نساء “هيبو” يطلقن النفير.. فهل من مستجيب؟

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 شوقى عبد الحميد يحيى

         لم يكن أحد يتصور أن يتحول ما عُرف ب “الربيع العربى” إلى شتاء دامس، يدفع البشر للبحث عن كثيف الأغطية، وكأنهم يهربون من الحياة، بعد أن خرجت إلى السطح تلك الجماعات التى ظلت سنين طويلة تعمل من تحت الأرض، مسمية نفسها ب”الإخوان المسلمين” وما هم بإخوان، وما هم بمسلمين. فما كان الإسلام هو القتل والذبح وتخويف الآمنين. ففى مصر- التى كانت ثانى الدول الباحثة عن الحرية- استولوا على رأس النظام، وتولوا الحكم، وفى تونس –التى كانت أولى الدول التى ثارت على التجمد والفساد- تولى راشد الغنوشى رئاسة المجلس النيابى، بعد أن تم تجديد الثقة فيه فى 22 مايو عام2016 ، وكأنها تأكيد على استمرار نهج الجماعة، فتثبتت أقدامه، فنزع الصلاحيات من رئاسة الجمهورية، ومنحها لنفسه، لتصبح البلاد فى قبضة الإخوان الذين يمثلهم الغنوشى، لتعيش البلاد اسوأ مما كان، ويصبح الموت مجانيا. وكان فرضا، ان تؤثر تلك التغييرات الجوهرية على كل الشعب التونسى، والذى منهم بالطبع المبدعون الذين يستخرجون إبداعاتهم من حياة الشعب، ليصبحوا هم المؤرخ الحقيقى لحياة الشعوب، ولتبرز من بينهم الروائية التونسية “حفيظة قارة بيبان” والشهيرة باسم “بنت البحر” لتؤرخ لتلك الفترة الحيوية، من تاريخ الشعب التونسى، فأخرجت ثالث جزء من ثلاثيتها “درب الفرار” “العراء” لتأتى بعد ذلك ب”نساء هيبو وليال عشر”[i]، وكأنها تابى إلا ان تؤرخ لحياة الإنسان التونسى، والتى لا تختلف عن مثيلاتها، من الدول العربية، التى تتماثل معها فى تسلط الحكم، بأذرعه المتعددة، والاكتفاء بالديمقراطية (الشكلية)، فضلا عن الجرثومة الآكلة فى جسد الأوطان العربية جميعها، وهى التطرف، الذى يأبى إلا ان يمسك بزمام الحكم، وفرض آرائه على المجتمع، بتلك الوسائل التى تدوس على حرية الفرد. فكانت “نساء هيبو” صرخة لاستعادة تلك الحقوق المهضومة فى باطن الإرهاب.

فإذا كان فى10 مارسقد تم هجوم إرهابي على مدينة بنقردان في بنقردان يخلف 20 قتيلا من المدنيين والقوات الأمن والجيش، و54 قتيلا من المسلحين.

و فى 29 أغسطس 2016، قد تم  مقتل ثلاثة جنود  وجرح سبعة آخرين بعد استهداف دوريتهم بألغام أرضية في جبل سمامة قرب القصرين، ويأتي ذلك ضمن ما يعرف بأحداث جبل الشعانبي.

وفى 31 أغسطس –أيضا- تم قتل مسلحين ومدني واحد إثر تبادل إطلاق نار مع قوات الجيش والأمن الوطنيين وسط مدينة القصرين.

فلم يكن غريبا، أو مصادفة أن تكتب الكاتبة عن ليال عشر من شهر أغسطس عام 2016، وكأنها تؤرخ للحالة المجتمعية المعاشة، خاصة أنها تستحضر ذاتها- الكاتبة- فى العديد من مواضع الرواية، ورغم بدايتها التى تؤكد فيها{إنّ أيّ تشابه بين شخصيّات هذه الرّواية وشخصيّات واقعيّة، هو محض صدفة ومكر خيال}. فكان التحذير أقرب للتأكيد منه للنفى.

كما جاء الهدير الأول، بلسان البحر الهادر والغاضب، متضمنا بعض الأسماء التى تحفظها الذاكرة التونسية، والتى ذكرتها الكاتبة فى الإشارات، مما يؤكد وجودها الفعلى مثل:  

1- شرود :عاشقة النغم، الحالمة بأن الحب يفتح كل الدروب والتي انتهت بعد ان سكنت القلعة

مع زوجها خالد في قاع أزقة هيبو، إلى الانهيار والجنون.

2- أمير: شقيق شرود الطالب الثائر المختفي بعد إحدى المظاهرات.

3- دجلة: الكاتبة التونسة التي غزا السرطان ثديها وامتد الى كل الجسد، تكتب روايتها مع

عاشقها الشاعر الفلسطيني غسان بعد أن تجلى العراء وامتد مفترسا الأرض والجسد.

فإذا ما اضفنا إلى سابقة الأحداث، التى ذكرتها الكاتبة، وكانت حقائق فعلية فد حدثت، عبر التاريخ والتى تؤكد فعل القصدية التى تؤكد سعى العدو لقتل أى ِمِن مَن يمكن أن ينهض بالبلاد، فى مجال العلم، وكأنها تشير إلى قصدية استهداف “نادر” على وجه التحديد، لكونه يبشر بذلك.

غير أن التساؤل الذى يمكن أن يواجه القارئ: لكن من اعتقلوا “نادر” هم السلطات التونسية، وليست الجهات الخارجية؟. غير أن الرواية ذكرت حبك المكيدة التى يحيكونها لكل من يودون الإيقاع به، مثلما حدث مع رامى {رامي، فتى والديه الوحيد، شديد الوسامة، أخضر العينين، يظنّه كل من يراه سائحا ألماني. كان هادئا خلوقا، موهوبا يكتب الأشعار بالعربيّة والفرنسية. أحَبَّ فاتنةً سنة الباكالوريا، كانت تعمل مع إحدى عصابات المخدّرات. أصبح مستهلكا ثم مدمنا، وتحوّل وهو طالب إلى مروّج لا يثير مظهره أبدا شكوك المباحث والبوليس، حتّى قبضوا عليه. كان في سنته الثالثة بكلّيّة الآداب بجامعة 9 أفريل بتونس. رغم كل محاولات المحامين، حُكمَ عليه بثلاثين سنة سجنا.}ص46. فضاع مستقبل الشاب بالوقيعة والخيانة، مثلما ضاع مستقبل “نادر” أيضا بالوقيعة والخيانة. فتتعدد الشواهد، ويصبح الشك، الأقرب لليقين، بأن يدا خارجية تتولى الجريمة، وتهرب، ويظل الحكام بضعفهم عاجزين عن الإمساك بالحقيقة الواضحة. فتعلن السلطات عن وقوع حادثة جديدة،{تعلّقت عيناي بالشّاشة، ومقدّم الأخبار يعلن عن أوّل الأحداث، الجريمة الفاجعة التي حدثت في تونس: إثر حادث الاغتيال الذي جدّ أول أمس، أفادنا الناطق الرسمي باسم المحكمة الابتدائية بتونس بما يلى:  في يوم 15 ديسمبر 2016، عُثر على المهندس التونسى محمد الضاوي مقتولا بالرصاص، داخل سيارته أمام منزله في مدينة صردان}ص48. وهى الواقعة التى بها تم إعتقال “نادر”، وضياع مستقبل شاب كان يمكن أن يكون نافعا للوطن، والبدايات .. مبشرة. 

ففى التوقيت الذى يُعلَن فيه عن غياب “نادر” ويتبين أنه قد تم إعتقاله، وهو ما يدعو الأم للشك منذ البداية  للتفكير فى نصب تلك الخية التى يقع فيها “نادر”، منح السلطات التونسية الفرصة للقبض علىه لتعلن الأم “مريم” الحقيقة فى (الهدير الثانى) وكأنها تعلن ثورة الغضب:

 {- أيمكن أن تكون شريكا في الجريمة؟ وقد أخذت القتلة إلى الفرار على مراكبك؟ كما حدّثت الأخبار؟!…  الجريمة اتّضحت -رغم ما يكتمون- فمن هناك، المشرق البعيد، جاء حكم التنفيذ : اغتيال العالم التونسي… فلِم  يظل البريء مدانا؟ ولم يظل الخوف والضعف، راية عجز

الحاكمين، حتّى لا تهدّ صرخة الحقيقة العارية، صرح القتلة والمجرمين؟}ص142. وكانما الخارج استغل ضعف الداخل، فتمزق الداخل، لا على المستوى الجمعى فقط، وإنما على المستوى الفردى، الذى من مجموعه يتشكل الجمعى، فتتفتت الأسرة.  ف{نادر الموقوف في القطب القضائي لمقاومة الإرهاب. أحلام الممزقة بين المخاوف والحرمان، الهاربة من ما الخيانات.

وسعيد الرافض البطالة، الماضى بخيبته إلى أقصى البلاد بعد غلق شركته، مستنجدا بشركة أجنبية قد تغلق في أي وقت أمام توالي الإضرابات}ص184. وتصبح تلك هى القضية التى تنشغل بها الرواية، وكأنها صرخة للداخل تعلن عن تدخل الخارج لدمار المجتمع.  

التقنية الروائية:

         وأمام كل تلك المظالم والضغط النفسى، همشت الكاتبة دور الرجال، لتشعر المرأة بألا سند لها، فلم يستطع القانون الذى هو المرجع والسند للمظلومين، حيث نجد كل الرجال غير فاعلين، إلا رجال الشرطة، بينما النساء يعانين القهر والهزيمة والخوف، كأنهن يواجن الشرطة وحدهم. بدءً من “مريم” التى لم نر لها أى رجل يحمل معها المسئولية، وكأنها “مريم” العذراء، والتى ولدت أولادها دون رجل، والتى وقع عليها كل الأعباء النفسية، بعد أن تم القبض على ابنها “نادر” المتفوق فى العلوم والحاصل على جائزة المخترع الشاب، والمتفوق فى دراسته، بينما هى تنتظره وتعد له كل ما يشتهى من أطعمة فى يوم مولده. وهى “مريم” ايضا، المبتلية فى ابنتها “أحلام” التى أصابتها أخبار الإرهاب بالرعب وتصور أنهم سيهاجمونها فى أى لحظة، حتى تصل لمرحلة (الجنون) فتقتل أابنتيها، متصورة أنها تَحمهيم من الإرهاب، بينما نكتشف أن الابن الوحيد لها تم إنقاذه منها، للتأكيد على رؤية الكاتبة، من أن النساء هم الضحية بينما الرجال، لا يدرون، أو لا يتحركون.

فإذا كانت “أحلام” هى من تتولى مسئولية تربية الأبناء الثلاثة بينما الزوج “سعيد”، يعمل فى الخارج، ولا يدرى من أمورهم شئ، رغم مناجاتها له عبر الفيسبوك، تستنجد به .. غير أنه لم يأت إلا والإسعاف تأخذ زوجته بعد نوبة هياج حادة، وبعد أن كانت “أحلام” قد وصلت إلى ما وصلت إليه. فتجمع الكاتبة رؤيتها فى تلك المناجاة التى تبثها “مريم” لأبنها، وكأنها هى مصدر الآمان الوحيد {حاضر أميري!  سأترك نور مصباح الفراش مضيئا. لتطمئن! سأظل أرعاك وأحميك ..لن أسمعك أخبارنا ولا أغانينا الحزينة، ففي قلب الأم مخابئ للأطفال. قلب من حنين وزجاج قلب من حنين ودمع يضيء به السراج }ص227.

وخليل زوج “سناء” ، تصف البيت، فى الوضع العادى {مازالت دجلة مسترخية في فراشها {وخليل يستعد للخروج إلى المقهى بعد تناوله معي فطور الصباح}ص207.  تستنجد بها “مريم” فى يوم أجازتها، بينما كانت تستعد لتقضية يوم مع أبنائها، فلم يكن أمامها إلا اللجوء للزوج {انفتح باب غرفة الجلوس وأشار خليل مودعا… هرعت إليه، على عتبة الباب، قبل أن يمضي لرفاق المقهى..  راجية أن يبقى مع دجلة، ريثما أذهب إلى حي الجلاء و أعود.

– الآن؟!.  ألا يمكن الانتظار حتّى أعود من المقهى؟…}ص208.

{ تقلبت فى الفراش مرات. لم ينتبه خليل الغارق فى نومه إلى قلقي}ص220.

حتى الحب، كانت المرأة هى دائما المعبرة عن الحب، دون أن نرى رجلامتلبسا باوقع الحب طوال الرواية. فعلى سبيل المثال تلك المناجاة التى تناجى دنيا بها حبيبها المعتقل “نادر”

{ أجمل أيام الشتاء، كنت تقول لى يا أجمل فصول العمر… و لكن، أيمكن أن يحوّل القدر كلماتك إلى النقيض ليصبح الشتاء أسوأ الفصول؟ وإذا أنا، في هذا الصباح الشتائي، لا تأخذني طريق الجامعةو لا صحبة الرفيقات المرحات في محطة الميترو، و لا شوق خطاي إلى موعد معك! أجدني، في طريق مجهول، تطرق خطوات خوفي الرّصيف القاتم المُبلّل بالمطر… أسير بين عملاقين رفعا في وجهي بطاقة:  بوليس}ص69.

و{أشتاق إليك..أقضم أصابعي..آكلها شوقا وحرقة عليك.. يجنني السؤال: كيف تكون أنت بالذات، الطالب المتفوق دوما، الودود الخلوق، الذي لايشغله غير البحث والدراسة، كيف!

أنت الشغوف بالعلوم تصبح مدانا في جريمة قتل؟ ولمن؟ لعالم تونسى! اعتقلوك وجروني معك، فقط لأني حبيبتك…هل يمكن أن يصبح الحب إدانة ويكون جزاؤه العقاب؟}ص199.

وكذلك “أحلام” تناجى “سعيد” الغائب

{سعيد!

أين أنت سعيد؟.. أين أنت حبيبي و سندي، تأخذني ذراعاك القويّتان، تدسّني في حضنك، تبدّد خوفي و تعبي… تلاعب شعري المتهدل على كتفيّ. كطفلة، تمسك يدي الصغيرة بين كفّيك

الكبيرتين الدافئتين دوما، تمرّرها وئيدا على الشفمه النّديّة الحارقة.

– طفلتي الكبيرة!  تقول ضاحكا.

ألتمّ في حضنك، أسدل جفنيّ في صدرك العريض، وأهيم كبرعم نديّ، خوف عصف الريح، يلوذ بأحضانك}ص75. حتى عناوين الفصول، جاءت جميعها تخلو من أى اسم رجالى.

وهو ما يتفق مع اختيار العنوان الرئيس للرواية “نساء هيبو وليال عشر”، وكأنها تصرخ فى الرجال، أن يهبوا لنجدة نسائهم، مما يعتريهن من ضياع وتشتت. أو أنها تعلن أنه لا يتم ذلك إلا لأنه ليس هناك من رجال يستطيعون أن يشعرونا بالأمان.

         قد يتبادر إلى الذهن سريعا إلى أن “مريم” هى الشخصية الرئيسية فى العمل، حيث تحتل المساحة الأكبر فى الرواية، غير ان ذلك لا ينفى أن تكون كل إمرأة فى العمل هى بطلته، خاصة “أحلام” ابنة “مريم” والتى منحتها الكاتبة جزءٍ كبيرا من المساحة الكتابية، فضلا عن وضع بذرة المرض، ودوافعة فى أعماقها، وفق ما يقوله علم النفس، من أن للطفولة تأثير قوى فى تكوين وسلوك الشخصية، فيما بعد. حيث نعلم أن “أحلام” كانت فى السيارة التى كان يقودها الأب، وهى طفلة لم تزل، واحترقت السيارة، وكانت هى الناجية، بعد أن شاهدت الواقعة بأم عينيها، فضلا عن تكشف بعض الحقائق التى ترسخت فى أعماقها مثل أن تقول ما يكشف عن تلك الحقيقة التى أصبحت ثابتة فى لأعماق، فراحت تفرض نفسها عليها، وهى تناجى، وتنادى زوجها الغائب {ثقيل صدري..ثقيل إلى حد الإغماء.. من يشغلك عني الآن؟.. من يقطع عني صوتك ووجودك ويتركني أنزف دم الخيانات؟..الخيانات التي تطاردني من الصبا لأرث الذل والمهانة. رمت بأبي إلى الموت في حادث مريع مع عشيقته الجاسوسة الأمريكية..ضيعت عملي الذي حصلت عليه بعد لأي، لتغلق الشركة أبوابها بسبب الإضرابات وفوضى البلاد وجنون العباد. ألقت بأخي الوحيد خلف القضبان.. تصّور.. بتهمة الإرهاب !.. نادر الطالب الشغوف بالعلم والاختراع طالته أياديهم.. تسع ليال كاملة وهو سجين، وأنت لا تبالي، ولا تعود.. هل يمكن أن تخونني الدنيا أيضا فيك؟ وتحيل كل ذاك الحب الذي جمعنا هبابا؟..}ص196. أى أن واقعة القبض على أخيها “نادر” قد أيقظت ذلك المارد المتخفى فى الأعماق. وهو ما يوحى بأن العشيقة الأمريكيى لم تكن إلا جاسوسا أدى بالنهاية إلى مقتل الأب، وهو ما نزال نعيشه اليوم حين نذكر ما حدث من مقتل “نصر الله” زعيم حزب الله من قبل القوات الإسرائيلية، فحزب الله، وهو أحد اذرع الإرهاب المانع لأن تكون لبنان دولة مثل كل الدول، واستطاع قائدها التحصن داخل المخابئ المدفونة فى الأرض، فما دل على مكانه غير الخيانة التى ترسخت فى أعماق عامة الناس، ومنهم بالطبع “أحلام” فضاع منها الماضى(الأب)، وضاع منها المستقبل (البنتين)، وضاعت هى نفسها(الجنون). فقد عانت من الأوهام التى تسلطت عليها، وقادتها إلى الجنون، والزوج غائب، فراحت تناديه، وهو لا يسمع، رغم التوتر والانزعاج الصارخ فى صوتها {..أعود لحظات إلى الفايسبوك.. من كل التدوينات يطل وجه حمادي من جديد..يهجم علي، في غيابك….يخرج إلي، محفور الخدين، ناتئ عظام الوجنتين، شديد القتامة.. يختفي نصف وجهه في لحية طويلة هوجاء.. يقبل نحوي.. تتحرك ظلال جسده الطويل النحيف على جدران الغرفة.. انتبه إلى النّجفة تنطفئ فجأة..  وكأن بهرة ضوء مريب تتسلل من خصاص النافذة..  تضج الظلال.. تمتد وتكبر.. تنشب أطرافها المتحركة في السقف.. تحدق بي العيون المحفورة في الزوايا..تدور.. تدور.. تدور.. يجمدني الذعر والبرد والوهن الرّهيب..}ص196. وكأن الخيانة قد أضاعت الأمة. فكانت “أحلام” هى الشخصية الرئيسية فى العمل، وهى الممثلة لضحية الإرهاب والخيانة، فلم تكن “أحلام” هى الإسم، ولكنها كانت الفعل.

وحتى “سناء” وقد عرفتها الكاتبة بأنها تلميذة “مريم” كان اعتزالها العمل بالمحاماة فيما بعد، منطقيا، وصنعة من الكاتبة. فهى عاتبت نفسها بعد أن لجأت إليها “أحلام” {أنا المحامية المدافعة عن حقوق الإنسان، وأوّلها حق الحياة! ألم يكن ممكنا تفادي الجريمة، من أول يوم زارتني فيه أحلام، طالبة تقديم شكوى ضد مجهول؟؟!}ص218. ولذا كان اعتزالها بعد ذلك كفرا بالقانون الذى تمثله، لأنه لم يعد يجدى:

{إذ تعجز عن إدانة القتلة ومحاكمة المجرمين الذين حبكوا الجريمة، وألبسوها ضحاياهم ليجروهم إلى الانهيار والجنون والسجون!}ص223.

وكذلك كان “نادر” على الرغم من كونه مفعولا به، إلا ان احتياجه للمال، وعدم قدرة الأم على إمداده بما يريد، رغم سعيها، وكى يشعر بإنسانيته، ورجولته، أراد أن يعتمد على نفسه، فى الحصول على المال، فإلى جانب كونه يدرس بالمعهد الوطني للهندسة. فأحيانا كان يكتب مقالات بالانجليزية في موقع إكتروني، ليتحصل على المال، وهى الوسيلة التى تسللت بها الأجنبىة إلىه، والإيقاع به فى الشباك.

كما تلاحظ استخدام الكاتبة التوقيتات –الدقيقة- طوال مسيرة الرواية، حتى أنها تخيرت عشر ليال فقط من تلك الفترة التى علا صوت الموت، والدم فيها، وكأنها تعلن عن سطوة الزمن، وقسوة اللحظات التى يمر بها الشخوص، والضاجة بالكثير من الهموم، وجسامة الخَطْبِ الواقع على تلك الأجسام الضعيفة، فى غياب الرجال.حيث أن الإنسان فى هذه اللحظات أمام الموت، فإن الثانية فى ذلك التوقيت يكون لها من الأهمية الكثير، والكثير جدا، لذا كان استخدام تلك الصيغة، اكثر تعبيرا عن وقع وأهمية الزمن فى تلك اللحظات. فضلا عن منح القلق، الذى يلازم الإنسان فى حالات الانتظار أو الترقب، أو الخوف.

ورغم أن الرواية/ الرسالة، اعتمدت فى الكثير من مواضعها، إلى العقل، الأمر الذى استدعى حضور الكاتبة فى الكثير من المواضع، فضلا عن افتتاح العمل ب “الهدير” الأول، وإنهاء الرواية بمحاولة زرع شئ من الأمل فيما ورد “خارج الليالى. إلا ان الحب، والعاطفة كان لها دور كبير، خاصة أن العمل الإبداعى بالأساس، يقوم على العاطفة، فى التعبير، والمنطق فى تسيير الأحداث. غير أن التعبير عن التوتر، وبداية عاصفة تطيح بالبيت، تنطق بها “أحلام” قبل أن يصل “سعيد” وتقع الواقعة، وكأننا نعيش اللحظة المتوترة {سعيد.. انجدني.. انجدني بربك، قبل أن أفر من البيت ومن الدنيا..أطفالي!..  أذكرهم بغتة… صغيرتاي في الحمام… عاريتان.. قد…  وزهر…  يشعلني الخوف عليهم.. أفزّ من مكاني، يدي تظلل جبيني، تخفي العيون الثاقبة والشبح المترصد.. أتحسس طريقي إليهم تموج بي ظلمة مائعة.. النور.. وقطع عن كامل البيت… أم هو العمى أصابني؟

زهر!.. آلاء!…آمال!…  لا تبكوا!.. أنا قادمة!

يهتز زجاج النّوافذ مع صفير الريح..  يكاد ينكسر تحت قصف الرعد يعلن العاصفة القادمة

 زهر!..  لاتبك!..  أشد قبضتي الثانية على فمه..أمنع البكاء الفاضح.. يتخبط زهر فزعا بين يدي في الشرفة المغلقةعلينا … يعلو الطرق..يصمت دقائق.. يعود بعدها متواصلا عنيفا ساخطا يكاد يكسر الباب….}ص197. فكم كتن ذلك التعبير عن التوتر الذى تعانيه واحدة من شخوص الرواية، بل يعانيه كل شخوص الروايو، وهو أحد ما تميزت به الرواية. فضلا عن اللغة الشاعرية التى تميزت بها حفيظة، والتى تأتى على لسام الأم “مريم” عندما راحت تقلب فى أدراج “نادر عليها تجد شيئا يشفى غليلها {كشّرت في وجهي الحروف الغليظة السوداء على امتداد

ورقة كاملة مُدخّنة. أغلقت في وجهها الدرج، وسحبت الدرج الموالي في قاعه بدا كراس كبير مُجلّد}ص63. و {تقابلني الكلمات على امتداد صفحة بيضاء!}ص64. فخلق الصور الشعرية هنا مثل {كشرت فى وجهى الحروف) ،على امتداد ورقة كاملة} {أغلقت فى وجهها}{تقابلنى الكلمات) فكلها تؤنسن الجماد، وكأنها تستنطقها، بما يعكس الإحساس بالقلق والتوتر.

قسمت الكاتبة روايتها على عشر ليال، وبدأتها قبل العشر ب”هدير1″ و بعد الليلة السادسة كان “هدير2” وفى النهاية كان “هدير أخير”. بينما بدأت الرواية وانتهت بصوت النهر، وقد تحول إلى إنسان، فإذا كان معنى “هدير” الصوت القوى الأصم، فكأن النهر تحول إلى بحر هائج يرسل “النذير” ويزمجر غضبا، وكأن الكاتبة قد حزمت رسالتها أو روايتها بالتحذير الصارخ الزاعق، وهو الأصم. أو نذهير الصحيان للحكام العرب الضعاء، والذين لا يقدرون إلا على محوكميهم فقط، ولم تقتصر على تونس وحدها {أوف! هيا! هيا! هتفت آمال مُستعجلة و عيناها العسليّتان النّفّاذتان، تتابعان الصّور الفاجعة المتوالية في شاشات العالم العربيّ.. انفجار في بغداد، عمارات مُخرّبة في حلب، غارة إسرائيليّة في غزّة. وسيّارة مثقوبة الزّجاج ودم يرشّ الأرض في اغتيال جديد في تونس!}ص36. وكأن المبدعة حفيظة قارة بيبان، لم تجد أن الحكاية ليست هى الرسالة التى تقوم بها الرواية، فكانت روايتها “نساء هيبو وليال عشر” نوبة صحيان لرجال الوطن العربة أن يهبوا ويقوموا بدورهم .. فهل من مستيقظ يسمع صوت النفير؟.

………………………….

  • – حفيظة قارة بيبان – الأمينة للنشر والتوزيع – ط1   2024[i]

مقالات من نفس القسم