نزيف الشجر … نزيف الوجود

ABD ALBAR ALSAWLADY
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبدالبر الصولدي

“الأشجار مقدسة. من يتعلم كيف يتحدث معها، من يتعلم كيف ينصت إليها، يستطيع الاقتراب أكثر من الحقيقة، بل وملامستها. الحقيقة الهاربة من سيطرة التفاصيل. الحقيقة الأبدية للحياة.”

هرمان هيسّه

“الأشجار”

 

“فإنسان العمران لم يكتفِ باغتصاب أمّ له هي الطبيعة كي ينتزع منها القوت بالقوّة، ولكنّه آلى على نفسه أن يصنع من النفع مقياساً في كل نشاطه الاقتصادي الذي حدّد العلاقة معها. نشاطٌ مشفوع بالخطيئة بطبيعته، لأنّ الخبز هو أنجع وصفة لإماتة الضمير، كما الملكيّة أقوى تعويذة لنفي الله من خارطة الوجود.”

إبراهيم الكوني

“أهل السُّرى”

   

أَزْعَجَهُ طَنّينُ نَحْلَة تَحُومُ حَوْلَ نَبْتَةٍ بِلَاسْتِيكِيَّةٍ مَوْضُوعَةٍ عَلَى اَلطَّاوِلَةِ، لَمْ يَعْرِف كَيْفَ زَجَّتْ نَفْسَهَا فِي قَاعَةٍ مِن زُجَاج وَتَاهَت عَن سِرْبِهَا. ظَلَّ يُرَاقِبُ حَرَكَاتِهَا مُتَحَدِّثًا إِلَى أَعْضَاءِ جَمْعِيَّة: مُقَاوَمَة اِنْتِهَاكِ حُقُوقِ اَلْأَشْجَار. “لا بُدَّ أَن نَنْخَرِطَ بِقُوَّةٍ فِي وَسَائِلِ اَلتَّوَاصُلِ الاجْتِمَاعِيَّة، وأَن نَعْتَمِدَ اَلصُّوَرُ أَكْثَر، مَا لَا يُصَوَّرُ اليَوْم لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ.” تَلَفَّظَ كَلِمَاتِهِ فِي هُدُوءٍ جَائِلاً بِبَصَرِهِ بَيْنَ اَلنَّحْلَة وَالْحَاضِرِين، طَلَبَ مِنْهُمْ أَن يُنَظِّمُوا لِقَاءَاتِ صُحُفِيّة لِلتَّذْكِيرِ بِالْخُطُوطِ اَلْعَرِيضَةِ التِي تَتَبَنَّاهَا جَمْعِيَّتُهُمْ، والبَرْنَامَج السَّنَوِي المُعْتَمَدِ، خُصُوصًا شِقَّهُ اَلْمُتَعَلِّقُ بِالْمَخَاطِرِ التِي تُهَدِّدُ اَلْأَرْضُ إِزَاءَ اِنْخِفَاضِ عَدَدِ اَلْغَابَاتِ. أَحَسَّ بِأَنَّ طَنّينَ اَلنَّحْلَة فِي أُذُنِهِ كَبُوقٍ يُعْلِنُ بِدَايَةَ حَرْب، تَزْدَادَ حِدَّةَ الصَّوْتِ كُلَّمَا أَصَاخَ اَلسَّمْعَ أَكْثَر، أَمْعَنَ اَلنَّظَرَ فِي رَقْصَتِهَا وَحَمَلَ مُذَكِّرَتَهُ بِخِفَّةٍ وَنَزَلَ بِبَرَاعَةِ المُعْتَادِ عَلَى قَتْلِ الحَشَرَاتِ عَلَى اَلنَّحْلَة اَلضَّائِعَةِ عَن خَلِيَّتِهَا. وَابْتَسَمَ للْحَاضِرِينَ خَاتِماً لِقَاءَهُ قَائِلًا: “مِنْ أَجْلِ الطَّبِيعَةِ . . . مِنْ أَجْلِ الحَيَاة، سَيَكُونُ هَذَا هُوَ شِعَارُ اَلْحَمْلَةِ اَلْإِعْلَامِيَّةِ.”

 خَارِجَ البِنَاءِ الزُّجَاجِي الضَّخْم، تَجْلِدُ الشَّمْسُ بِسِيَاطِهَا الذَّهَبِيَّة الأَرْضَ التِي بَدَأَتْ تُسِلِّمُ مِيَاهِهَا الجَوْفِيَّة قُرْبَانًا لِلسَّمَاء، كَمَا لَوْ أَنَّهَا تُكَّفِرُ عَن خَطِيئَةٍ ارْتَكَبَهَا ابْنُهَا الإِنْسَان، الَّذِي يَسْتَنْزِفُ أُمَّهُ الطَّبِيعَةَ دُونَ كَلَلٍ أَوْ مَلَلٍ، مُخَالِفًا بِذَلِكَ النَّامُوسَ الأَبَدِي المُسَطَّرِ قَبْلَ مَجِيئِهِ، آه كَمْ اشْتَاقَ النَّاسُ إِلَى قَطَرَاتِ مَطَرٍ تَتَغَلْغَلُ فِي جَوْفِ اَلْأَرْضِ لِتَنْبُتَ زَرْعاً، لِتَدُبّ الحَيَاةُ فُصُولاً أَرْبَعَة كَمَا فِي البَدْء.

 النَّاسُ فِي الشَّوَارِعِ تَحْمِلُ بَيْنَ يَدَيْهَا الشَّمْسِيَّةِ السَّوْدَاء، خَوْفًا مِن أَن تَلْفَحَ وُجُوهَهُمْ النَّار، بَيْنَمَا “عَفْرَاءْ دَرْوِيشْ ” تَحَمِلُ بَيْنَ يَدَيْهَا مِلَفًّا ضَخْمًا وَتُسْرِعُ الخُطَى نَحْوَ الجَمْعِيَّةِ التِي تَظُنُّ أَنَّهَا سَتُسَاعِدُهَا فِي تَنْزِيلِ مَشْرُوعِ القَرْيَةِ الإِيكُولُوجِيَّة، حُلْمُهَا الَّذِي ظَلَّ حَبِيسَ الوَرَقِ فِي مَدِينَة كُلُّ مَا فِيهَا قَابِلٌ لِلذَّوَبَانِ، حَتَّى الأَحْلَام. مَدِينَةٌ مُشَيدَةٌ عَلَى الزّفْتِ وَبُخَارِ العَرَبَاتِ، لا حَدِيقَة أَو مُتَنَزَّه يَمْنَحُ ظِلًّا وَانْتِعَاشًا لِلْعَابِرِينَ، فَقَطْ رَوَائِحُ حَرْقِ اَلْحُقُولِ وَالنُّفَايَات. كَانَتْ بِرُفْقَتِهَا صَدِيقَتَهَا نُورَ التِي لَمْ تَتَوَقَّفْ مُنْذُ خُرُوجِهِمَا مِنْ شَكْوَاهَا:

– يَا لَهُ مِنْ أُوَارٍ. كَأَنَّ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ فُتِحَتْ.

  نَظَرتْ إِليْهَا عَفْرَاء:

– لِكُلِّ فَصْلٍ مُمَيِّزَاتُه، عَلَيْكَ الِاسْتِفَادَةُ مِنْ فِيتَامِينِ د فَمَصْدرُهُ الشَّمْس.

نُور وَهِي تَنْظُرُ إِلَى عَفْرَاءْ مُقَطِّبَةً حَاجِبَيْهَا:

  • أَتَصَبَّبُ عَرَقًا وَهَذَا أَمْرٌ يُزْعِجُنِي لَا يُهِمُّنِي ” فِيتَامِينُ د ” فَأَنَا آخُذه فِي كَبْسُولَات. أَنْتَ مَحَبَّةٌ لِفَصْلِ الصَّيْفِ، أَمَّا أَنَا فَالرَّبِيعُ يُنَاسِبُنِي أَكْثَر، رَغْمَ أَنَّهُ يُصِيبُنِي بِالحَسَاسِيَةِ المُفْرِطَةِ، لِهَذَا أُحِبُّ الشِّتَاء أَكْثَر، رَغْمَ البَرْدِ القَارِس.

تُحَدّجُها عَفْرَاءْ بِنَظْرَةٍ قَوِيَّةٍ وَوَجْهٍ تَعْلُوهُ ابْتِسَامَةٌ خَفِيَّة:

  • يَشْتَكِي الإِنْسَانُ فِي فَصْلِ اَلشِّتَاءِ مِنْ البَرْدِ الشَّدِيد وَمِن المَطَر وَتَسْتَمِرُّ شَكْوَاهُ فِي الحَرِّ، إِنَّ الإِنْسَانَ كَائِنٌ شَكَّاء.
  • الإِنْسَان ضَعِيف، كُلُّ شَيْءٍ يُرْهِقُهُ، أُحِبُّ الشِّتَاء أَكْثَرَ مِنْ اِلصَّيْفِ هَذَا كُلُّ مَا فِي الأَمْر. لِكُلِّ شَخْص فَصْلُهُ المُفَضَّل.
  • لَكِنَّ اَلطَّبِيعَةَ تَجْرِى وِفْقَ سُنّتِهَا المَسْطُورَةِ فِي كِتَابِهَا الأَزَلِيِّ، إِنَّهَا تَتْبَعُ مَنْطِقَهَا لا أَوْهَامَ الإِنْسَان.
  • أَلا يُمْكن أَن يَسْتَّمِرَ فَصْلُ الشِّتَاء إِلَى الأَبَّد؟

تُقَهْقِهُ عَفْرَاءُ، وتُجيب على السُؤَال بِسُؤَال:

– وَمَاذَا عَن مُحِبِّي الصَّيْفِ؟ مَاذَا لَوْ اسْتَمَرَّ الحَرُّ إِلَى الأَبَد؟ لَوْ كَانَتْ الطَّبِيعَةُ خَاضِعَةً لِهَوَى الإِنْسَان، لَانْجَرَفْنَا إِلَى نِهَايَتِنَا مُنْذُ بِدَايَتِنَا الأُولَى.

تَضْحَكَ نُور بِدَوْرِهَا عَلَى الفِكْرَة وَتُتْمِّمُ سُخْرِيَتَهَا:

– مُحِبُّو اللَّيْلِ بِإِمْكَانِهِمْ جَعَلَهُ سَرْمَدِيًّا. إِنَّهَا فِكْرَةٌ لِغَرَابَتِهَا جَمِيلَةٌ.

– لَا يَقْدِّرُ الإِنْسَانُ عَلَى تَغْيِيرِ قَوَانِينِ الطَّبِيعَة، إِنَّ الإِنْسَانَ لِيَطْغَى ظَاناً أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى فَرْضِ سَيْطَرَتِهِ عَلَى الطَّبِيعَةِ. الحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى نِعْمَةِ النَّقْص.

–   كُلُّ هَذَا لِأَنَّنِي اسْتَأْتُ مِنْ الحَرّ.

– بَلْ لِأَنَّكِ فَجْأَة وَلِعَدَمِ قُدْرَتِكِ عَلَى تَحَمُّلِ الحَرّ أَرَدْتِ تَغْيِيرَ صَيْرُورَةِ الكَوْن.

ضَحِكَتَا مَعًا، وَاسْتَّقَلَتا المِصْعَد مُتَّجِهَتَيْنِ إِلَى الطَّابَقِ الرَّابِعِ عَشَر حَيْثُ مَرْكَزُ الجَمْعِيَّةِ، رَحَّبَتْ بِهمَا المَسْؤُولَة عَنْ اسْتِقْبَال الزُّوَّار، وَفَحَصَتْ مَوْعِدَهُمَا مَعَ السَّيِّدِ “نَبِيلٍ عَوَضْ”، وَبَعْد أَنْ تَأَكَّدَتْ مِنْ صِحَّتِهِ طَلَبَتْ مِنْهُمَا الِانْتِظَار. كَانَتَا مَعًا تَجُولَانِ بِبَصَرِهِمَا فِي المَكَان الفَارِغِ إِلَّا مِنْ اللَّوَحَاتِ المُزَيَّفَةِ، لَوْحَةُ فِي سَانْتْ أَنِيسْ لِسُكُوتٍ، حَيْثُ الغَابَةُ مُشْرِقَة بِأَلْوَانٍ تَنْبِضُ بِالْحَيَاة، وَجَرَيَانُ المَاءِ المُتَدَفِّقِ عَبْرَ النَّهْرِ يُثْبِتُ أَنَّ الطَّبِيعَةَ سَيِّدَة نَفْسِهَا، تَنْقُلَ عَفْرَاءْ بَصَرَهَا إِلَى لَوْحَةٍ كُتِبَ تَحْتَهَا: شَجَرَةُ التُّوتِ فِي الخَرِيفِ، لَمْ تَنَلْ إِعْجَابَهَا كَثِيرًا لِطُغْيَانِ اللَّوْنِ اَلْأَصْفَرِ عَلَيْهَا، لَوْحَاتٌ كَثِيرَةٌ أُخْرَى تَجْمَعُ بَيْنَ الإِنْسَانِ وَالشَّجَرِ وَالْحَيَوَانِ فِي تَنَاغُمٍ وَانْسِجَامٍ. اِبْتَسَمَتْ نُور فِي وَجْهِ عَفْرَاءْ وَهِيَ تُخْبِرُهَا أَنَّهَا مُسْتَعِدَّةٌ لِلْبَقَاءِ هُنَا إِلَى الأَبَدِ، سَأَلَتْهَا عَفْرَاءْ:

– هَلْ أَعْجَبَتْك اللَّوْحَاتُ لِهَذِهِ الدَّرَجَةِ.

– أَعْجَبَنِي انْتِهَاءُ العِقَابِ الَّذِي تُسَلِّطُهُ الشَّمْسُ عَلَيْنَا.

 بَادَلَتْهَا عَفْرَاءْ نَظَرَاتٍ تَعَجُّب:

–  مُكَيِّفَات الهَوَاءِ لَا تَزِيدُ الأَمْرَ إِلَّا سُوءًا.

– إِنَّهَا تَجْعَلُ الطَّقْسَ لَطِيفًا.

–  بَلْ إِنَّهَا تُسَبِّبُ صُدَاعًا فِي الرَّأْس، أَشْعُرُ أَحْيَانًا أَنَّهَا تَمْتَصُّ رُطُوبَةَ جِسْمِي كَأَنَّهَا تُرِيدُ سَلْبَهُ الحَيَاةَ، الخَطِيرُ أَكْثَر هُوَ الطَّاقَةُ المُسْتَنْزَفَةُ مِنْ طَرَفِ المُكَيِّفَاتِ. لِمَاذَا لَا يَتَأَقْلَمُ الإِنْسَانُ مَعَ المُنَاخ؟

– فِي كُلِّ مَرَّةٍ أَتَحَدَّثُ إِلَيْكَ عَنْ أَمْرٍ يُسَهِّلُ الحَيَاةَ وَيَجْعَلُهَا مُحْتَمَلَةً، تَذْكُرِينَ تَأْثِيرُهَا عَلَى الطَّبِيعَةِ وَالكَائِنَات. لِمَاذَا هَذَا التَّعْقِيدِ؟ أَلِهَذِهِ الدَّرَجَةِ تَتَرَابَطُ الأَشْيَاءُ؟

– لَيْسَ تَعْقِيدًا وَإِنَّمَا وَعْيٌ بِالْأُمُورِ اَلْمُحِيطَةِ بِنَا. كُلُّ شَيْءٍ مُتَرَابِطٍ بِخَيْطِ الطَّبِيعَةِ، الأُمُّ الَّتِي تُعْطِي كُلَّ شَيْءٍ فِي مُقَابِلِ أَنْ تَحْتَرِمَ خُصُوصِيَّاتِهَا.

قَاطَعَتْهُما مُوَظَّفَةُ الِاسْتِقْبَالِ بِابْتِسَامَةٍ وَاضِحَة الِاصْطِنَاعِ:

– تَفَضَّلَا فالسَّيِّدَ مُدِير الجَمْعِيَّة فِي انْتِظَاركُمَا.

كَانَ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيٍّ مَصْنُوعٍ مِنْ خَشَبِ الأَكَاجُّوْ، وَيُدَقِّقُ أَوْرَاقًا مَوْضُوعَةً فَوْقَ المَكْتَب الخَشَبِيِّ، طَلَبَ مِنْهُمَا الجُلُوس بَعْدَ إِلْقَاءِ التَّحِيَّة، سَأَلَهُمَا مُبَاشَرَةِ عَنْ سَبَبِ الزِّيَارَةِ. تَوَلَّتْ عَفْرَاءْ الحَدِيثِ وَهِيَ تَضَعُ المِلَفَّ الَّذِي حَمِلَتُهُ مَعَهَا لِسَنَوَاتٍ عَلَى المَكْتَبِ، وَأَخْبَرَتْهُ بِخُلَاصَةٍ شَدِيدَةٍ أَنَّهَا وَجَدَتْ مَكَانًا بِمَقْدُورِهَا تَحْوِيلَهُ إِلَى قَرْيَةٍ إِيكُولُوجِيَّةٍ، وَهِيَ تَحْتَاجُ إِلَى كُلِّ الجَمْعِيَّاتِ الفَاعِلَةِ فِي مَجَالِ الحِفَاظِ عَلَى البِيئَةِ لِمُسَاعَدَتِهَا، “هَذِهِ القَرْيَة سَتَكُونُ أَوَّلَ نَمُوذَجٍ فِي مِنْطَقَتِنَا، قَرْيَةٌ يُمْكِنُ وَصْفُهَا بِصَدِيقَةٍ لِلْبِيئَةِ”. قَالَتْ مُحَاوِلَةَ بَيَانَ فَرَادَةِ المَشْرُوع فِي المِنْطَقَة.

  يُقَّلِبُ نَبِيل عَوَضْ المِلَفّ بَيْنَ يَدَيْهِ دُونَ أَنْ يُثِيرَ المَشْرُوعُ اِهْتِمَامَهُ، بِقَدْرِ مَا أَثَارَتْهُ الغَابَةُ المُجَاوِرَةُ لِمَكَانِ القَرْيَةِ الَّتِي تَنْوِي عَفْرَاءْ بِنَاءَهَا، رَأى فِيمَا يَرَى النَّاسُ فِي أَحْلَامِ يَقَظَتِهِمْ الأَشْجَارَ تَتَسَاقَطُ ذَهَبًا، وَالأَوْرَاقُ الخُضْرُ تَتَحَوَّلُ إِلَى أَوْرَاقٍ نَقْدِيَّةٍ، وَالأَغْصَانُ إِلَى فَحْمٍ. اِنْتَهَتْ عَفْرَاءْ مِنْ تَقْدِيمِهَا لِلْمَشْرُوعِ، وَهِيَ تَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَنْظُرَ فِي تَفَاصِيلِ الأُمُورِ على مَهْل، لِأَنَّهَا تُرِيدُ حِمَايَةَ الغَابَةِ المُجَاوِرَةِ لِمَشْرُوعِ القَرْيَةِ مِنْ أَيِّ تَدَخُّلٍ خَارِجِيٍّ، وَأَنْ تُضِيفَ إِلَيْهَا أَشْجَار أُخْرَى مُتَنَوِّعَة وَمُخْتَلِفَة، وَلِهَذَا لَجَأَتْ إِلَى الجَمْعِيَّة.

أَخْبَرَهَا نَبِيل وَهُوَ يَضَعُ المِلَف جَانِبًا:

  • اَلْجَمْعِيَّة تَتَبَنَّى مَبْدَأَ اَلْغَابَةِ أَوَّلاً، لِأَنَّهُ كَمَا تَعْرِفِينَ يَا سَيِّدَتِي إِزَالَةَ اَلْغَابَةِ يُهَدِّدُ حَيَاةَ كُلِّ اَلْكَائِنَاتِ لَيْسَ فَقَطْ اَلْإِنْسَانَ.

تَكَلَّمَتْ نُور الَّتِي حَاوَلَتْ أَنْ تَجْعَلَ وُجُودَهَا لَطِيفًا، بِأَنَّ كَرَّرَتْ عِبَارَاتِ عَفْرَاءْ الَّتِي تَحْفَّظُ بَعْضَّهَا:

  • إِزَالَة الغَابَاتِ يُؤَدِّي إِلَى تَلَوُّثِ الغِلَافِ الجَوِّيِّ.

أَكَّدَتْ عَفْرَاءْ الأَمْر وهِيَ تُتَمِّمُ فِكْرَةَ نُور:

  • صَحِيح، وَتَلَوُّثَ الغِلَافِ الجَوِّيِّ يُؤَدِّي إِلَى أَمْرَاضِ عَقْلِيَّةٍ، وَاضْطِرَابَات فِي النَّوْم، وَإِلَى كَآبَةٍ حَادَّةٍ. حَتَّى أَنَّ بَعْضَ الكَائِنَات بَدَأَتْ فِعْلاً فِي اَلِانْقِرَاضِ بِسَبَبِ ذَلِكَ.
  • جَمْعِيَّتُنَا سَتَكُونُ سَعِيدَةً بِانْضِمَامِكُمَا، وَانْضِمَامِهَا لِهَذَا الفِعْلِ الإِنْسَانِيِّ النَّبِيلِ، الَّذِي هُوَ مَسْؤُولِيَّتُنَا جَمِيعًا. حَيَاتُنَا تَعْتَمِدُ عَلَى حِفْظِ الطَّبِيعَةِ.

وَقَف نَبِيل مُلْقيا يَدَهُ لِإِلْقَاءِ تَحِيَّةِ الوَدَاعِ المَصْحُوبَةِ بِابْتِسَامَةٍ لَا يُظْهِرُ فِيهَا أَيّ تَصَنُّع، وَأَخْبَرَ عَفْرَاءْ أَنَّهُ سَيَتَّصِلُ بِهَا عَمَّا قَرِيبٍ لِلْحَدِيثِ عَمَّا يُمْكِنُ أَنْ يُغَنِّيَ هَذَا المَشْرُوعِ البِيئِيِّ الجَمِيلِ. سَعِدَّتا بِالسَّلَاسَةِ التِي مَرَّ بِهَا كُلُّ شَيْء، وَالوُعُود التِي قَدَّمَهَا رَئِيسُ جَمْعِيَّةِ مُقَاوَمَةِ انْتِهَاكِ حُقُوقِ الأَشْجَارِ لَهُمَا.

* * *

بَعْد انْتِهَاءِ اللِّقَاء، تَوَجَّهَ نَبِيل عَوَضْ بِسَيَّارَتِهِ الرُّبَاعِيَّةِ الدَّفْعَ إِلَى شَرِكَتِهِ الخَاصَّةِ، حَيْثُ يَعْتَزِمُ تَوْقِيعَ اتِّفَاقِيَّة شَرَاكَةٍ مَعَ مُقَاوَلَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ تَشْتَغِلُ فِي الأَثَاثِ الخَشَبِي، اتِّفَاقِيَّةٌ سَتُضَاعِفُ ثَرْوَتَهُ بِشَكْلٍ مَلْحُوظٍ. نَبِيل الَّذِي حَوَّلَ مَدِينَتَهُ إِلَى مَدِينَةٍ خَالِيَةٍ مِنْ الأَشْجَار تَمَكَّنَ بِطُرُقِ مُلْتَوِيَةٍ مِنْ شِرَاءِ غَابَةٍ جَدِيدَةٍ سَتُمَكِنُهُ مِنْ تَغْطِيَةِ حَاجَةِ السُّوقِ فِي السِّنِين الخَمْسِ القَادِمَة. غَابَةٌ تَقَعُ خَارِجَ المَدِينَة التِي تَحَوَّلَ فِيهَا البَشَرُ إِلَى كَائِنَاتٍ مُشَوَّهَة. الغَابَةُ الوَحِيدَةُ المُتَبَقِّيَةُ عَلَى أَطْرَافِ مَدِينَةٍ تُحْتَضَر، مَدِينَة بِاحْتِضَارِهَا تَحْتَضِر مُدُنٌ عَدِيدَةٌ عَبْرَ العَالَم، وَقَدْ كَانَ عَلَى عِلْمٍ بِأَنَّ الغَابَةَ المُجَاوِرَةَ هِيَ التِي تَمْنَحُ الحَيَاة أَوْ مَا تَبَقَّى مِنْها لِلْمَدِينَةِ الخَالِيَةِ مِنْ الأَشْجَارِ. لَكِنَّهُ لَمْ يَكُن يُبَالِي بِأَيٍّ مِنْ المَبَادِئِ التِي تَرْفَعُهَا الجَمْعِيَّةُ التِي يَتَرَأَّسُهَا، وَالتِي يَسْتَفِيدُ عَنْ طَرِيقِهَا مِنْ أَمْوَالِ الدَّعْمِ بِقَدْرِ مَا يَسْتَفِيدُ مِنْ أَرْبَاحِ شَرِكَتِهِ، فَفِي نَظَرِهِ المَالُ هُوَ مَا يُؤَسِّسُ لِحَيَاةِ الرَّفَاهِيَةِ، أَمَّا الطَّبِيعَةُ فَرَغْم أَهَمِّيَّتِهَا بِالنِّسْبَةِ لِلْجَمِيعِ، إِلَّا أَنَّهَا لَا تُفِيدُهُ فِي شَيْء. وأَنَّ وَهْمَ حِمَايَةِ الطَّبِيعَة لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْفُقَرَاءِ عَدِيمِي الطُّمُوح.

لَمْ يَكُنْ نبيل يُدَبِّرُ أُمُورَ الشَّرِكَةِ بِشَكْلٍ مُبَاشِرٍ، كَانَ يَثِقُ فِي المُسْتَشَارِينَ الَّذِينَ يُشْرِفُونَ عَلَى إِنْجَازِ كُلِّ المَشَارِيع، يُرْسِلُونَ إِلَيْهِ بِتَقَارِيرَ يَوْمِيَّةٍ بِالصَّوْتِ وَالصُّورَةِ تُوَثِّقُ كُلَّ مَا يَقَعُ، شَهِدَ بِأُمِّ عَيْنَيْهِ آلَاتهُ الضَّخْمَة وَهِيَ تَدُوسُ الشَّجَرَ وَتَجْتَثُّهُ مِنْ جُذُورِهِ، وَرَاقَبَ عَنْ قُرْب الغَابَاتِ الَّتِي حَوَّلَهَا إِلَى حُقُولٍ لِلزِّرَاعَةِ المُكَثَّفَةِ مُسْتَعْمِلاً المُبِيدَات الحَشَرِيَّة النَّفَّاثَة مِنْ قَبَيل فَبْبِرُونِيلْ.

 جَلَسَ في مَكْتَبِهِ، كَمَا اعْتَادَ أَنْ يَفْعَلَ دَوْمًا، يَشْهَدُ انْطِلَاقَةَ مَشْرُوعِهِ الجَدِيد. كَانَتْ طَقْطَقَةُ الأَشْجَارِ، مِنْ خِلَالِ التَّسْجِيلِ، تُسْمَعُ كَكُسُورِ فِي ضِلْعِ إِنْسَان، وَصَوْتُ المَنَاشِيرَ الضَّخْمَة وَهِيَ تَقْطَعُ الأَشْجَار المُسْتَلْقِيَة أَرْضًا كَأَنَّهَا تُمَزِّقُ جُثَّةً لَمْ يَعُدْ بِمَقْدُورِهَا الدِّفَاعُ عَنْ نَفْسِهَا، شَاهَدَ الهَمَجِيَّة وَهُوَ يَشْرَبُ كَأْسَ وِيسْكِي بَارِد، سَعِيدًا وَرَاضِيًا بِالعَمَلِ الْجَبَّارِ الَّذِي يُنْجِزُهُ فَرِيقُه. اِسْتَمَرَّ فِي مُشَاهَدَةِ المَجْزَرَةِ وَالشُّرْب، إِلَى أَنْ غَلَبَهُ النُّعَاسَ.

***

فِي النَّوْمِ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَنْ مُشَاهَدَةِ الشَّجَرِ وَهُوَ يُبْتَرُ بَتْرَا مِنْ أَعْمَاقِهِ، ابْتَسَمَ لِمَا يَرَاهُ كَأَنَّهُ يَرْبِطُ تَفَاصِيلَ الوَاقِعِ وَيَنْسِجُهَا بِأَحْلَامِهِ، رَأَى هَذِهِ المَرَّة أَبْعَدَ مِنْ قَطْعِ الشَّجَر فَقَدْ دَفَعَتْهُ سُلْطَةُ الحُلْمِ إِلَى أَبْعَدَ مِنْ ذَلِكَ، تَجَلَّتْ الحَيَاةُ فِي الشَّجَرَةِ المُنْبَطِحَةِ عَلَى الأَرْضِ لِتَقِفَ أَمَامَهُ شَاخِصَة بِلِحَائِهَا المُجَعَّد وَالمَحْفُورِ عَبْرَ السِّنِينَ، تَبَدَّلَتْ مَلَامِحَهُ، وَقَفَ فَارِغَ الْفَاهِ مَسْلُوبَ الِابْتِسَامَةِ، لَمْ يَسْتَطِعْ فَهْم مَا يَحْدُثُ، تَكَلَّمَتْ الشَّجَرَة:

  • مَا الَّذِي تَفْعَلُهُ أَيُّهَا الإِنْسَانُ؟

لَمْ يَسْتَطِعْ نَبِيل أَنْ يَتَغَلَّبَ عَلَى رُعْبِهِ حِينَ نَطَقَتْ الشَّجَرَةُ بِلُغَتِه، مُسَاءِلَةً إِيَّاهُ عَنْ أَفْعَالِهِ، أَتْمَمَتْ:

  • لَقَد احْتَجْتُ السَّنَوَات الطِّوَالِ لِأَنْمُو فِي ظِلٍّ نَفْسِي، تَمْنَحُنِي السَّمَاءُ نَدَاهَا حَبًّا بِلَّوْرِيًّا مُصَفى لِتُنْعِشِنِي بِالحَيَاة، وَتَجُودَ الشَّمْسُ بِأَشِعَّتِهَا لِتَدْفَعنِي لِلنُّمُوِّ وَالتَّكَاثُر، فَيَأْتِي الإِنْسَانُ لِيَجُزَّ فِي لَحْظَةِ الجُذُورَ الَّتِي بَنَتْهَا أُمُنَا الطَّبِيعَةُ فِي سَنَوَاتِ طَوَال.

فَرَك نَبِيلٌ عَيْنَيْهِ بِيَدِه غَيْرَ مُصَدِّقٍ لِمَا يَرَاهُ، وَتَمْتَمَ يَقُول:

  • لَمْ أَفْعَلْ أَيَّ شَيْء. لَقَدْ حَوَّلْتُكِ إِلَى أَشْيَاءَ جَمِيلَة يَسْتَعْمِلُهَا الإِنْسَانُ.
  • الشَّجَر لِلْحَيَاة، إِنَّنِي أَنْزِفُ دُونُ تَوَقُّف، وَبِنَزِيفِي يَنْزِف الْوُجُود، النَّحْلُ المِسْكِينُ لَمْ يُعَدْ لَهُ مَرْتَع، وَبِدُونِهِ سَيَمُوتُ البَشَرَ أَوَّلاً. الحَشَرَاتُ كُلُّهَا دَبَّتْ عَلَى الْأَرْضِ فَارَّةً مِنْ عَدُوٍّ يَكْتَسِحُ العَالَم، كَأَنَّهُ مُسْتَقِلٌّ عَنْ كُلِّ الكَائِنَاتِ. بِمَقْدُور ذُبَابَةِ أَنْ تَكُونَ سَبَبًا فِي هَلَاكِ البَشَرِيَّةِ. رُبَّمَا يَرْغَبُ الإِنْسَانُ فِي فُقْدَانِ جَنَّتِهِ مَرَّةً أُخْرَى.

تَرَاجَعَ خَوْفُ نَبِيل قَلِيلاً، وَابْتَسَمَ عِنْدَ سَمَاعِ الجُمْلَةِ الأَخِيرَة، حَاوَلَ أَنْ يُبَرِّرَ لِلشَّجَرَةِ أَفْعَالَهُ:

  • لَا أُرِيدُ إِلَّا الْحِفَاظَ عَلَى ثَرْوَتِي، الحَيَاةُ دُونَ المَالِ فِي زَمَنِنَا مَذَلَّةٌ لِلإِنْسَان. الشَّجَرُ لَنْ يَفْهَمَ ذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ مَا يَحْتَاجُهُ مُتَاح سَلَفًا.
  • وَهَلْ تَظُنُّ أَنَّ الإِنْسَانَ يَحْتَاجُ لِتَدْمِيرِ كُلِّ شَيْءِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَحْيَا؟ أمْ أَنَّ الأَمْرَ فَقَطْ تَعَصُّب لِلنَّوْع.

يَنْظُر نَبِيل إِلَى جُذُورِ الشَّجَرَةِ المُمْتَدَّةِ إِلَى جَسَدِهِ وَالمُلْتَفَّةِ حَوْلَ جِذْعِهِ كَأَنَّهَا جُزْءُ مِنْهُ أَوْ كَأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْهَا. لَمْ يَكُنْ حُلْمُهُ وَاضِحًا، وَقَفَ فِي مُوَاجَهَةِ الشَّجَرَةِ الضَّخْمَةِ، يَلُفُّهُمَا الظَّلَامُ مَعًا كَأَنَّهُمَا يَسْقُطَانِ فِي مَكَانٍ لَا قَعْرَ لَهُ، يَصْرُخَ نَبِيل طَلَبًا لِنَجْدَتِهِ، فَيَزْدَادُ التِصَاقًا بِالشَّجَرَةِ كَأَنَّهُمَا سَيَتَّحِدَانِ إِلَى الأَبَدِ وَيَسْبَحَانِ فِي عَتَمَةِ العَدَمِ. يَتَكَرَّرُ صَدَى صَوْتِ الشَّجَرَة: “لِمَاذَا يَظُنُّ الإِنْسَانُ أَنَّهُ مَرْكَزُ كُلِّ شَيْءٍ؟” لَمْ يَرُدْ عَلَى سُؤَالِ الشَّجَرَةِ، لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ كَلَامَهُ يَسْقُطُ مَعْنَاهُ وَيَفْقِدُ قِيمَتَهُ حِينَ يَنْطِقُ بِهِ، كَمَا المَالُ الَّذِي يَفْقِدُ قِيمَتَهُ وَجَدْوَاهُ حِينَ يَصِيرُ صَاحِبُهُ فِي لُجِّ البَحْر يَنْظُرُ إِلَى مَوْتِهِ المُنْتَظَر. سَمِعَ طَرْطَقَة نَابِعَةً مِنْ حَرَكَاتِ الشَّجَرَة البَطِيئَة، تَسْحَبُهُ إِلَيْهَا لِتَجْعَلهُ فِي نُخَاعِهَا مُتّجهة إلى مَثْوَاهَا الأَخِيرِ، أَصَابَهُ الرُّعْبُ حِينَ رَدَّدَتْ الشَّجَرَةُ:

  • أَتَعْرّفُ أَنَّ اَللَّهَ خَلَقَنَا فِي اليَوْمِ الثَّالِثِ قَبْلَكُمْ أَيُّهَا الكَائِنَاتُ المُتَعَجْرِفَةِ، وَقَبْل جَمِيعِ الحَيَوَانَاتِ. أَلَّا تَرَى أَنَّ فِي ذَلِكَ حِكْمَةً؟ حَتَّى ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي جَلَسَ تِسْعَةَ وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا تَحْتَ الشَّجَرَةِ عَرَفَ أَنَّ حَالَةَ الِاسْتِنَارَةِ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَتَحَقَّقَ إِلَى فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ.
  • لَكِنْ لَسْتُ الوَحِيدَ الَّذِي يَقْطَعُ الشَّجَر، لِمَاذَا تُحَاكِمِينَ شَخْصًا لَمْ يَقْطَعْ سِوَى بَعْضِ الغَابَاتِ، الكَثير من الشَرِكَاتٍ حَوْلَ اَلْعَالَمِ تَفْعَلُ ذَلِكَ.
  • العَالَمُ مَلِيءٌ بِأَمْثَالِكَ، كُل وَاحِدٌ مِنْكُمْ يَقْطَعُ شَيْئًا. وَلَكِن لِكُلِّ فِعْلِ نَتِيجَة وَعَلَى الْفَاعِلِ تَحَمُّلُ عَوَاقِبِهَا.

انْهَارَتْ الشَّجَرَةُ عَلَى الأَرْضِ، كَانَ نَبِيل يَصْرُخُ مِنْ هَوْلِ مَا يَرَاهُ، صَارَ مُتَّحِدًا بِهَا. إِنَّهَا نَفْسُ الشَّجَرَةِ الضَّخْمَةِ الَّتِي رَآهَا هَذَا الصَّبَاح، يَرْجُوهَا فِي حُلْمِهِ أَنْ تَدَعَهُ وَشَأْنَهُ، وَلَمْ يُدْرِكْ أَنَّهُ مَنْ عَلَيْهِ فِعْلُ ذَلِكَ. اسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِهِ القَصِير، وَمِنْ الكَابُوسِ الَّذِي قَضَّ مَضْجَعُهُ. لَعَنَ نَفْسَهُ وَالشَّجَر وَكُلَّ شَيْءٍ.

شَغَلَ التِّلْفَاز قَبْلَ أَنْ يُغَادِرَ بَيْتَهُ، نَشْرَةُ الأَخْبَارِ الصَّبَاحِيَّة تَبُثُّ خَبَرًا مُخِيفًا: مَوْتُ اَلنَّحْلِ بِأَعْدَادِ كَبِيرَةٍ ظَاهِرَة تُقْلِقُ المُرَبِّينَ. لَمْ يُرِدْ أَنْ يُتَمِّمَ حُلْمُهُ عَلَى وَقْعِ أَحْدَاثِ أَكْثَرَ رُعْبًا مِنْ سَابِقَتِهَا. أَطْفَئ التِّلْفَازَ وَغَادَرَ.

***

تَوَجَّهَ نَبِيل عَوَضْ إِلَى مَقَرِّ جَمْعِيَّتِهِ، جَلَسَ عَلَى مَكْتَبِهِ مُضْطَرِب المِزَاجِ مِمَّا رَآهُ، لَمْ يَعْتَبِرْ الأَمْر رَمْزًا، أَوْ رِسَالَة مِن أُمِّهِ الطَّبِيعَة السَّاكِنَةِ فِي جِينَاتِهِ، بَلْ لَمْ يَزِدْهُ الأَمْرُ إِلَا حِقْدًا، وَلَمْ يَسْتَطِعْ الحَسْم فِي أَمْرِهِ اِنْطِلَاقًا مِنْ حُلْم، فَشَيْطَانَ السَّيْطَرَة يَدْفَعُ المَرْء إِلَى اِرْتِكَابِ جُرْمِ اَلدَّنّاسَةِ فِي حَقِّ كُلِّ شَيْءِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَنَالَ وَهْمَ التَّمَلُّكِ.

 اتَّصَلَ بِشَكْلٍ شَخْصِيٍّ بِعَفْرَاءْ الَّتِي كَانَتْ تَنْتَظِرُ مُكَالَمَتَهُ بِفَارِغٍ الصَّبْرِ، حُلْمُهَا وَأَمَلُهَا فِي غَذّ أَفْضَل يُسَايِرُ طَبِيعَةَ الإِنْسَانِ دُونَ اِنْتِهَاك عَلَى وَشْكِ أَنْ يَتَحَقَّقَ، وَفُرْصَةُ العَوْدَةِ إِلَى الوَرَاءِ بَيْنَ يَدِي نَبِيل جَاهِزَة لَا تَحْتَاجُ إِلَّا إِلَى القَلِيلِ مِنْ النُّبْل، بَعِيدًا عَنْ مَنْطِقِ الرِّبْحِ وَالخَسَارَةِ، مَنْطِقُ الِاسْتِهْلَاكِ الَّذِي تَغَلْغَلَ فِي كُلِّ شَيْء. بَعْدَ رَنِينِ الهَاتِفِ، قَدَّمَ نَفْسَهُ بِهُدُوء، وَاعْتَذَرَ عَنْ تَبَنِّي مِلَفّ القَرْيَةِ الإِيكُولُوجِيَّةِ، لِأَنَّ الغَابَةَ فِي مِلْكِيَّةِ شَرِكَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ لَمْ تُرِدْ أَنْ تَتَوَاصَلَ مَعَهُم. وَأَنَّهُ مُسْتَعِدٌّ لِلتَّعَاوُنِ مَعَهَا فِي إِحْدَاثِ تِلْكَ القَرْيَةِ فِي مَكَانٍ آخَرَ، بَعِيدًا عَنْ الغَابَةِ.

 عِنْدَ اِنْتِهَاءِ المُكَالَمَةِ، شَرَعَ يُعِدُ الوَثَائِقَ اللَّازِمَةَ وَيُجْرِى الِاتِّصَالَات لِلظَّفَرِ بِصَفْقَةٍ جَدِيدَةٍ ضِدَّ الطَّبِيعَة، لَقَدْ نَالَ الغَابَةَ الَّتِي تُثِيرُ لُعَابَهُ بِاسْمِ الدِّفَاعِ عَنْ حُقُوقِهَا، وَحَرَمَ عَفْرَاءْ مِنْ أَرْضِهَا المَوْعُودَةِ الَّتِي لَيْسَتْ شَيْئًا مُسْتَحِيلاً، إِذَا مَا أَرَادَ اَلْإِنْسَانُ تَحْقِيقَهُ. فَأَيُّ لِجَامٍ أَوْ شَكِيمَةٍ تَسْتَطِيعُ كَبْحَ جِمَاحِ الرَّغْبَةِ فِي السَّيْطَرَةِ التِي تُدَمِّرُ الأَشْيَاء، وَكَم يَحْتَاجُ الإِنْسَانُ لِيَرْوِيَ عَطَشَهُ إِلَى الِاكْتِنَازِ. مَتَّى سَيُدْرِكُ نَبِيل وأمثاله أَنَّ الغِنَى هُوَ العَيْشُ وِفْقَ نِظَامِ الطَّبِيعَة، رُبَّمَا لَنْ يُدْرِكَ ذَلِكَ أَبَدًا، لَكِنَّ أَبْنَاءُهُ وأَبْنَاء غَيْرٍه سَيُعَايِشُونَ ذَلِكَ وَسَيَلْعَنُونَهُ حَيْثُمَا وَجَدَ. فَقْد أَعْطَتْهُ الشَّجَرَةُ فِي الحُلْمِ فُرْصَةً لِيَعِيَ أَنَّ السَّعَادَةَ قَدْ تَكُونُ طَعَامًا صِحِّيًّا دَافِئًا، وَلَيْسَ جَبَلاً مِنْ المَالِ. وَأنّ طَنَّينَ النَّحْلَة مُوسِيقَى مِنْ نَسْجِ الحَيَاةِ تُنْشِدَ أَنَّ كُلَّ شَيْءِ بِخَيْر، وَلَيْسَتْ إِعْلَانًا لِحَرْب. تَغَاضَى عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَأَجَّلُهُ إِلَى أَنْ يَصِيرَ الوَقْتُ غَيَّرَ صَالحٍ لِلنَّدَمِ، لِأَنَّ الوُجُودَ نَزَّفَ بِمَا يَكْفِي بِنَزِيفِ الشَّجَرِ.

……………….

*كاتب من المغرب

 

 

مقالات من نفس القسم

ragab saad alsayed
تراب الحكايات
موقع الكتابة

انزل

تراب الحكايات
موقع الكتابة

سلم خشب