نصان

نصان
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد ناجى

فَرسُ النبى

زارنى فرس النبى، وجدته عالقا بصرّة الأزهار الجصية فى سقف غرفتى فوق النجفة مباشرة؛ ابتسمت لحضوره.

حشرة نحيلة طولها أقل من إصبع، تشبه حصانا مجنحا مركبا من خيوط رفيعة وصلبة، ولها قداسة تحميها من القتل.

أتذكّر أن أمى كانت تبتهج لحضوره حين يزورنا، ترشّ أركان البيت بماء الورد، وترخى الستائر حتى لا تشده الأضواء إلى الخارج، وتتنفّس بركاته:

ـ فرس النبى زارنا.

تقول أنه يزور بيوت المؤمنين ليخفف عنهم الآلام، وأن حضوره بشارة طيبة لأبى الذى تعتصره أوجاع الكلى. وقتها كانت الجراحات فى ذلك العضو الحساس خطيرة، وتؤدى إلى الموت فى أغلب الأحيان.

كنت أجتهد فى تصوّر ذلك النبى الغائب، الذى لابد أن يكون هو أيضا نحيلا وبحجم عقلة إصبع، والذى يسرج خيوله المجنحة ويطلقها فى أرجاء الأرض لتطارد الآلام. أحيانا أتقمص حضوره المقدّس، وأمتطى فرسه بخيالى، وأرفّ حول فراش أبى المريض لأخفف أوجاعه؛ التى ظل يكابدها فى صمت ورضى، حتى تدحرجت الحصاة من مجرى البول دون جراحة.

عرفت فيما بعد أن تلك الحشرة تسميها كتب العلوم العربية “السرعوف”، وهى تسمية صماء لا معنى لها، وأن تسميتها فى اللغات الأوربية أقرب للمعنى العامى المصرى، فاسماؤها مشتقة من كلمة يونانية قديمة هى mantis وتعنى فى أحد دلالاتها “النبى”، واسمها عند الليبيين “نياقة النبى”. عرفت أيضا أن السرعوف يتغذى على غيره من الحشرات، وأنه ينقض على فرائسه بقوة، ويقاتل بشراسة للنهاية حتى فى مواجهة الأفاعى.

لكن كل ما عرفته لم يغير من إيمانى الخيالى الحنون بفرس النبى، ذلك الإيمان الذى يسبق المعرفة، أو بعنى أدق ذلك الإيمان الذى ينسج ـ فيما بعد وعلى مهل ـ معرفة توافقه. 

زارنى فرس النبى فتعلّقت بحضوره، توهمته رادارا حيويا يرسل ترددات شافية من الآلام. كان الطبيب قد تركنى فى عراء الوجع، بعد أن نفذ بإبرته الحرارية من جنبى الأيمن، وأحرق على مدى ساعتين ورما خبيثا فى كبدى. سمح بنقلى للبيت بعد زوال المخدّر، ونصحنى بحنان وصرامة أن أتجنب تعاطى أى منوم أو مسكّن، حتى لا أتعرض لمضاعفات لا تحمد عقباها.

فرس النبى.. يا فرس النبى.    

جاهدت أنا “عقلة الصباع” حتى امتطيت الفرس المعلق فى السقف، وأرسلت لنفسى شحنة شافية. نمت، وفى الصباح لم أجد فرس النبى فى مكانه، أدركت أنه غادرنى لمن هو أكثر منى ألما. كان أحد جيرانى يتألم ويصلنى صراخه من شباك قريب، لا أستطيع أن أخمن من أى شباك كان يأتى الصوت، لكننى أدرك أن فى كل شباك وجع.

 

عُقْلَةُ الصُباع

“عقلة الصباع” المصرى أكثر دقة وخفاء من الأقزام الذين نفثهم خيال جوناثان سويفت” ” 1667 ـ 1745″ فى أحد الأقسام الأربعة لرائعته الأدبية “رحلات جلفر” لقد رأى جلفر الأوربى شعوبا أخرى بأحجام أقزام لا يزيد طول الواحد منهم عن أشبار معدودة، أما المصرى فقد رأى نفسه بحجم أكثر ضئالة ولا يزيد عن عقلة إصبع، فى مواجهة عالم كبير يعج بالجوع والآلام والمخاطر، ويكتظ بالطمّاعين والمردة والغيلان آكلى لحوم البنات والصبيان الطيبين.

عقلة الصباع المصرى ـ رغم ضئالته ووحدته ـ لا ينهزم فى أى حكاية شعبية سمعتها، إنه ينتصر دائما على واقعه الكئيب بمردته وغيلانه الخرافيين. يتسلل إلى أعدائه فى أطباق طعامهم ليقف فى حلوقهم ويودى بحياتهم، أو ينحشر فى ثقوب مؤخراتهم ليكتم سموم الشر التى تملأ دواخلهم، ويميتهم بها. حِيَلُه كثيرة، ويضحك المصرى دائما مع حكاياته متمنيا أن تتحوّل تلك المراودات الخيالية إلى فعل واقعى يخلصه مما هو فيه.

عقلة الصباع المصرى ليس بطلا من ذلك النوع الذى يصارع الأسود والأفيال والتماسيح، ولا وجود لمثل هذا البطل فى أى حكاية شعبية سمعتها، وإنما هو بطل رقيق الحال، ذو حيلة أكثر مما هو ذو قوة، وذو ضمير وعقل أكثر مما هو ذو سطوة. هو فى واقع الحكايات أضأل من أن تلاحظه عيون المتسلطين الكبار، لكنه يفاجأهم دائما بألاعيبه البسيطة فيقلب الموازين.

تنتهى معاركه دائما بإيقاف الشر، لكنه لا يخلق آلية تضمن عدم تجدد الشرور وتسيير الأحوال فى اتجاه الخير، وكأنه يرى الشر ركنا أساسيا فى العالم الكبير، وأن قدره هو أن يقاوم بين حين وآخر ليخفف إيقاع الشر، ويجدد قدرته على الاحتمال.

تنهى الحكّاءة المصرية رواياتها عن “عقلة الصباع” قائلة:

ـ “… ومات أبونا الغول بسم الشر المكتوم فى بطنه، وعاش الصبيان والبنات فى تبات ونبات. وتوته توته.. خلصت الحدوته”.

يضحك الصغار، لكنهم يدركون بعد أن يكبروا أنه: “توته بعد توته.. ولا تنتهى الحدوته”؛ فبعد أبونا الغول يولد غول جديد، وهو دائما “أبونا” ومالك مقاديرنا، يولد دائما كبيرا ودون أن ندرك المنطق الذى يسيّده علينا، ويعطيه لقب “أبونا”.

ـــــــــــــــــــــــــــ

ـ محمد ناجى ـ روائى مصرى

ـ من كتاب بعنوان “يوميات الغياب”، عن تجربة المرض وما صاحبها من تأملات.. والمقطعان مترابطان وهما من جزء فى الكتاب يتأمل الوجدان الشعبى المصرى، وإحساسه بالخير والشر، وتقلبات التاريخ من خلال الحكايات الشعبية.

 

ـ نقلا عن صحيفة الأخبار المصرية 

مقالات من نفس القسم

تشكيل
تراب الحكايات
موقع الكتابة

ثقوب