فما عملت عليه أغلب تلك الكتابات النقدية هو محاولة تنميط نص محفوظ في عدد من الأطر من مثل الكلاسيكية من حيث البناء، والواقعية من حيث الأسلوب، والقراءة التاريخية والاجتماعية للواقع المصري من حيث المضمون.
والطريف أن هناك الكثير من التناقضات بين اغلب هؤلاء النقاد من حيث وصولهم لنتائج متناقضة كثيرة، من بينها، على تعددها ، الانحياز للتجربة السردية شكلا ومضمونا كما هو شأن سيد قطب، ورفضها بالجملة كما عند لويس عوض مثلا، أو قراءة الواقع من خلال نص محفوظ كما هو شأن القراءات الماركسية لمحمود العالم وعبد العظيم أنيس التي نظرّت للواقعية الاشتراكية، وبين محاولة فهم الواقع بناء على النص المحفوظي كما هو شأن قراءات إدوارد الخراط. وهناك أمثلة أخرى عديدة تكشف التناقضات المتباينة التي وقع فيها الكثير من النقاد من مدارس نقدية وتيارات فكرية وإيديولوجية مختلفة عند قراءتهم لمحفوظ.
وبتأمل الكثير من هذه القراءات تتبين دلالتين مهمتين في رأيي أولاهما تتعلق بأن النقاد كانوا ينطلقون عادة من مقولات مسبقة موجودة خارج النص، ولعلها أفكار أو إيديولوجيات تخصهم هم يحاولون إثبات صحتها من خلال النص، أي أنها أقرب لمفهوم الإسقاط في التحليل النفسي من مفهوم التأويل والقراءة النقدية بمناهجها الحديثة، وبقول آخر فهي تبدو كمحاولات استنطاق النص أو انطاقه بما يريده الناقد أو ما يستطيعه من تأويل محدود، ولعل هذا ما يفسر القراءات المضمونية العديدة التي حاولت تأويل الواقع من خلال النص، أو تحويل الشخصيات في النص المحفوظي إلى عدد من الرموز الوطنية أو الفكرية أو حتى القومية أو الدينية كما هو التأويل المفرط المستعار من أرضية بعيدة عن النقد تماما وهي أرضية التاريخ الديني التي شاعت في تفسير مواز لرواية أولاد حارتنا.
أدوات نقدية ناقصة
أما الدلالة الثانية فتشير إلى القصور والسلبيات التي تعتور أدوات النقاد لدينا، والتي تعود في جانب منها إلى ضعف المنهج الأكاديمي الخاص بدراسات العلوم الإنسانية بشكل عام. وبالتالي غياب مناهج قراءة جديدة تتلاءم مع النصوص السردية من جهة، وتمتلك سبل الوعي بالنسق الثقافي والتاريخي العام الذي تنتمي إليه هذه النصوص من جهة أخرى، إضافة للقراءات النقدية ذات الطابع الصحفي التي إما تعيد قراءة الرواية باعتبارها حدوتة أو تحاول تأويل الحدوتة ذاتها لإضافة جهد دلالي، في رأيي أنه قد يكون مصطنعا ومقحما في غالب الأحيان.
من البديهي ان هذا الوضع النقدي التقليدي الضعيف أيضا تسبب في غياب القراءات المبتكرة في تاريخ السرد.
أبناء الجبلاوي
هذه الأفكار عن موت النقاد أمام النص المحفوظي تداعت لذهني عندما عدت لقراءته من أجل كتابة رواية “أبناء الجبلاوي” التي يقوم جانب من مراكزها على محور يفترض غياب نص محفوظ من العالم في أجواء غامضة وعوالم كابوسية تتراقص على الحدود بين الواقع وبين الخيال، ثم على حدود الأسطورة والمتاهة.
كنت أنجزت محفوظ كاملا في عمر صغيرة جدا، وأعدت قراءة بعض الأعمال أكثر من مرة خصوصا الثلاثية والحرافيش والسراب وسواها. وعندما حاولت قراءة إحسان عبد القدوس أو يوسف السباعي بعده، وجدت مسافة كبيرة في اللغة والأسلوب كما تتضمنه نصوص كل منهما مقابل مستوى نص محفوظ لم يجعلني تواقا لاستكمال كل اعمالهما، على عكس شأني مع نصوص محفوظ.
وعندما عدت لقراءة محفوظ بوعي أكثر نضجا، وذائقة مختلفة، وعلى عكس المتوقع اكتشفت أنني في بعض النصوص كأنني اقرأه من جديد. أعدت اكتشاف الفصاحة والتراكيب اللغوية الرصينة والرشيقة معا. واستعدت الحس الذكي في الحوار الفصيح.
لكنني بدأت أشعر بالفعل أن هناك الكثير مما لم يقل عن نص محفوظ، من حيث تطور اللغة في مراحله المختلفة ودلالات التغيرات اللغوية في المرحلة التاريخية مثلا عنها في الثلاثية وما تلاها من أعمال المرحلة الموسومة بالواقعية، وصولا لروايات ذات طابع شكلي وسردي مختلف نسبيا مثل الطريق وحضرة المحترم والمرايا وصولا لأصداء السيرة الذاتية وأحلام فترة النقاهة التي بلغت فيها لغته حدا من التكثيف يختلف كثيرا عما سبقه وخلق نصوصا لها طابع يتجاوز الزمن.
في إعادة قراءة الحرافيش ايضا تبين لي ان النص في وجه من وجوهه لا ينتمي للمنهج الواقعي، بالمعنى المعروف، بقدر ما ينتمي لما بعد الواقع، فهو اقرب لملحمة قد يبدو الخيال فيها فقيرا، لكنها تدور في أجواء أسطورية وملحمية، تتصارع فيها الشخصيات وتتطور تحت مظلة القدر كاشفة عن رغباتها الباطنية العميقة في مناوشة أقدارها على تخوم الإرادة والحتمية.
التناقض الى حد العبث
يمكنني هنا أن استدل بمقولة للدكتور جابر عصفور حول القراءات النقدية لأعمال محفوظ تلخص هذه التناقضات في تناوله نقديا الى درجة قد تصل الى حد العبث. يقول د.عصفور:
“ولن نجد “حالة” أكثر إلحاحا على المراجعة من أقوال النقاد حول نجيب محفوظ ذلك أنه ما من مرة أصدر هذا الروائى عملا من الأعمال إلا وانهالت الدراسات والتعليقات، وما من مرة خلق هذا الروائى رمزا إلا وتعددت التفاسير والتأويلات، على نحو يتحول معه العمل والرمز إلى ساحة يتنازعها نقاد، أشبه ـ فى غير حالة ـ بإخوة أعداء. وليست مهمة من يقوم بهذه المراجعة سهلة، إذ لا ينبغى أن يتقمص دور “الأب ياناروس” ـ فى رواية “الإخوة الأعداء” لكازنتاز اكيس فيحاول التوفيق بين “ماركس” و”المسيح”، ومن الأفضل له أن يرتدى ثياب القضاة، ليدين هذا أو يبرئ ذاك. إن عليه ـ أساسا ـ أن يكتشف “عناصر تكوينية” تصنع عالقاتها “أنظمة” لهذه “الفوضى” البادية فى ركام الأقوال النقدية، وإن خلت هذه المراجعة من التصريح بموقف فإنها لا بد أن تنطوى ـ بداهة ـ على موقف مما تراجع، وإلا تهاوت المراجعة نفسها تحت أوهام وضعية خالصة، أو تجريبية زائفة وأيا كانت نتيجة هذه المراجعة ـ وأنا أطرح هنا ملاحظات أولية تمهد لها فحسب ـ فإنها لا بد أن تفيد ـ فى تنظيم عمليات قراءة النص الأدبى، كما لا بد أن تلفتنا إلى أهمية البحث عن معايير حاسمة فى اختبار التفسير، وتماسك التأويل، ومعقولية الشرح ناهيك عن تحديد الفروق الحاسمة بين المصطلحات وتقليص فوضاها الظاهرة وبقدر ما تفيد هذه المراجعة فى تعميق عمليات القراءة وتطويرها فإنها ستكشف ـ من خالل حالة تجريبية محددة ـ عن األنظمة المتصارعة، التى يشكل جماعها ما يسمى “النقد العربى المعاصر”، مثلما تكشف عن “المدارات الأساسية” التى يتحرك حولها الناقد العربى المعاصر، فتحكم “أقواله”، وتوجه تفاسيره للقول الأدبى، فتتحكم بشكل غير واع فى تأويله للنص الأدبي“.
حوار ما بعد حداثي بين نصي ونص محفوظ
في أبناء الجبلاوي أردت في الحقيقة أن اجري حوارا ما بعد حداثي بين نصي الأدبي ونص محفوظ، في تأكيد حقيقة أولى أنه لا يمكن رفض نص محفوظ بوصفه نصا كلاسيكيا، بقدر ما ينبغي هضمه جيدا ثم العمل على تجاوزه، على أرضية من الندية، والحوار.
وبالتالي فبقدر ما تقترح أبناء الجبلاوي بناء ما بعد حداثي يقوم على التشظي وكسر المركز التقليدي للنص الروائي، فإنها في الوقت نفسه تحاول أن تحاور نص محفوظ وتستعيد شخصياته، أو بعضها.
في اختياري للنماذج من شخصيات اعمال محفوظ كان لدي نسيجا واسعا يضع الفرد في حيرة عند الاختيار من بينها. فالشخصيات في الروايات الملحمية تتضمن محورا للسلطة الأبوية المطلقة كما مثلها السيد احمد عبد الجواد في الثلاثية، وعاشور الناجي في الحرافيش، والجد في قلب الليل، والجبلاوي في أولاد حارتنا، ثم هناك الشخصيات المحورية التي يرتكز إليها محفوظ في بناء السؤال الوجودي ويعبر بها عن أسئلة الإنسان أمام وجوده مثل كمال عبد الجواد في الثلاثية، وجعفر الراوي في قلب الليل، وعيسى وجدي في ميرامار وسواهم.
أنوثة خصبة
تأتي النماذج الأنثوية في أعمال محفوظ، لتعبر عن الخصوبة الكبيرة التي تتمتع بها من حيث الدلالات التي تقدمها، فهي مزيج بين نموذج المرأة التقليدي للأم كما أمينة في الثلاثية، ورادوبيس الغانية التي تمتلك الإرادة والقوة والسحر، وبين زينات في الحرافيش التي تنتقل بين دورها كعشيقة غير رسمية تقبل بالصدق مع النفس على حساب كل الأعراف والتقاليد حيث تقبل بالحياة بلا زواج مع جلال أحد فتوات الحرافيش، لكنها حين تكتشف خيانته لها تنتقم منه وتقتله مسموما، وزينب دياب في الكرنك، التي تقدم نموذج الفتاة الوطنية القادمة من طبقة شعبية لكنها تنجذب لأفكار اليسار وتعاني من الصراع بين التقاليد من جهة والأفكار التقدمية من جهة أخرى. وبطلة ميرامار “زهرة” الفتاة القادمة من الريف التي تصارع بين القيم التقليدية وقيم المدينة التي تعيش بها.
لكن كيف يمكن التعامل مع هذه الشخصيات في نص ما بعد حداثي؟ فكرت في إعادة إحيائها والتحاور معها من جديد، لكني أحسست أن هذا سيكون متوقعا، من القاريء نوعا ما، وبتحقيقه سأكون قد تحيزت للكلاسيكي أيضا. وهكذا فكرت في استدعاء مجتزءات من أحداث أعمال محفوظ من جهة، والسير قدما ببعضها بوضعها في مواضع سردية مختلفة وجديدة كما شأن رادوبيس التي رحلت مع بطل “أبناء الجبلاوي”: كبرياء؛ في رحلة اسطورية كان الهدف منها البحث عن أعمال محفوظ الضائعة، بينما في الجانب الخفي من النص تبدو الرحلة رحلة للبحث عن القيم الروحية المصرية المفقودة بفعل الاستعمار وطمس الهوية التي تعرضت له مصر على أيدي الفاتحين العرب، ثم على أيدي التخلف والأمية وأموال النفط العربية التي لعبت دورا في تلويث العقل المصري بأفكار رجعية متخلفة نرى اليوم آثارها حولنا في كل مكان وبامتياز.
أردت في اختيارنماذج السلطة الأبوية السعي لكسر هذه السلطة كشرط للوصول إلى روح مصر، عبر نموذج الأب الافتراضي لكبرياء الذي يستوي مع عاشور الناجي مثلا بأنه لقيط، أو نموذج لشخص بلا أب، ومقارنة الجد رفيق كأب متحرر، بلا سلطة مركزية، له نواحي ضعفه ومظاهر الإنسانية مقارنة مع الجد في جعفر الراوي أو السيد احمد عبد الجواد، وكلاهما نموذجان للسلطة الأبوية المطلقة بكل ما يحيلان إليه من رمز للتسلط والديكتاتورية باسم الأبوة. والقيم المزدوجة التي يقدمها هذا الدور الأبوي بين صورة الأب الصارم أمام أبناءه وأمام المجتمع الرسمي، ودور الرجل اللعوب صاحب المزاج زير النساء، في السر.
وكان المقابل المهم في رأيي هو دور المرأة التي تجهر بما تقوم به حتى لو كان هو العهر لكنها لا تقدم للمجتمع إلا صورتها الحقيقية، مقدمة ثورة في مفهوم مختلف للشرف والعهر، وهو مثلا دور كل من رادوبيس وزينات وصورتها النقيض ممثلة في شخصية حميدة بطلة زقاق المدق التي خرجت من ثوبها لكي تعيش الحياة التي أرادت أن تعيشها عبر الصور المستلهمة من حيوات الطبقات العليا كما وصلت إليها.
نموذج حميدة وتناولها النقدي من بين الموضوعات التي تعد عندي نموذجا بائسا للنقد المصري في تأويل اعمال محفوظ، فمصر في ظني لا يمكن أن تماثل حميدة الساقطة اجتماعيا التي خرجت من طبقتها وبيئتها لتعيش “صورة” مزيفة، كما أنها ليست أمينة أيضا وهذا ما اشرت إليه على لسان كبرياء في ابناء الجبلاوي.
لكن اهم ما يمكن تأمله في نصوص محفوظ وتجربته الروائية بشكل عام هو ذلك الحس الليبرالي العام، التعددية، والروح الديمقراطية والتسامح الذي يجسد في الحقيقة روح مصر كما بناها محفوظ في أعماله، وكما تشير الدكتورة داليا سعودي أن محفوظ باختياره كتابة الرواية في ذروة عصر الشعر ودفاعه عن هذا الجنس الأدبي الذي حقره العقاد في ذلك الوقت، بمقولة المساواة بين الأجناس الأدبية هي أول دعوة لتحقيق ما تسميه ديمقراطية الأدب.
مرايانا التاريخية
وأختتم بمقولة الدكتورة سعودي النافذة عن محفوظ قائلة: ” ستبقى أعمال نجيب محفوظ مرايا تاريخنا الحي.مرايا سحرية تعكس ملامح حياتنا الاجتماعية والسياسية، في غلالة من الفن الجميل، لتسلم إلينا “الحقيقة ناصعة هبة للمتأملين”. مرايا عجيبة سترى فيها وجه حضارتنا و هي ترتدي كافة الأقنعة و تركض في كل الاتجاهات.سترى وسط الزحام لصوصاً تطارد كلابا وكلاباً تطارد أبرياء. سيملؤك مرآها فزعاً و رهبة. ففيها يشير أديبنا بإصبعه إلى عالمنا كاشفاً فيه عن مطاوي الخلل.و بقلم يقطر إدانةً لفساد الذمم و الظلم و الجبن و الخيانة و الانتهازية، يكاد يصرخ فينا مثل طنطاوي إسماعيل، مجنون رواية “المرايا”: “نحن في حاجة إلى طوفان جديد لتمضي السفينة بقلة الفضلاء ليعيدوا خلق العالم من جديد”.و ستظل لسنوات بعد القراءة، كلما قلبت وجهك في الوجوه و الأحداث، تطاردك نفس الصرخة الثورية الملتاثة: “الطوفان ..الطوفان.. الطوفان“!