نتشابه جميعاً في الليالي المظلمة (1)

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

سارة عابدين

“ونصبح ذكريات مجرد ذكريات.. مجرد غنوة حلوة من ضمن الأغنيات”

بليغ حمدي

 

“هذا هو ليوناردو كما كان يبدو للناس أمّا ذاك الآخر، الخفيّ، فقد كان مجهولًا إلى حدّ كبير، وعلينا أن نستشفه في الحزن الغامض في لوحاته، في الابتسامات الغامضة والشّيطانيّة إلى حد ما لنسائهِ وقدّيسيه، في الازدراءِ العميقِ الذي يُستَشفّ من بعض تعليقاته في مُذكّراته حول الرجال والتّجمعات الدنيويّة لا بدّ أنّه شعرَ غير مرّة بما شعرَ به سورين كيركغارد، نفسه في إحدى الليالي عندما برزت في تفكيره الرّغبة في الانتحار حينما كان عائدًا من إحدى الحفلات   أيّهما يكون وجهه الحقيقي في العزلة يا ترى؟ يُمكننا أن نشكّ بأنّ فيه شيئًا مُروّعًا ومَأساويّ؛ لأنّنا دائمًا نرتدي الأقنعة، قناعًا مختلفًا لكلّ دور من الأدوارِ المُوكلة إلينا في الحياة: دورُ الأب المُبَجَّل، أو دور العاشِق السّريّ، أو دور الأستاذ الجادّ، أو دور الوغد المُرتشي! لكن، ما هي تعابير الوجهِ التي تبقى عندما -في النهاية- نخلعُ آخر قناعٍ ارتديناه، عندما لا أحد، لا أحد على الإطلاق يُحدّق فينا، يُطالبنا، يُخيفنا أو يُهاجِمنا؟!

تبرير ورفض

إرنستو ساباتو

 

 

(1)

منذ سنوات وأنا أتمنى لو أغلق حياتي بمفتاح وأرمي المفتاح في النهر حتى لا يمكنني استعادة تلك الحياة من جديد، لكنني كنت موقنة وقتها أن الأمر لا يعدو رغبة تنتفض داخلي من آن لآخر فأتركها تتنفس ببوست عن الرغبات الموءودة والأمنيات المهدرة، أو بنص أكتب فيه عن السجن الذي اخترت أن أحيا فيه لسنوات، فككت السجن إلى غرف وأثاث وستائر، رصصت بداخله الأواني، وعلقت الملابس داخل الدواليب، لونت غرفة الأطفال واخترت كتبي المفضلة وسميت السجن “بيت” لكنني لم أشعر به بيتا أبدا، منذ سنوات وأنا أجهض أمنياتي، وأغلق على نفسي بالمفتاح، وأقول “فقدت المفتاح ولم يعد الهروب ممكنا”. المفتاح كأنه يسمعني، ويغادر خطوة خطوة، في البداية ترك لي أثره أملا في أن أستعيده، لكن الأثر فقد تدريجيا عندما توقفت أنا عن محاولات الوصول، شاهدت المسلسلات التركية، وقطعت أعواد الفاصوليا الخضراء، ورصصت الملابس بترتيب أمي على حبال الغسيل، أرضعت الصغيرات حولين وأكثر حتى تهدل ثدياي، وغيرت الحفاضات، وتابعت مشرفات الحضانات والباصات وتنقلت بين عيادات الأطباء، طبخت الأرز والملوخية ووضعت الدجاجات في الفرن، خزنت الألوان واللوحات في أماكن بعيدة عن عيوني وقلبي ورغم ذلك لم أستطع التخلي عن فرادتي المنتفضة بداخلي، أقول لطبيبي فرادتي هي نعيمي ولعنتي، هي حاستي التي لا يعرفها غيري، ودليلي الذي اقتفى أثر المفتاح الهارب منذ سنوات، وقنبلتي التي فجرتها في وجه العالم، فرادتي هي سلاحي الذي أقاتل به الحياة.

وحدتي الأثيرة الآن، هي عذابي الأول في الماضي. “طفلة صغيرة تتألم” هي الجملة التي تصفني تماما كما عرفت نفسي في طفولتي. ربما تظن أمي أنني ابنة جاحدة، أو تعتقد بناتي أنني أم متسلطة. أستطيع تحمل كل شيء، في مقابل أن أكشف جروحي للشمس والهواء لتجف وتلتئم.

أنا كل هؤلاء النساء؛ المتألمات، السعيدات، الفرحات. أنا الأم والابنة والزوجة والحبيبة، المرأة المقهورة والخائفة والمراقبة والمهددة، الضعيفة والمتسلطة. أخشى أن أفقد نفسي، أكتب لأعرف نفسي ولأنني أظن أنني قادرة وراغبة في القول.

أكتب لأستعيد كل الرفض والمقارنات لصالح الآخرين، وأضعها أمامي بخط بولد عريـــــــض وأسود وضخم، أصرخ وأبكي وأتشاجر لأن الطفلة داخلي مازالت تتألم، تعرف أنها لا تستحق شيئا على الإطلاق، بينما أنا الآن أعرف أنها تستحق كل شيء. أكتب لأقول لها إنها تستحق. أريدها أن تسمعني، فأكرر لها بصوت مسموع وهادئ أنها تستحق. أقول لها “والله تستحقين”.

 

 

 

مقالات من نفس القسم

يتبعهم الغاوون
موقع الكتابة

نصوص