سامح قاسم
من بين الأصوات الأدبية اللافتة في الأدب العربي المعاصر، تبدو نجوى بركات كصوتٍ يسير في طريق خاص، لا يشبه أحدًا ولا يرغب في التشابه. منذ بداياتها، كانت الكتابة لديها أشبه بتمرين طويل على الصدق، وعلى مواجهة الذات في لحظة عريها الكامل. تنظر إلى الأدب لا كوسيلة للكشف، إنما كطريقة لفهم ما يُستعصى على البوح به. خرجت من بيروت إلى باريس في لحظة مضطربة، درست السينما، واشتغلت بالإخراج، ثم أدركت أن العالم الذي يمكن أن تلتقطه الكاميرا لا يكتمل إلا بالكلمة. ومنذ تلك اللحظة، صار السرد عندها تجربة طويلة، تمتد من ذاتها نحو الإنسان في عمومه، نحو ما يتكرر فينا من خوف وشوق ووحدة وارتياب.
في كتاباتها، تتحرك اللغة ككائن حيّ، له نفس وإيقاع وتعب. لا تكتب لتروي الحكاية، إنما لتمنحها وعياً. كل جملة لديها تبدو كأنها تتذكر شيئًا غامضًا، وكل شخصية تحمل ظلّاً لا يفارقها. في رواياتها، تتجاور الحكايات الشخصية مع النظر بعمق إلى الإنسان، ويختلط الواقع بالهذيان. هذا التداخل ليس لعبة فنية، إنما بحث عن منطقة لا تُختزل في الشكل، تتجاوز إلى ما هو أعمق: كيف نعيش في عالم فقد معناه، وكيف نُعيد لأنفسنا معنى جديدًا من بين شظايا الخراب.
في روايتها “يا سلام”، كتبت عن إنسانٍ يعود إلى ذاكرته كمن يعود إلى ساحةٍ مهجورة. هناك تتجسد الأصوات القديمة، وتتكاثر الصور التي لا تهدأ. في هذه الرواية تتقدم اللغة بخطى متأنية، خالية من الزخرف، لكنها مشحونة بما يكفي لتفتح بابًا نحو الغموض. لا يمكن قراءة “يا سلام” كحكاية عن شخص واحد، هي عن الكائن الذي يسكننا جميعًا، عن ذلك الجزء الذي لا يتوقف عن طرح السؤال القديم: كيف نستمر بعد أن فقدنا ما يمنح الاستمرار معنى؟
ثم جاءت روايتها “مستر نون” لتضعها في موقع مختلف تمامًا. الرواية تحكي عن كاتب يعتزل العالم في ديرٍ جبليّ، ليكتب عن الحرب الأهلية اللبنانية. يظن أنه يهرب من العالم ليكتب عنه، لكنه يجد نفسه أمام مرآة ماضية، لا ترحم. في هذا العمل، يصبح السكوت بطلًا من نوع آخر. في هذه الرواية، أرادت نجوى بركات أن تكنت عن الكتابة، عن لحظة يكتشف الكاتب أنه حين يكتب عن الآخرين فهو في الحقيقة يكتب عن نفسه.”
كل شيء في الرواية يدور حول هذا الاكتشاف. اللغة تتقشف، الشخصيات تتآكل، الزمن يتداخل، كأن كل جدارٍ في الدير يروي ذكرى أليمة، لم تخفت بعد.
نجوى بركات لا تبحث عن البطولة في شخصياتها. أبطالها يسيرون في الحكاية كما يسير الناس في الحياة، بلا يقين، بلا ضوء واضح في نهاية الطريق. تعتني باللحظة الصغيرة التي يكشف فيها الإنسان ضعفه، وتتركه يتكلم دون أن تتدخل لتمنحه الخلاص. هذا ما يمنح كتابتها تلك النبرة الهادئة التي تشبه نَفَسًا متهدّجًا من التعب، نَفَسًا يقول كل شيء دون أن يرفع صوته.
حين نقرأ “لغة السرّ”، نجد أنفسنا أمام كتابة تعيد النظر إلى العلاقة بين الإيمان والذنب، وبين العزلة والوجود. في هذه الرواية، تتحول اللغة إلى مساحة من الألم، دون نداء أو شكوى. العبارات قصيرة، متقشفة، لكنها تمسّ الجوهر. كأنها تريد أن تقول إن الكلام الكثير لا يضيء الطريق، وأن ما يُنقذنا في النهاية هو الإصغاء العميق لما لا نستطيع البوح به.
في روايتها “غيبة مي” تبدأ من لحظة غياب، من اختفاء امرأة اسمها مي، لا أحد يعرف مصيرها. البحث عنها يتحول إلى بحث عن الذات، عن المعنى، عن ما يتبقى من الإنسان حين يغيب عن نفسه. من خلال هذا البناء، تنسج الكاتبة نصًا يتجاوز الحكاية الظاهرة، ليصبح تجربة في مواجهة العدم الإنساني.
لغة الرواية مشوبة بالهدوء الذي يسبق البكاء. كل كلمة محسوبة، وكل مشهد محمّل بما يمكن أن يقرأ بين السطور. الشخصيات تسير ببطء، كأنها تمشي داخل ضبابٍ لا ينقشع. القارئ يجد نفسه في منطقة بين الحياة والموت، بين الحضور والغياب، في زمنٍ ينساب دون بداية أو نهاية.
ما يجعل “غيبة مي” عملاً خاصًا هو هذا التوازن بين البساطة والشجن. لا شيء في الرواية يُصرّح به بشكل مباشر، وكل ما يحدث يمرّ عبر لغة خافتة، كأنها تهمس في أذن القارئ. حتى الألم لا يحتاج إلى أنين، ربما يحتاج إلى أن يُشار إليه بخفة. في هذا الاقتصاد اللغوي يكمن جمال الرواية، إذ تجعل كل جملة كأنها أثر على جدار مُهدم.
تبدو “غيبة مي” أيضًا نصًا عن الكتابة نفسها. فحين تبحث الراوية عن مي، تبدو كأنها تكتب عنها كي تُعيدها إلى الوجود، لتجعلها حاضرة في اللغة بعدما غابت عن العالم. الكتابة هنا ليست استعادة لما فات، إنما خلق لحضور جديد. في هذا يتقاطع النص مع تجربة نجوى بركات الشخصية، ومع فهمها للكتابة كفعل وعي، لا كحكاية ترويها.
الغياب في الرواية لا يحمل نغمة الحزن فقط، وإنما يحمل نوعًا من الصفاء، كأن مي التي غابت لم تُفقد، إنما عبرت إلى منطقةٍ أخرى من الوعي، وأخذت الكاتبة معها. من يقرأ هذا النص يشعر أن الكاتبة تودّع شخصًا وتستقبل آخر في الوقت نفسه، وأن الغياب ليس خسارة، إنما شكل من أشكال التحوّل، أو شكل من أشكال النجاة.
من خلال “غيبة مي”، تؤكد نجوى بركات مكانتها ككاتبة تبحث عن الجمال في الهدوء، وعن المعنى في الفراغ، وعن الحقيقة في الغموض. هي تكتب بروحٍ متصالحة مع المجهول، وتدرك أن الإجابات الكاملة لا تليق بالإنسان. لذلك تظل كل رواية جديدة لها امتدادًا لتلك اليقظة التي لا تنتهي، يقظة القلب أمام كل ما هو غامض، ويقظة الروح أمام كل ما هو مُؤلم.
ومن خلال شخصياتها التي تعيش في الظل، تكشف نجوى بركات عن جوهر التجربة الإنسانية في صورتها العارية، تلك التي تملك فقط مواجهة مصيرها بحزن مُتزن.
ما يميز نجوى بركات عن كثير من كتاب جيلها هو إحساسها العميق بضرورة اللغة. في جملها توازن بين البساطة والعمق، وبين الهدوء والقلق. لا تميل إلى الزخرفة، ولا إلى الإيقاع العالي، إنما تترك النص يتقدم بحرية، كما لو كان يتكوّن في اللحظة التي نقرؤه فيها. هذا الهدوء الظاهر يخفي وراءه توترًا خفيًا، يجعل القارئ يقف عند كل عبارة، ويعيد قراءتها كأنه يسمع صوتًا آخر يتكلم خلف الكلمات.
تعيش نجوى بركات في لغتها أكثر مما تعيش خارجها. تنسج من الكلمات عالمًا لا يُشبه أيّ عالمٍ آخر. فهي لا ترى نفسها كمن يمتلك جوابًا، إنما كمن يجرّب أن يرى ما وراء الجواب. لذلك تبدو كتاباتها مفتوحة، لا تنغلق على تفسيرٍ محدد. كل رواية تبدأ كاحتمال، ثم تسير في اتجاهٍ غير متوقع، كما لو أن النص يكتب نفسه دون خطة مسبقة.
في تجربة نجوى بركات، لا نجد الفاصل التقليدي بين الكاتب والنص. حياتها تمتد داخل كتابتها، وكتاباتها تمتد داخل حياتها. من هنا يمكن فهم مشروعها الثقافي “محترف كيف تكتب رواية” الذي أطلقته في بيروت. لم يكن هذا المشروع مجرد ورشة لتعليم تقنيات السرد، بل مساحة لإعادة تعريف معنى الكتابة نفسها. كأنها تؤمن أن كل إنسان يحمل في قلبه نصًا ينتظر أن يُكتَب، وأن ما يحتاجه هو الإنصات إلى صوته الخاص. كثير من الكتاب الشباب الذين شاركوا في هذا المحترف صاروا لاحقًا أصواتًا روائية مستقلة، تحمل بصمتها الخاصة.
نجوى بركات من الكاتبات القادرات على تحويل التجربة الشخصية إلى رؤية إنسانية. كل ما عاشته من عزلات وأسفار وقلق يتحول في نصوصها إلى مادة ناعمة، خالية من الشكوى، مفعمة بالفهم.
تمنح القارئ فرصة للتفكير في ذاته، دون أن تفرض عليه فكرة جاهزة. كتاباتها لا تبحث عن إقناع، ربما تبحث عن ملامسة شيء ما يتخفى وراء الغموض. من يقرأها يخرج من نصها مختلفًا، كأنه عاد من منطقةٍ لم يكن يعرف وجودها قبل القراءة.
ما تصنعه نجوى بركات لا يمكن حصره في إطار الرواية فقط، هو مشروع في فهم العالم من خلال اللغة. تكتب عن الحرب والحب والموت كأنها تكتب عن وجوهٍ تتبدل في المرآة. في كل عمل جديد، تتقدّم خطوة إضافية في تفكيك الإنسان، في جعله يرى ضعفه دون خوف. ومن خلال هذا الضعف تفتح أمامه بابًا نحو فهمٍ أعمق للحياة.
إنها لا تطرح إجابات، ولا تدّعي الحكمة. تكتب لأنها ما زالت تبحث، وما زالت تؤمن أن الجواب الحقيقي يتشكل مع كل كتابة جديدة. لذلك تبقى نجوى بركات واحدة من تلك الأصوات النادرة التي تجعل الأدب عودةً إلى الجوهر، لا إلى الزخرف، وتجعل الكلمة مرآةً للإنسان في لحظة وعيه العميق بذاته.





