هشام أصلان
ليست «أكابيللا» إحالة على غناء بدون مصاحبة آلات موسيقية وهو ما قد يحيل عليه عنوان الرواية، أو أحداثها المحكية دون تحديد المكان أو زمان، وإنما هي إحالة على شخوص يتحدد فضاؤهم من خلال مشاكلهم وعلاقاتهم المعقدة والمتناقضة.
وفي المقابل، “نرنو إلى أن نصبح شخوصأ روائية”. هذه مقولة ديستويفسكي، التي قرأتها للمرة الأولى في تصدير «بيرة في نادي البلياردو»، الرواية الوحيدة لوجيه غالي، ترجمة هناء نصير. أتذكرها وأنا أقرأ رواية “أكابيللا”، (دار شرقيات 2012)، للقاصة والروائية المصرية مي التلمساني، حيث الذائقة الأدبية الميالة إلى كتابة أماكن وبشر، تحكي عنهم وتجسدهم، فتصنع منهم تجارب إنسانية جديدة في حدوتة فنية ممتعة ومشوقة، لا تستسهل الشخوص أو تترك ملامحهم دون عوالم نفسية
إحدى الخدع التي تتكئ عليها رواية “أكابيللا”، هي عدم تحديد أماكن الأحداث، ومع أن الكاتبة تعلل ذلك بكون أحداث روايتها ممكنة الحدوث في أي مكان أو زمان، إلا أن قراءة الرواية تكشف مساحات مطلقة تتحدد عبرها مساحات وتفاصيل أماكن متخيلة دالة على طبيعة الشخوص، على سبيل المثال، ذلك البيت الذي يحتوي على غرفة مكتب، وعلى جدران الغرفة ألصقت «أفيشات» أفلام أجنبية، وكتب وأشرطة الموسيقى، أصحاب هذا البيت يمتلكون بهو في الصالون، يزينونه بطقاطيق الأنتيك، والتماثيل الخزفية، ويستخدمون ملاعق مصنوعة من الفضة، وترتدي ربته الملابس الداخلية المستوردة..
شخوص “أكابيللا” متناقضة ومعقدة. نحن أمام شخصية سيدة كاذبة، مريضة بداء السرقة، تحمل قدرة لا بأس به من النرجسية والادعاء، امرأة تلتهم الحياة دون حساب لأي شيء أو لأي شخص. لكنها في الوقت نفسه جميلة وساحرة، ترتدي ملابس كاشفة الحضور حفل عيد ميلاد. تحتك بالمدعوين ويلتف الرجال حولها، مثلما يلتف الأولاد حول الكراسي الموسيقية
وفي المقابل نجد شخصية امرأة أخرى، منسحقة أمام صديقتها، مسحورة بها، رغم إدراكها التام لعيوبها، وحكمها عليها بعدم الامتلاء الجسدي، ذلك أن وجودها في الشلة مرهون بوجود تلك الصديقة. هي من النساء اللواتي يضطررن إلى لعب دور الأم والصدر الحنون لأصدقائها، ويتمتعن بهذا الدور. فهي تنجح في إيجاد مبررات شرعية لما هو غير شرعي من وجهة نظرها. تستعذب رجلا فتدعي حبه محبة الأم للابن، لكنها لا تطيل في الكذب على نفسها، فتعترف باكية بالانجذاب، ليس لعدم رغبتها في مواعدة الرجل، ولكن بسبب كسرها لعقدة (حب الأم للابن) التي صنعتها لنفسها.
أسلوب السرد في رواية “أكابيللا” يتجاوز اللغة الوصفية المعتادة، إلى اعتماد مشاهد بصرية تتشكل بالانسجام مع وسائط فنية أخرى، مثل التشكيل والموسيقى والسينما، إذ تتخلل بنية الحوارات إيحاءات صوتية ولونية وإيماءات بين الشخصيات. فهي رواية لا تسرد أحداثها دون أن تحيل على نمط الفضاء الروائي وألوانه والأصوات التي من الممكن سماعها وصولا إلى نبرة حديث الشخوص الدالة على سلوكياتهم الاجتماعية، وانتهاء بتشكيل جديد للجدران والغرف والمطاعم والفراغات والنوافذ… تشكيل سردي في هيئة لوحات مرسومة أو فوتوغرافيا څلوة، بينما تتحول القهوة وكسرات الشطائر إلى روائح زكية، ويبدو صوت الريح والبحر بديلا لموسیقی غائبة