نوره عيسى
في منتصف الليل، أجلس وحيدة، عقلي يفكر في كل شيء ولا شيء، أشعر ببرودة تخترقني ونحن في نصف يوليو، عز الحر. برودة تتصاعد لتلامس كل ما ظهر من جسمي، أصابع قدمي، يداي، وجهي وأنفي، وكأنها تحتضنني، لا أمانع، فأنا بحاجة لذلك.
أغمض عينيّ، يشرد عقلي بعيدًا، أشعر به وكأنه يتخلى عني، يصعد لأعلى ويتركني، لا أقوى على فتح عيني والنظر أمامي حتى، وكأن البرودة التي أحاطت بي من ثوان، قد كبلتني. انهار كل ما حولي من أصوات، لا أسمع سوى هدوء قاتل، صمت يحيط بي وكأنني في هوة عميقة، تظهر أمامي بعض الصور، وكأنها مشاهد تُعرض لي وحدي.
أنا..وحدي، أمام البحر، لا فاصل بيني وبينه، لا صخر، لا رمال، ولا حتى شاطئ، أتلفت حولي وأجدني في منتصفه تمامًا، أقف على الماء وكأن هناك ما يسندني، أسمع صوتًا يدفعني للقفز داخل الماء، أتلفت ولا أجد أحدًا، يتكرر الصوت، تتكرر كلماته “يلا، تعالي، هنا أحسن، هتشوفي أكتر” يزداد توتري كلما تكررت كلماته، لا أُميز الصوت لمن ولكنه مألوفًا لي.. إزدادت الوتيرة، يزداد سرعة هذا الصوت في تكرار كلماته، أرتجف وأشعر بثُقل داخلي، قلبي ثقيل وحده، وكأنني مربوطة بحجر، إن قفزت في الماء، لن أنجو.. “يلا، تعالي، هنا أحسن، هتشوفي أكتر” أقفز وتنتهي رؤيتي.
في منتصف الليل، أجلس وحيدة، أشعر بألم في عيناي، أخبرني الطبيب ذات مرة بإصابتي بالجفاف داخلهما، لم أستغرب أبدًا، فعيناي لم تزرهما الدموع منذ فترة طويلة، حتى وإن حاولت. جلست اليوم أفكر في مدى سرعة زوال كل ما أشعر به، الفرح يزورني قليلًا والأمان أيضًا، الحزن يحل محلهما، والوحدة تُلازمني، فكرت في كل ما تمسكت به وتخلى عني، وكل ما رغبت في الحصول عليه ولم أحرك ساكنًا تجاهه، في خوفي الدائم من كل شيء، وكل شخص، وخوفي من نفسي أحيانًا لأنني أحمل أشياءً كثيرة داخلي، ولا أدرك. أنظر لنفسي في المرآة، ولا أعلم كم من الوقت بقيت هكذا، ألمح أول شعرة بيضاء قد زارت رأسي، لا أعلم هل أتت من فترة أم أن إنتظاري المستمر لحدوث الأشياء قد أتى بها لي.
أُغمض عينيّ بشدة، يزداد ألمي، ويتصاعد دفء لطيف لهما، أشعر بخط دموعي لأول مرة منذ فترة بعيدة، ولكن كان يعرف طريقه جيدًا على وجهي، تزداد السخونة في عيناي وكأن ملح البحر قد أكلهما، أفتح عيني وأفقد رؤيتي تمامًا.
في منتصف الليل، وحدي، متخذة وضع الجنين، يدي تحتضن يدي الأخرى، أشعر بخدر ينتشر في جسدي كله، وعيني ينهمر منها أنهارًا ظننت أنها قد جفت، مر بي أحدهم وأنا على هذا الوضع، شعرت بتوتر لحظي لعدم رغبتي أن يراني بهذا الضعف، لم أقو على تحريك جسدي حتى أبتعد عن ناظره، ولكنه مر بي ولم يراني، مر بدموعي ورآني مكبلة وكأنه عبر خلالي، شعرت وكأن لا وجود لي، وكأنني نصف ظل يتحرك، جسدي هنا ولكن كل ما أشعر به لا يراه غيري، لا يشعر به سوى قلبي. جسدي مكبل وبداخلي ثُقل غريب، وهوة عميقة تبتلعني، لا أعلم إن كانت هي داخلي، أو أنا داخلها.. ماذا لو كان بقلبي فجوة، هي من تبتلعني؟
هوة واسعة، كبحر عميق يبتلعني داخله ولا قدرة لي على التحكم. ينساب كل جزء من جسدي بطريقة مختلفة، بلا تحكم مني.
أفتح عيني وأحاول النهوض، جسدي ثقيل وكأن كل سنتيمتر فيه مشبع بالماء، أنفاسي تتلاحق وكأن الهواء كان مسحوبًا مني لفترة طويلة، أنهض وأنظر لنفسي في المرآة، كنت قد سمعت مؤخرًا أن الأموات يروننا عبر حاجز يُشبه المرآة ولا نراهم، أرى نفسي وأتساءل كيف أبدو من الجهة المقابلة، عيني منتفخة وتملؤها شعيرات دموية حولت لونهما لأحمر فاقع، وقفت أنتظر إنتهاء هذا اللون مني، خمسة عشر دقيقة كاملة، أقف في مكاني، أنظر وكأنني سأعبر داخلي، أغمض عيناي للمرة الأخيرة، فأجدني داخل الفجوة، داخلي، ويحيط بي بحر واسع، لم يمسسني بقطرة