نقطة:
كان من النقاط الفارقة معي طريقة ارتدائه ملابسه، بيجامته الحريرية، “الروب” الناعم الذي يروح ويجيء به، يجعلك يشعر بمذاق الستينات ولو لم تزرها إلا من خلال الأفلام الأبيض والأسود.
والفيلا التي تقع في غرامها من أول وهلةٍ، بابها الحديديّ، دوائره الواسعة المحيّرة، نوافذه التي تطل على الحياةِ من أعلى وتترككَ للشعور بالحيرة كـ حسين تمامًا.
تريد اقتراب من حولك وتطردهم كلما صادفت وجهًا من وجوههم،
تهاديهم بأشيائكَ النفيسة، وترميهم بأقذع الشتائم روحة وجيئةً!
“حسين” تلك الشخصية سليطة اللسان، المغلوبة على أمرها، يرأف له قلبك وتشعر بالحنوِّ عليه حتى قبل أن تكتشف مع من بجوارك في السينما أنه مريضٌ ينتظر قَدَرَه المحتوم بالموت قريبًا.. قريبًا جدًا..
رغم ذلك، لا يبدو على حسين الخوف/ أو حتى رهبة فراق من حوله.
حسين منذ البداية بعيدٌ عما يشغل الناس من قريبٍ أو بعيد.. بالطبع فيما عدا بعض الحلقات الفارغة التي تؤكد لنا طوال مشاهدة الفيلم أنه إنسان طبيعي يحبّ ويغار ويغتاظ وكثيرًا جدًا ما يشعر بالعصبية المشوبة بالطفولة والبراءة.
*لَقطة:
“حسين” يدخل الحمّام ليحلق ذقنه الطويلة الرمادية، يبدو كشخصٍ بدائيٍ لأول مرةٍ يمسكُ بماكينة الحلاقة، وبجرد أن يلمس خدّه، يجرحه..
جرحٌ أفقيٌ،
وكأنه يقسم حياةَ “حسين” لنصف انتهى ونصف آخر أو أقل من النصف يقرر هو أن يهدي لحظاته لمن حوله فيقسّمها عليهم، دون أن يبدو عليه شيءٌ من الرغبة في وجودهم.
– لحظاتٌ قليلة هي التي يظهر فيها حسين الطفل الذي لا يستطيع إنكار مشاعر خوفه ورغبته في الإحاطة به، حين يسبّ أخته كالعادة “انتي مقرفة يا نادرة.. مقرفة!”، لكنه يتبعها بـ “ماتمشيش”. لأول مرةٍ منذ زارته وقررتْ أن تحيط به وهي تعلم ما هم مُقدم عليه، يتحول حسين لذلك الطفل الذي كانه منذ أكثر من خمسين عامٍ محدّثًا أخته أو أمه كما قد نرى في هذه اللحظة، مستغيثًا بضمّتها من الوحدة والموت الذي لا يحاول ألا يخشاه.
“حسين” يهدي طاقم الـ”صيني” لـ”سناء” ممرضته التي تبدو من أكثر الشخصيات القريبة إلى قلبه رغم بساطتها الشديدة وفقرها المدقع الذي يمنعها من الزواج ممن تحب، فتقترب يد حسين بخفة من واقعهم المتأزم ليساعد حبيبها ويكتب لسناء جزءًا من المال باسم سناء، كي يضمن أن يتزوجها حبيبها بعد موت حسين.
حسين يترك قطرات عطره على وجوه الجميع كي يتذكروه.. لا يهم طوال الفيلم ثرثرته وشتائمه وصياحه في الجميع، المهم أنه بشكلٍ متصاعد هادئ للغاية يحوز حُب الجميع، حتى حفيده الضائع بين الموسيقى الصاخبة وحبه المراهق لفتاة تشاطره عدم التوازن الشعوري، حتى حفيده سيتذكره لا شكّ بقطعة “الحشيش” التي يهديها له حسين.
حسين الذي يظهر بشكلٍ أكثر وضوحًا خلال أحلامه مع شلّته القديمة “شابين وفتاة” يقتسمان معه كل الأحلام واللحظات النادرة لحسين، الموسيقى، الرقص، وحتى التدخين، ونرى من خلالهم كيف كان حسين الذي لم يدّخن من قبل، فيحاول التدخين خلال أحلامه فحسب.
موسيقى الفيلم – بغض النظر عن الجزء الذي أدّاه الفريق الشاب – مع عود “حسين” أعطيا الفيلم رائحةً قديمةً أقرب إلى الخبز الطازج.
لقطات الفيلم وتصويره لم تبدُ لي انتقائيةً، بل شديدة العشوائية، غير أن تلك العشوائية بدت كيد طفل يمسك فرشاة التلوين ويبتكر لوحةً من الهباء.
أوراق الشجر الجافة، لقطات الرؤية من أعلى الفيلم، من السطح، حتى لقطات “حسين” وهو مريضٌ بشدة يخرج ما في جوفه من الطعام جاءت كأنها واقع تنظر إليه من جهة واحدةٍ كما نرى كل شيءٍ في حياتنا.
حسين وافق أن تأتي الفرقة الشابة لتعزف الموسيقى في الفيلا، رغم أنه يطرد أخته من البيت ليل نهارٍ ويذكرها بأنها جاءت لتقضي يومين فقط معه.
حسين ذو الحركة الواهية، يسرع الخطو حين يتابع جاره الضخم ركضه حول الفيلا ويكاد يحسب أنفاسه وسرعة خطوِهِ بنشاطٍ.
حسين يطلب من حبيبته العودة وحين تكتشف مرضَه، يطلب منها الرحيل مرةً أخرى.
حسين تلك الشخصية المشاكسة التي ستموتُ لا ريب بعد نهاية الفيلم.. يعيش.
عودة إلى الملف