أحمد علي عكة
يقول فولتير: السر في كونك شخصا مثيرا للملل، هو أنك تقول كل شئ، أظن هذه المقولة تنطبق إلى حد كبير على الكتابة الروائية ، فلو قدم الكاتب للقارئ كل شئ هذا ماسيجعل القارئ يصاب بالملل ولايستطيع استكمال قراءة النص الروائي الذي بين يديه.
أما عن رواية ” ناصية باتا ” لحسن عبد الموجود، فقد قرأتها في جلسة واحدة لم أترك الرواية إلا مع نهايتها، أظن أن السبب في ذلك يرجع إلى أسلوب الكاتب المتميز الذي لايعطيك كل شئ ، فتجده في البداية يحدثك عن مؤسسة دون أن يحدد لك أي مؤسسة هو يقصد، ليجعل كل قارئ يتصورها كما يشاء.
أعتقد أن المؤسسة التي يقصدها عبد الموجود في روايته ماهي إلا صورة مصغرة لوطن كبير، وطن يعيش فيه أفراده ليس كما يريدون بل كما تريد السلطة، فمدير المؤسسة يمثل دولة القمع، فهو يرى التاريخ على طريقته وليس كماهو وهذا هو مايفعله أي حاكم مستبد يحاول كتابة التاريخ كما يراه هو وليس كما يراه كتاب التاريخ، كما أن هذا المدير لايقبل النقد أوالاختلاف أو المعارضة فنراه يقلب رقعة الشطرنج حين يحصل طانيوس على الدور، لالشئ إلا لأنه يرفض الهزيمة ولايتقبل الآخر.
إذا كان هناك من يقمع فلابد أن يكون هناك من يقبل هذا القمع، فلو أن أي مستبد وجد من يقف أمامه لما كان تمادى في استبداده، نحن من نصنع العجل ثم نعبده، لذلك ظهرت شخصية طانيوس التي أظنها أهم شخصية في الرواية، لأن طانيوس دائم النقد الشديد لنفسه، فيرى أن بابه ليس طيبة بل جبن، كما انه لم يواجه المدير ولو لمرة واحدة طوال فترة العمل الطويلة بينهما، كما انه أخبرنا بأن المدير صديقه ، رغم أن العلاقة كانت قهرية وقمعية لاعلاقة صداقة أو ندية.
السلطة القمعية بالنسبة لطانيوس لم تكن فقط في المدير بل نراها أيضا في الآباء الذين نادى عليهم بأسمائهم فلم يردوا، هذا ماجعله يبكي بشدة وهو لايعلم لماذا ؟، رغم أن هذا البكاء يظهر سببه جليا وهو شعوره بالقمع والقهر، بكائه دليل على جبنه وخوفه من المواجهة أو بمعنى آخر خوفه من الصدام مع السطة أيا كانت هذه السلطة، سواء كانت سلطة المدير أو النظام أو رجال الدين أو سلطة المجتمع القمعي والقهري الذي لم يجعله حتى يتزوج رغم سنه الكبير.
لم يكن طانيوس هو الوحيد الذي يتعرض للقمع بين شخصيات الرواية، فنرى تعرض قاسم لقمع السلطة الأبوية حيث أن أباه أجبره على أن ينضم إلى جماعة التبليغ والدعوة، والتي عرضها الكاتب بطريقة رائعة وكأنه كان فردا من أفراد هذه الجماعة في يوم من الأيام، رغم أن هذا ليس على رغبته نهائيا.
ويمتد القمع للشخصيات الآخرى، فنرى بيكاسو يقمع من خلال المجتمع الذي يرى أن مايقدمه من تماثيل ماهو إلا عمل حرام سيدخل بسببه النار، ونرى امتثاله للقمع لدرجة انه حين قال له شيخ بأن صناعة التماثيل ليست حرام لكن عليك أن تترك فيها شيئا لم يكتمل، فكانت هذه القشة التي انقذته من فتاوى الشيوخ الذين حرموا له عمل التماثيل لأن الله سيقول له يوم القيامة انفخ فيها الروح.
ونرى تمساح يتعرض للقهر وللقمع، لكن من خلال لقمة العيش حيث انه يتعامل من خلال عمله على مركب في النيل مع شواذ من جنسيات مختلفة، فالحاجة للعمل تجعله يحاول الخروج من المأزق دون أن يتسبب ذلك في طرده من العمل ، كما فعل مع صديقه الشاذ في الصغر والذي أصابه في رأسه إصابة بالغة ، ماجعله يأتي إلى المؤسسة.
يستمر القمع مع شخصيات الرواية حتى الثانوية منها فنرى شيخ المسجد، تمارس عليه مؤسسة آخرى، ضغوط كبيرة بل وتعتقله لفترات متباعدة لأنه كثيرا يخرج عن النص الذي وضعه النظام كخطوط حمراء، وقد ظهر الشيخ من خلال حكاية سرقة السيفون انه لاينتفض ويثور في وجه القمع والقهر، لاقتناعه بهذا بل انه يفعل هذا من أجل المظهرية، وأن يظهر في أعين أهل القرية بالبطل الذي يواجه قمع السلطة.
تسير كل الشخصيات في طريق لم تختاره هي بل فرض عليها، ويظهر هذا أكثر من خلال علاقاتهم النسائية، فقاسم يقيم علاقة مع رانيا رغم الاختلاف بينهما في كل ، واحساسه دائما بعدم التوافق، وبيكاسو يقيم علاقة مع كاندي الأمريكية فلايستطيع أن يأخذها إلى عالمه القروي ولاتستطيع هي أن تأخذه إلى عالمها المنفتح أكثر من اللازم،حتى تمساح فانه كان يقيم علاقات مع طوب الأرض من النساء السائحات إلى أن الشواذ جنسيا كانوا يحاولون الايقاع به.
من الأشياء التي لفتت انتباهي في الرواية هي اللغة، فهناك أكثر من مستوى في اللغة ، فستوى اللغة في المؤسسة يختلف عن مستوى اللغة بين جماعة التبليغ والدعوة ، كما يختلف عن اللغة في القرية ، فلقد عبر الكاتب ببراعة عن كل عالم باللغة التي تناسبه، وهذا التنوع يكسب النص مصداقية متخيلة، ويجعل القارئ بعيدا كل البعد عن حالة الملل والرتابة التي قد تصيبه حين يقرأ نصوص آخرى.
في النهاية اشكر الروائي حسن عبد الموجود على هذا النص الذي استمتعت به كثيرا حين قرأته ، وانتظر منه نصوصا جديدة لاتقل عن هذا النص، بل أظن أنها ستكون أفضل.