبلة ان شئنا ازاحة الكابوس.
وتم تجنيدي. وصرت في موقعي الحالي. وقد حكيت لك ملامح متباعدة عن الظروف التي ساقاتل فيها. هنا زاد على هم جديد، بل يمكنك أن تقولى إن مصيري قد تحدد.. فقی موجات الزحف الأولى التي سيكون دوری معها تزداد نسبة الخسائر. وأنا أعرف مدى شراسة عدوى. وهكذا استقر في كياني كله ان الاستشهاد هو المصير.. الخ.”.
أما الخطاب الموجه لصبرى ابو علم فإنه يبلور حنين البطل الى عالم الأصدقاء، والثقافة، والذكريات التي تجسد الجانب الانساني فيه.
وعموما فليس في روايتنا تنوع الأساليب الذي قابلناه في القصة السابقة، الا أنها رغم هذا لا تفتقد الحيوية، ولا تقع في وهدة الركود أو الملل.
إن هذا العمل ينتمى فى رأيى الى عالم الرواية أكثر من عمله السابق، “المخاض”، نظراً لعامل الزمن، وطريقة التعامل معه، وكمية الأحداث، وطريقة معالجتها.
(4)
يبقى بعد هذه الجولة في قصتى رجب سؤال أخير، هو: أين تقع أعمال هذا الكاتب بين بقية الروايات التي كتبت عن حرب اكتوبر ؟
ولكي تصدر حكماً مقنعاً أرى أن نقف سريعاً عند بعض النماذج مما كتب في مصر في هذا الصدد
تعتبر رواية “أيام من اكتوبر”، لاسماعيل ولى الدين، أولى الروايات التي عالجت هذا الحدث العظيم في حياة مصر والعرب. اذ كتبت في أكتوبر ٧٣ وطبعت ونشرت ونفدت قبل نهاية العام.والرواية تؤكد على وحشية اسرائيل في حربها، كما تلقى الأضواء على القلق الذي انتاب الشباب قبل أكتوبر، وعلى تضحيات الشعب المصرى فى سبيل النصر، وترى أن الحرب هي بداية الطريق لتحقيق حلم الغد لمصر:
” ولاحت لى أحلام كثيرة ورؤيا (كذا) كثيرة وعريضة. بيضاء ووردية في لون القرنفل، وشباب وفتيات العشرين، وجوههم نضرة متألقة نظيفة، وكلمات جديدة.. وكباري (؟) ومنشآت، وألوان تعود.. فتظهر وتكسو الحياة ببساط أخضر رائع.”
وقد اعتمدت الرواية إلى جانب عنصر الحدوتة على بعض السمات التسجيلية، حيث وجدنا بعض نصوص البيانات العسكرية التي أذيعت أثناء الحرب، ومقتطفات مما كتبته الصحف العالمية حينئذِ، كما وجدنا ذكراً لأحداث سياسية بتواريخها في متن الرواية، ومقتطفات من خطاب رئيس الجمهورية التاريخي في ١٦ اکتوبر ۱۹۷۳.
ولا شك أن هذا الشكل التسجيلى كان مطلوباً في حينه، لما فيه من تجميع المفردات تؤكد على البطولة والتفوق للمصريين، لكن هل تكفى التسججيلية دون حدث محكم أو شخصيات جيدة؟..
لقد كان لعامل الوقت أثره في عدم إحكام البناء، أو بلورة الشخصيات، بل وفي حجم الرواية نفسها، لكن يبقى لهذه الرواية رغم كل شيء السبق الزمني على ما عداها.
ومن الروايات التي ظهرت بعد الحرب بفترة وجيزة روايه “الاسبوع سبعة أيام “، لمحمد يوسف القعيد، وهي محاولة لتقديم صورة للقرية المصرية أثناء الحرب، إلا أن الرواية ليست أفضل أعمال الكاتب، بل ولا من أفضل أعماله، إذ تعانى من التشتت، لسيرها في اتجاهين مختلفين في وقت واحد، هما: تصوير القرية المصرية أثناء الحرب، وتصوير رحلة مصطفى ابن القرية إلى وحدته بعد استدعائه للجندية مرة أخرى استعدادا للحرب.
أضف الى هذا أن الحرب نفسها كحدث قتالى مباشر لم تكن صورتها واضحة في القرية التي كانت تجاور مطاراً حربياً، ولا في الميدان الذي ذهب إليه مصطفى.
ومن الروايات التي اهتمت بإبراز صورة حية للمواجهة بين المقاتل المصرى غير العادى وخصومه رواية ” الرفاعي” لجمال الغيطاني. وبطل هذه القصة هو المقاتل الشهيد ابراهيم الرفاعي، الذي سجل أروع النماذج في قيادته للرجال، وخوضه للمعارك المستحيلة، وتحقيقه لأعظم النتائج.
والرواية تؤكد على البعد الإنساني للمقاتل المصري، وتبرز طريقته غير التقليدية في التفكير، وتجسد جو الحرب، والتلاحم بين الجندى والقائد، وقدرة المحارب المصرى على التضحية – إلا أنها تعاني من عدم التماسك، وإمكانية الاستغناء عن أجزاء طويلة منها دون أي تأثير سلبي.
هذه نماذج قليلة وليست حصراً لكل روايات أكتوبر، وقد تركنا بعض الروايات التي كان يمكن الوقوف عندها مثل: العمر لحظة ليوسف السباعي، والرجل والموت لمحمد الراوي، وغيرها. لكن عذرنا هو أن المجال لا يتسع لاستعراض كل هذه الأعمال.وقد هدفنا من وراء النماذج التي عرضناها إلى الآتى:
۱ – بیان مشاركة رجب لكل من كتبوا عن حرب أكتوبر في المعاني الأساسية التي تثبت أن الحرب ليست غولاً يهدد الوطنية، وأن المصرى ليس هو العنصر الأضعف فى مواجهة الاسرائيلي، وأنه قادر على الانتصار.
٢ – ان رجب من الناحية الفنية تجاوز ضعف الحبكة، وعدم نضح الشخصيات التي تعانى منها رواية اسماعيل ولى الدين.والتشتت الذي تعاني منه رواية القعيد، وكذا الزيادات التي تحدثنا عنها في رواية الغيطاني، واستطاع بعد هذا أن يقدم أعمالاً لا تقف عند حد المضمون الوطني النبيل، بل تحقق أيضا مستوى فنيا أفضل.
وأرجو ألا يفهم مما سبق أن رجب بلغ قمة الفن، ولا أن قصتيه سدتا الباب أمام محاولات التجاوز، فلازال أمام رجب الكثير ليثبت وجوده في ساحة الرواية، ولازال الباب مفتوحا ًأمام أعمال أخرى يجب أن تتجاوز ما كتبه رجب، لأن هذه هي طبيعة الفن، ودون تجاوز لا يمكن أن يتطور الفن.
كلمة أخيرة أود أن أهمس بها لرجب: أرجو الا تعتمد على قصصك القصيرة بعد هذا في ابداعك الروائي، كي لا تقع في وهدة تكرار نفسك، وابحث عن أشياء جديدة تثرى رؤيتك، وتؤكد قدراتك الفنية التي لمسناها في هذا الكتاب بوضوح.















