نابليون بونابرت في معرض الكتاب

ashraf al sabbagh
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أشرف الصباغ

فاجأتني زوجتي جالسا خلف المكتب في حالة غضب وارتباك وحيرة. رأيتُ ملامحي تنعكس في عينيها وكأنني خضتُ للتو معركة شديدة الوطأة، غير متكافئة، خرجتُ منها جريحا بجسد مثخن بالطعنات، وبكرامة مهلهلة يكللها الإذلال والمهانة، يسيل منها الكسوف والخجل.

عادة ما تسألني، على الفور حين تراني في هذه الحالة، عن سبب احمرار وجهي وبروز العروق في رقبتي، وتقترب مني قبل أن تلقي بحقيبتها على أقرب مقعد، وتدفع بالحذاء بحركة بهلوانية من قدمها ليطير بعيد مصطدما بأي شيء يقابله. تجلس أمامي على المكتب، أو على ركبتيَّ أو تستند بجذعها إلى كتفي ووجهي، ثم تواصل إلقاء أسئلتها عن حالي، ومن اتصل بي، وماذا حدث، وما الذي أوصلني إلى هذه الحالة.

لم تلق زوجتي بحقيبتها على أقرب مقعد. ولم تخلع حذاءها. أزاحت الإيشارب الأزرق الذي أحبه من فوق رأسها وألقت به ناحيتي، حررت ضفيرتيها الطويلتين الضخمتين وهي تهز رأسها كأنها أنزلت للتو عنه قفة بطاطس أو مشنة طماطم. أطلقت ضحكة طويلة صاخبة لم تنته إلا وهي تجلس أمامي على المكتب متربعة، بعد أن قفزت قفزة بهلوانية كعادتها عندما تريد أن تقول لي، إنني شِخْتُ ولم أعد أنهض من وراء المكتب لاستقبالها ومداعبتها. راحت تخلع حذاءها وهي تردد كلمات متقطعة مثل طفلة جاءت من الشارع راكضة وهي تحمل حكايات وطرائف ترغب بحكيها دفعة واحدة قبل أن تنساها.

نظرت في عينيَّ سألتني ضاحكة: “هل تتذكر مسرحية الواد سيد الشغال؟”. ابتسمتُ وهززتُ رأسي مؤكدا. سألتْ مرة أخرى: “هل تذكر مشهد الأطباق التي هشَّمَها عادل إمام وكانت ممهورة بتوقيع نابليون بونابرت؟؟”. ضحكتُ وقلت: “طبعا”.

كنا قد تناولنا هذا المشهد، في مناسبات مختلفة، بالنقاش والتحليل أكثر من مرة، ومن أكثر من زاوية. لم نختلف أبدا على قيمته الكوميدية الساخرة، وعمق المفارقة التي تكشف الكثير من العوار في المجتمع. عند هذا الحد كانت المفاهيم وطرق التلقي تفترق. فأنا كنتُ أتوقف عند حدود الكوميديا والسخرية، وأن المفارقة درامية بامتياز تثير الضحك وتكشف ليس فقط عن هشاشة الأطباق التي وقعها نابليون بونابرت، بل عن انحطاط الكوميديا واتجاهها إلى الضحالة والضآلة والتسفيه”. أما هي، فكانت تمصمص شفتيها في أسى وتقول: “كان من الضروري أن يهب لينين الرملي وعادل إمام حياتهما الفنية لبعضهما البعض من أجل إنجاز مشروع جدير بأن يعيش إلى الأبد ليس فقط في وجدان الناس، بل وأيضا في أدبيات المسرح وفن الأداء. هل تتصور عادل إمام وهو يؤدي أي عمل من أعمال لينين الرملي، هل تتصور عندما يلتقي العقل المبدع مع القدرات الفنية والوجدانية والذكاء الفطري؟”.

زوجتي تعتبر أن مشهد تهشم الأطباق الممهورة بتوقيع نابليون بونابرت، أحد أهم المشاهد في الدراما المصرية. وهي عادة ما تبالغ عندما يعجبها مشهد أو تروق لها مفارقة اجتماعية وتاريخية تنقلب إلى “مسخرة”.

قالت زوجتي إنها عاشت اليوم أحد أهم أيامها المليئة بالدهشة. لم تتوقف المفاجآت منذ خروجها في الصباح الباكر حتى وصولها إلى معرض الكتاب. لكن المفاجأة الكبرى كانت في انتظارها، ما أطار عقلها ومسح كل المفاجآت الصغيرة التي قابلتها في المواصلات، وما شاهدته من طرائف، سواء داخل الباص من الركاب، أو خارجه من المواطنين المترجلين أو سائقي سيارات التاكسي والملاكي والباعة الجائلين والكائنات التي تتقافز مثل القرود أثناء عبور الشوارع الخالية من إشارات المرور وطرق المشاة.

أثارت فضولي لدرجة أنني نسيت ما حدث في المكالمة الهاتفية بيني وبين أختي، وما تبادلناه من زعيق وصراخ على أمور لا تخصنا أصلا، وإنما تتعلق بأشخاص آخرين يلقون بكلمة أو جملة ثم يرحلون، ويتركوننا نكسر رؤوسنا في تفسير وتحليل ما قالوه وما فعلوه.. اشخاص يشعرونك دوما بأنك لم تقم بما يجب القيام به، أو أنك لا تهتم بهم كما ينبغي، ولا تشعر بما يشعرون به، أو يكلفونك بأمور ويطلبون منك أشياء، ثم ينسونك وينسون ما قالوه وطلبوه، ليعيشوا حياتهم بشكل طبيعي، بينما أنت تفسر وتحلل وتخشى أن تخطئ أو تظهر كإنسان مُقَصِّر لم يقم بواجبه ولم يفعل ما كان يجب أن يفعله.

زال غضبي تدريجيا أمام عينيها المشتعلتين برغبة الحكي ولهفتها على إفراغ دهشتها، أو بالأحرى، أمام شفتيها الشهيتين ورائحة جسدها التي تملأ فضاء الغرفة وتخترق حاجز الصبر والتوازن الجنسي عندي. ففي لحظات مثل هذه، عندما تكون جالسة أمامي متربعة وضفيرتيها تزينان المشهد حول وجهها وتصنعان تناقضا بصريا مذهلا ومثيرا، وجذعها مع صدرها البارز يتحركان في انسيابية عجيبة، تارة مع بعضهما البعض، وتارة عكس بعضهما البعض، تتراجع كل المهام والأفكار والحكايات، والدهشة نفسها، وتهيمن الرغبة في أجمل تجلياتها. عانيتُ بعض الشيء في استعادة توازني والتزام الهدوء، وأخفيت رغبتي المشتعلة في ابتسامة وقورة، وسألتها: “ماذا حدث؟”. فانطلقت تحكي وتمثل وتقلد في آن معا…..

ماذا يعني أن يترك كاتب أو كاتبة أعمالهما مُوَقَّعّة في جناح دار النشر بمعرض الكتاب؟ في أي شيء تفكر دار النشر؟ في أي شيء يفكر الكاتب، وماذا يريد أن يقول لنا أو ينقل إلينا؟ هل يرى الكاتب أنه نجيب محفوظ أو تولستوي مثلا؟ وهل ترى الكاتبة في نفسها روح سفيتلانا ألكسييفيتش أو آني إرنو؟ ماذا يعني ذلك بالضبط، أن يرسل الكاتب أو الكاتبة كتبهما ممهورة بتوقيعيهما الكريمين، ويتم رضها على أرفف أو في أشكال هرمية، أو على الطاولات، من أجل جحافل القراء الذين سيتجمهرون ويتزاحمون على شرائها بتوقيع الكاتب أو الكاتبة؟ بينما دار النشر نفسها تعلن بفجر وكبرياء وشمم أن الكاتب أرسل أعماله بتوقيعه، وهي تنتظر القراء والجماهير لفض أغوارها والوصول إلى مكامن الوعي والحكمة، والاطلاع على تجارب الآخرين وعوالمهم الثرية التي تفيض مشاعر وأحاسيس ووجدانا..

تضحك زوجتي وتكمل…

هل هذا التوقيع سيسمح للقارئ بأن يذهب إلى البنك لتسييله إلى أموال، أو على الأقل سيغني ويثري ما هو مكتوب في داخل الكتاب؟ ماذا يمكن أن يضيف كتاب مُوَقَّع إلى الكتابة نفسها؟ الواد سيد الشغال سبق وأن شرح الموقف باستفاضة عندما تساءل في عفوية واستغراب: “هو نابليون بونابرت ساب الحملة الفرنسية والإنجليز وفريزر والمماليك وقعد يوقَّع على أطباق؟”. وقفتُ أمام أحد الإعلانات على باب جناح ضخم وتساءلتُ: ماذا يعني أن يجلس الكاتب طوال الليل أو يقضي نهاره في توقيع كتبه في البيت أو على المقهى أو في بدروم محترم بدار النشر، ثم يرصونها في كراتين وقفف ومشنات وينقلونها إلى معرض الكتاب لتزين العرس الثقافي والحضاري؟ ماذا يضيف توقيع الكاتب، وما هو سحره على جحافل وملايين القراء الذي يتزاحمون على امتلاك كتابه الممهور بتوقيعه؟ وما هي القيمة التي يمنحنا ويمنح الأدب والتاريخ إياها، وهو من المفترض أنه وضع أفكاره وحكاياته وشخوصه في داخل الكتاب؟

توقفتْ قليلا، ثم انفجرت ضاحكة واستأنفت حديثها..

عندما كنتُ أتجول في أحد الأجنحة، فوجئتُ برجل محترم ضخم الجثة حليق الذقن يرتدي ملابس فخمة يقترب مني، معرفا نفسه بأنه صاحب دار النشر. أشار إلى أحد الأرفف وقال في أهمية وخطورة “لا تزال هناك فرصة لاقتناء كتاب موقع. هذا الرف مخصص للنسخ التي قام الكاتب بتوقيعها بنفسه”. ثم أشار إلى هناك في المقابل حيث توجد ثلاثة أرفف ضخمة، وقال: “وهذه الأرف مخصصة للنسخ التي قام كبار كتابنا بتوقيعها منذ ما قبل بداية المعرض، حتى يتمكن القراء من اقتناء النسخ التي يرغبون باقتنائها. إن هذه فرصة ذهبية لا يمكن تعويضها في ظل الزحام الشديد على القراءة، واقتناء الكتب الموقعة من كتابها”. ثم نظر نحوي وملامحه تحمل تحذيرات كما لو أن حربا نووية ستنشب في الحال ومن الواجب أن آخذ حذري وأرتدي المعطف الواقي من الحروب النووية، وقال: “أرجو أن تدركِ، حضرتكِ، خطورة اللحظة وأهميتها. فالكتب الموقعة ليست رفاهية، وليست مجرد كتب عابرة كبقية الكتب غير الموقعة. إنها لا تشكل ثروة أدبية وروحية في المستقبل فحسب، بل تعكس أيضا مدى التقدم والرقي اللذين أصبناهما على طريق المعرفة واحترام الذات. فالكاتب والكاتبة وصلا إلى أعلى مراحل إعلاء قيمة الكلمة وتربعا على قمة احترام الإنسان بشكل عام، والقارئ بشكل خاص، ومن ثم اقتطعا جزءا من وقتهما الإبداعي الثمين ليوقعا هذه النسخ إكراما للقارئ وإعزازا للكتاب وللكلمة وللثقافة. أرجو أن تعذريني على هذا التطفل، ولكنني رأيتُ أن من واجبي المهني والإنساني أن أنبهك إلى ضرورة اقتناء الكتاب في أسرع وقت ممكن، لأن الزحام شديد وقد لا يسعفك الوقت لعمل ذلك. فأنا أعرف مئات الأشخاص الذين ظلوا يعانون من ندم شديد الوطأة بسبب عدم اقتنائهم نسخ من الكتب التي وقعها مؤلفوها. وتسبب ذلك في أنهم ظلوا طوال حياتهم يعانون من أمراض مستعصية بدأت بكوابيس وعد انتظام التنفس وضيق الحلق والصدر”.

ظل الرجل يلح علىَّ لدرجة أنني ظننتُ أنها طريقة جديدة للتحرش. لكنني كنتُ مخطئة. فالرجل كان وقورا ومحترما ويرتدي ثيابا لطيفة تذكرني بصور زوج خالتي الذي كان يعمل محصلا في ترام “شبرا- السيدة زينب” في سبعينيات القرن العشرين. لم أستطع التخلص منه إلا بعد أن اشتريتُ نسخة لكاتبة جديدة لديها حوالي سبعة ملايين متابع على الفيسبووك، ويحضر ندواتها ليس أقل من مئتي شخص جلوسا، وسبعمئة وقوفا في الشوارع والحواري المجاور، يتابعون سير أعمال الندوة والنقاشات عبر شاشات ضخمة.

لا أدري كيف تمكن الملعون من إقناعي بشراء نسخة أخرى لكاتب مشهور للغاية استطاع أن يحطم الرقم القياسي لعدد الحضور والمشاركين في الندوات الأدبية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وجبال التبت. كان توقيعه جميلا ومنمقا يعكس ذوقا رفيعا وقدرة على الإمساك بالقلم بطريقة مبتكرة لرسم الحروف كما لو كانت وشما سريا ساحرا. في النهاية، خرجتُ من هذا الجناح بخمسة كتب ممهورة بتوقيع مؤلفيها. وفي طريق الخروج، فوجئت بامرأة راقية تضع قدرا لا بأس به من المساحق والألوان على وجهها، ترتدي ثيابا شتوية عليها معطف من الفرو البني الثقيل ونظارة شمسية، بينما تزين معصميها بكمية ضخمة من الأساور والخلاخيل الفضية والنحاسية. حتى هذه اللحظة، لم أكن أعرف أن الخلاخيل يمكن أن تزين معاصم النساء وليس أرجلهن فقط. نظرتْ إلىَّ نظرة ساحرة، وابتسمت ابتسامة خلابة للغاية، وقالت إنها صاحبة دار النشر، ودعتني بكبرياء وسموق إلى جناحها لاقتناء آخر صيحة من الكتب الموقعة التي خرجت حالا من المطابع وسط هتافات جماهير القراء وانتظارهم وصبرهم الطويلين. وراحت تشير إلى أحد الرفوف: “هذا الرف حريمي يناسب الفتيات من سن عشرين إلى تسعة وعشرين عاما. ولكن يمكن أيضا للسيدات فوق الثلاثين أن يقتنين هذه النسخ أيضا.. هئ هئ هئ… أما الرف الثاني من اليمين، فهو رجالي يناسب الذكور ما بين ثمانية عشر وسبعة وعشرين عاما. وفجأة أطلقت ضحكة غريبة تشبه النقيق وغطى الخجل وجهها فزادت حدة اللون الأحمر وطغت على ألوان المساحيق المتراكمة التي اختلطت وتداخلت مع بعضها البعض بشكل لطيف للغاية حتى بدا وجهها يشبه التوقيع الحريمي المائل قليلا نحو اليسار.

وقبل أن تدعوني لاقتناء الكتب، قررتُ أن أضحي من تلقاء نفسي بدلا من المناهدة واستعراض المعلومات القيمة عن الكاتب والكاتبة وشكل توقيعهما، وكيف حصل كل منهما على دورات داخل مصر وخارجها في فن كتابة التوقيعات، ودورات أخرى في فن اختيار الألوان المناسبة للتوقيع مع لون الغلاف أو مع لون قميص الكاتب أو معطف الكاتبة. وخرجتُ من جناح هذه المرأة بكتابين أحدهما حريمي والثاني رجالي. وعندما صاح بي صبي لطيف يقف في آخر جناح قبل باب الخروج، التفتُ إليه في فزع وقلت له، إنني اشتريت سبعة كتب موقعة وكرتونة صابون وخمس بكرات من ورق التواليت المزدوج. راح الصبي يصيح بكلمات كثيرة متداخلة وهو يشوِّح بذراعيه. تناهت إلى سمعي عدة كلمات من قبيل أن “الكتب التي لدينا ليست للقراءة فقط….  لدينا كتب يمكن استخدامها للقلي… وأخرى لتنظيف الأسنان بعد الأكل… وووو”. لكنني كنتُ قد خرجت إلى الهواء الطلق، وتوجهت إلى أقرب بائع كشري لأتناول وجبة سريعة وأفكر فيما جرى لي في داخل صالة المعرض..

كنتُ أكتم ضحكاتي طوال الوقت، خوفا من أن تظن زوجتي أنني أسخر من كلامها أو أستهين بتساؤلاتها. لكنني قاطعتها مازحا: “هل تتذكرين تمثال الكاتب المصري؟”. فأشارت ضاحكة نحو التمثال الجالس متربعا بكتابه المفتوح على ركبتيه، على أحد الأرفف بهدوء وحكمة ورصانة ينظر في الفضاء اللازوردي، وقالت: “لماذا أتذكره وهو جالس هناك على الرف منذ سنوات؟”. قلتُ لها: “هل رأيتِ نفس هذا الكاتب في أي نقش أو على أي جدار أو في أي شكل أو وضع آخرين غير هذا الوضع؟”. أجابت بأنها رأت نقوشا وجداريات أخرى عليها شخوص يكتبون ويرسمون وينقشون، غالبيتهم مجهولون أو يشار إليهم بأنهم كهنة أو صبيان للكهنة، وربما يكونوا تلاميذ يؤدون أعمالا كتابية لم يبرز أي منهم لكي يصل إلى درجة الحكمة ويجلس إلى جوار الكاتب المتربع. ضحكتُ وقلت لها: “هذا الكاتب هو رئيس الكتاب وممثلهم الشرعي والوحيد وروح الحاكم ابن الإله. أما الباقون فهم أعضاء أخوية الكتاب المتحدين الذين يكتبون باسم الحق والخير والعدل والفضيلة تحت إشراف الكهنة من أجل إعلاء قيم الخير والجمال ووحدانية الحاكم ابن الإله وعدله وجبروته وقدرته اللانهائية”.

قالت لي ضاحكة: “أنت نسيتَ أن تذكر حب الشعب له وعبادته إياه”. فسألتها: “الكاتب؟”. قالت: “لا. الحاكم ابن الإله”. قلتُ لها في جدية، إن الأمر لا يتعلق بالكاتب نفسه، وإنما بدار النشر وعمليات التسويق. والغرب، كما تعرفين، ليس عنده أي قيم روحية أو إنسانية، ولذلك كان نابليون يوقع على الأطباق ليكشف لنا مدى سقوط وانهيار حضارتهم المادية الفارغة، بينما يوقع كتابنا على الكتب للتأكيد على عمق وعينا وحكمتنا وتفوقنا الروحي والإنساني. وعموما، فحفلات التوقيع، وما تم استحداثه من بيع الكتاب بتوقيع الكاتب، تقليد قديم في الأدبين المصري والعربي بدأ مع أبو حيان التوحيدي ثم الجرجاني والجاحظ حتى وصل إلى أديب الشباب محمود عبد الرازق عفيفي والأديب العالمي محمد علي سعد الدين الأبنوسي، وانتقل بحكم التطور والتقدم إلى الأجيال الجديدة التي تقود قاطرة الأدب للخروج بها إلى بر الأمان ومنافسة الأفلام والمسلسلات الإغريقية والمكسيكية والهندية.

صمتتْ قليلا ثم انفجرت ضاحكة. وطلبت مني أن أتحدث بجدية. قلتُ لها، إن الكاتب معذور. هل رأيتِ كاتبا لا يحب المدح أو الإطراء، بصرف النظر عما يكتب؟ هل تتخيلين مدى فرحة الكاتب وسعادته عندما يرى اسمه على الكتاب، ويتأمل توقيعه على الصفحة الأولى، ويتخيل فرحة الناس بجمال توقيعه الذي يزين صدر الأدب وواجهة التاريخ؟

أمسكتُ فجأة بنهديها وقلتُ مبتسما: “هذا هو الصدر الحقيقي للأدب، هيا بنا لنسطر عليه التاريخ بقبلات من نور”. أزاحت يديَّ في دلال وهي تتراجع إلى الخلف قائلة: “يا سافل”. ثم قالت في جدية: “ربما أكون متطرفة بعض الشيء وربما يكون عقلي قاصرا عن إدراك أهمية أن يرسل الكاتب كتبه موقعة في كراتين وقفف للعرض. وإذا كان نابليون نفسه قد ترك الحملة الفرنسية والأسطول البريطاني والمماليك والمغول والهكسوس وجلس يوقع على الأطباق، فأنا أحترم الكاتب والكاتبة اللذين خصصا وقتهما الثمين لتوقيع كتبهما التي قد تعرض بعد مئات السنين إلى جانب أطباق وملاعق وأحذية وكيلوتات نابليون بونابرت”.

شعرتُ ببعض الانفعال في صوتها. فقررتُ التخفيف عنها قليلا. أحطتها بذراعي، وهمستُ لها: “دعي التاريخ يقول كلمته. أنتِ تعرفين مصير نابليون. وأنا أُفَضِّل أن يكون لدينا مئات وآلاف النابليونات والنابليونين. تخيلي أن يحصل كل كاتب على لقب نابليون، ويسير هكذا في عظمة وإباء وشمم متقلدا كتابه المفتوح على الصفحة الأولى المزينة بتوقيعه المجيد! إنه أدق تعبير عما وصلنا إليه من علم توقيع الأطباق والملاعق في مرحلة حرجة من تاريخنا”. ورحتُ أقلد عادل إمام وهو يتساءل في دهشة: “يعني نابليون بونابرت ساب الحملة الفرنسية والإنجليز والمماليك وقعد يمضي على الأطباق؟”. ردت الملعونة وهي تقفز مرة أخرى فوق سطح المكتب وقالت: “أيوه نابليون بونابرت قعد يمضي الكتاب ونسي إنه مش كاتب حاجة جواه”، ثم نهضت واقفة وراحت ترقص وتغني: “.. نابليون بونابرت وقَّع الطبق، دلق المسقعة على فستان جوزفين والبتنجان نط في صدرها”.

شعرتُ بقلق غامض. نهضتُ من خلف المكتب تحسبا لأي تصرف جديد غير متوقع. توقفت فجأة عن الرقص وراحت تنظر نحوي بعينين تتراقص فيهما ظلال غريبة، ثم قفزت من فوق المكتب وتعلقت برقبتي. وراحت تحكي من جديد….

.. ومع ذلك كان هناك من يقاوم هذا العبث. في صالة أخرى، وجدتُ حشدا من القراء يتزاحم على حضور إحدى الندوات. والكاتب الشاب يجلس في تواضع جم مرتديا زيا رسميا وكوفية حمراء تصنع مشهدا بصريا رائعا مع رابطة عنقه البنفسجية المزينة ببطء أصفر وأخضر وتيركواز، ويبدو أنه نسي أن يخلع معطفه الشتوي الثقيل فراح العرق يتصبب من وجهه ويتقاطر في حبات خفيفة رقيقة على كتابه الضخم، والجمهور يصفق له بشكل جنوني.. كان يتحدث بارتباك واضح ودهشة حقيقية.. رفع يده في هدوء وقال بنفس التواضع الجم: “إننا نعيش في عصر التزييف الإعلامي والسيولة الفكرية والمعلوماتية.. لقد انقضى عصر أدب المقاومة والالتزام والفضيلة واللغة الرصينة، وجاء عصر الانحلال والسطحية وضآلة الإنسان.. نحن غارقون جميعا في الثقافة التافهة، ولغة الإغواء والرذيلة والتعبيرات المبهمة والكوابيس والأحلام المحرمة… لكنني والحمد لله، نجحت في الإفلات من السقوط، وصرت أول كاتب في مصر والعالم العربي، وربما في العالم كله، يوازن بين الشكل والمضمون ويضبط إيقاع اللغة للتعبير عن مكامن النفس البشرية ومعاناة البسطاء تحت ضربات الظلم والطغيان، حتى وصلتُ إلى هذا المستوى من الإبداع… فهل من الطبيعي أن يرى القراء العاديون أن رواياتي أفضل بكثير من روايات نجيب محفوظ وتولستوي وكتاب اليابان وأمريكا اللاتينية وكندا وأستراليا، بينما النقاد يرونها ضعيفة؟!”.. ضجت القاعة بكلمات الاستنكار، وراح الجمهور يصفق في جنون ويرفع الكتاب الضخم مؤكدا للكاتب أنه وراءه، وراح يغني بصوت جماعي: “لن تسير وحدك… ترلم.. ترلملم.. ترالالا.. “. قالت فتاة، تقف إلى جواري، لصديقها الذي يبدو أنه لا يدري ماذا يدور أصلا: “لماذا كل هذا الغضب والدهشة.. أليس من الوارد أن يكون القراء حميرا مثل الكاتب؟!”. رد عليها صديقها ضاحكا: “أنا لا أعرف ماذا يجري هناك. لكنني أتذكر الآن ذلك الرجل الذي راح يحزق ويصيح على صفحته في الفيسبووك لإقناع متابعيه بأن رأيه صحيح للغاية بدليل أن أحد العلماء الكبار يتفق معه تماما في تفسيره الروحي لظاهرة الاحتباس الحراري. فرد أحد متابعيه في عفوية شديدة: عادي جدا، من الممكن أن يكون هو أيضا حمار”. غرقت الفتاة في الضحك، واحتضنت صديقها، وابتعدا عن المكان.

غرقنا في نوبة ضحك. واكتشفت أن زوجتي لا تزال متعلقة برقبتي. أنزلتها في رفق وضممتها إلى صدري. سألتها ضاحكا عن الكتب النابليونية التي اقتنتها. رفعت رأسها ونظرتْ إلىَّ مجددا بعينين مندهشتين، ثم قالت في هدوء غريب وهي تتنفس في ارتياح: “نسيتهم عند بتاع الكشري”.

 

اقرأ أيضاً:

أشرف الصباغ.. ملف خاص

مقالات من نفس القسم

art
تراب الحكايات
موقع الكتابة

مطر دبي

عبد الرحمن أقريش
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

لالة عيشة