نصوص للشاعرة هبة الأغا

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

هبة الأغا

حين تنقشع الحرب

حين تنقشع الحرب
 لن أبقى مثلما أنا
 ربما سأتحول إلى خزانة ٱو سرير
 ريما سٱتحول إلى سجادة، أو جرة غاز
 أو مكتبة
 سٱتحول إلى حضن كبير.

 حين تنقشع الحرب
 لن أجد مقبرة أزورها

 فكل الطريق مقبرة
 ولن أجد وردا
 لأضعه على الرفات
 الورد مات
 ولا نخيل على القبور، ولا قبور.

 سأتعثر في رأس هنا، وقدم هناك، سٱتعثر في وجه صديق على الأرض،
 سأعثر في حقيبته على بقايا خبز للصغار.
 سأرى عيونا كثيرة متناثرة
 وسأجد قلبا تائها يلهث
 يستقر القلب على كتفي
 وأسير به فوق الركام
 فوق الحجارة التي قُتلنا بها.

 لم يخبرنا أحد في دروس التاريخ
 كيف نستعد للحرب الطويلة
 لم يعلمنا مدرس التنشئة كيف ننصب خيمة
 على قارعة الطريق
 ولم يخبرنا معلم الرياضيات أن الزاوية
 تتسع لعشرة أشخاص
 ولم يخبرنا معلم الدين
 أن الأطفال يموتون أيضا
 ولكنهم يصعدون على هيئة
 فراشة أو طير أو نجمة.

 كنتُ أكره الطباشير
 وطابور الصباح
 لكنني كنت أحب الوقوف في السطر الأول
 وأحب المشي في السطر الشرقي
 وأسرح في تخيل المدينة التي تقف على شجرتين كبيرتين
 لكنني خارج المدن التي أعرفها
 وخارج الأمكنة
 وقسرا خرجت من غلاف الزمن
 إلى غلاف غزة، لٱتساءل عما حدث ويحدث

 ما اسم شارعنا؟
 هل رأى أحد منكم شارعنا، بيتنا؟
 هل تعرف الحارات بعضها؟
 هل تعرفنا المدينة؟
 هل تعرفنا ٱمي؟
 هل يعد البحر الضحايا؟
 هل تخرج الشمس لتحمي الجثث الملقاة في الشوارع؟
 هل بوسع التجار شراء الجنة؟
 هل ستخرج مكان الجثث عمارات ضخمة بأسمائهم؟
 هل سنعرف أسماء مجهولي الهوية جميعهم؟
 هل ستدرك عماتي حجم الفجيعة؟
 هل كان البيت حقا بيتنا؟
 هل ينام الجندي ليله؟

 في حلقي كلام كثير
 وحلقي ملتهب
 ولا دواء إلا البيت.

***

ذاكرتي حامضة

أعصر ذاكرتي مثل ليمونة حامضة، أمضغ ما تبقى من عقلي، أتنقل من موتٍ إلى موت، وأخفي حزني تحت

ملابسي مثل امرأة قديمة تكابر.

من يعطي غزة دمه لتحيا؟

من يروي ظمٱ المدينة العائمة على دم أبنائها؟

أتيمم من صور الشهداء، وأصلي عليهم صلاة أخيرة إلى مقبرة جماعية لمجهولي الهوية، لا صور، لا بوسترات،

لاجنازات مهيبة، ولا وقت للتقارير الصحفية التي تسرد فيها أم الشهيد خصاله، إنها تموت معه ويموت الصحفي

أيضا.

ذاكرتي حامضة، تختلط فيها الصور والمشاهد التي عرت أكتوبر الخريفي الحالم، عرت كل شعوب الأرض أيضا،

أكتوبر أسقط كل شيء عن عورات العالم، أما عوراتنا فهي تحت الركام، يسترها الله ومسعفونا، وأجساد الآباء.

ذاكرتي اليومية حامضة، نسيت فيها شكل بيتي ويومياتي، الأيام متكدسة في التقويم مثل القنابل، ٱكاد أنفجر فيها

أو تنفجر فيّ.

غصة في القلب، وكابوس لا يحتمله عقل، البيوت التي تركناها خلفنا ليست جدرانا عادية، إنها من أجساد العائلة

ومن لحمها، ومن ذاكرتها، من غضبها، ومن فرحها، البيوت هي رجل وامرأة وأولاد، شكل العائلة في صورة

جماعية عى الحائط.

البيوت مؤخرا نامت فوق بعضها، لا أبواب ولا شبابيك، لا أحضان ولا وداعات أمام البيت، لا قواوير ورد ولا

أشجار، حتى الطريق المعبد الذي يجعل البيت أكثر أناقة، ضاعت ملامحه، والبيت الذي يسكن وسط حديقة، دفنوه

بداخلها.

لم يتبق من العائلات في البيوت الكثير، رائحة حفيد، عمة واحدة، نصف خالة، بقايا جدة، الحرب أخذتهم جميعا

بمن فيهم الجيران، وأبقت شاهدا يلحق بهم فيما بعد كمدا وشوقا.

لا يوجد أرامل في الحقيقة، ولا أمهات شهداء، هذه موضة قديمة في غزة، اليوم نحن نرثي العائلة بأكملها، نراجع

السجل المدني ونضع فوق أسماء العائلة ظلالا حمراء، ونقطة سوداء لتاريخ الإنسانية.

أغرق في الغضب حتى آخذ شكله، فيسمع الجيران صوت زمجرتي التي تتصاعد مثل الدخان رغم أني امرأة تكره

الٱصوات العالية، فصرت أنا صوتا عاليا.

أرتب ذاكرتي المهاجرة في أدراجي الصغيرة، وفي علب المطبخ البلاستيكية، في علب الشامبو ومسحوق الغسيل،

كيف يمكن أن أطوي ما تبقى من تفاصيل حياتي في خزانة أطفالي، وكيف ألملمها سريعا لأدسها في حقيبة

النزوح، كيف تركت ماكينة القهوة عرضة للغبار والصوت، كيف تركنا الشبابيك مغلقة!

 

تخرج لي كلمة نزوح من كل مكان، تأتيني من الشبابيك الباردة، ومن الليالي المخيفة، وتطل علينا من أصوات

الأنين حين يمرض أحد الصغار، تباغتني في لحظة أضحك فيها وأنسى نفسي، تتكور في الحقائب وتنساب في

 

زجاجات المياه الفارغة، تلتصق بأحذيتنا التي قطعت المسافات بحثا عن مناديل وعلبة زيت، تصعد معنا على

الكارات والعربات التي نستقلها، وتربض في سيارتنا التي تتحرك فقط لمشاوير النزوح من المدن حفاظا على ما

تبقى من بنزينها.

الذاكرة الحامضة تلسعني، فالأيام تتمدد على أرض المشفى مثل الشهداء، الٱيام تقضي نحبها أيضا، وترحل معنا

إلى الأبدية، الأيام عُدتنا في الحرب، نطويها مثل الجرابات ندسها في بعضها البعض كي لا تضيع، نحسبها على

أصابعنا، ونحن نرى ضياع العمر.

اللغة ضحلة ومتراجعة، والتعابير مالحة مثل المياه التي نشربها، لا مجال لرفاهية الكلام، وتنميق العبارات،

الشهداء لا يقرأون كلامنا، والجرحى متعبون.

استشهد رشدي وقبله رغد وقبلهم حمد وبعدهم محمود، أصدقائي يسحبهم الموت للأعلى حتى وإن كانوا تحت

الأنقاض، الموت يفتح فمه الكبير ولا يغلقه، إنه يبتلع البيوت بمن فيها.

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم