مُعجَمُ المَوْتِ في ديوَانِ: “مجرَّة النِّهايَات” للشَّاعر شريف رزق

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 78
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. محمد زيدان

يُشكِّلُ المُعجَمُ في الخِطابِ الشِّعريِّ ، وَجْهًا مُهِمًّا منْ أوْجُهِ تلاحُمِ البيئَةِ الدّلاليَّةِ وَالمَعنويَّةِ منْ جِهَةٍ ، وَمنْ جهةٍ أخرى يُشكِّلُ وَجْهًا منْ أوجِهِ تلاحُمِ البيئَةِ الشَّكليَّةِ ، وَبهِمَا يحدُثُ انْسِجَامُ الخِطابِ الشِّعريِّ ؛ الَّذي يُعَدُّ هدفًا منْ أهْدَافِ وجودِ هَذَا الخِطَابِ ؛ لأنَّ الانسجامَ في هَذينِ الوَجْهينِ ، يُعطِي لِلْخِطابِ الشِّعريِّ ضَرورَةَ بقائِهِ ، كَنَسَقٍ لُغَويٍّ يَحْتَفِظُ لنفسِهِ وَلأدائِهِ ، بوظيفَةٍ توصِيليَّةٍ على مُسْتَوى اللغَةِ ، وَوَظَائِف أخْرَى تَتَّصِلُ بضَرورَةِ وجودِهِ ؛ مِنْهَا الوَظيفَةُ الجَمَاليَّةُ ؛ الَّتي تَظْهَرُ في البنَاءَاتِ الجَديدَةِ على مُسْتَوَى الشَّكلِ اللغويِّ ، بدايَةً منْ المَادةِ الأولى:"الصَّوتِ" ، وَمرورًا بِالمَقْطَعِ ، وَبِالكلِمَةِ ، وَبالتَّركِيبِ اللغويِّ ، وَأيضًا على مُسْتَوى تَضَامِ البنَي الدّلاليَّةِ ؛ الَّتي تُشكِّلُ انسَاقَ وجودِهَا منْ خِلالِ التَّركِيبِ الدّلالي لوضْعِ اللغَةِ ، وَذَلكَ في الرَّمزِ وَالصُّورَةِ البَلاغيَّةِ وَالصُّورَةِ الشِّعريَّةِ ، وَالحقولِ الدّلاليَّةِ المُشَكِّلَةِ منْ تلاحُمِ وَحَداتِ التَّراكِيبِ ، وَمنْ هُنَا فإنَّ الكلمَةَ بِاعْتبَارِهَا الوحْدَةَ المُعْجَميَّةَ الأولى ؛ الَّتي تُعطِي وَظيفَةً شِعريَّةً مُتَكَامِلَةً هِيَ مَنَاطُ هذِهِ الدِّراسَةِ ، وَتُطْرَحُ هُنَا مِنْ خِلالِ مَظْهرِهَا النَّحويِّ المَقوليِّ ، الَّذي تَسْتَمِدُّ منْهُ قُدْرَتَهَا على التَّفاعُلِ مَعَ عَنَاصِر الجُمْلَةِ الأخْرَى ، وَهِيَ مَهْمَا كَانَتْ بسيطَةً ، أوْ مُرَكَّبَةً ، أوْ مُعَقَّدَةً ، فَهِيَ مَجْموعَةٌ مِنْ عناصِرَ عِدَّةٍ وَلَيْسَتْ مُجَرَّدَ كلمَة في المُعْجَمِ.(1)

كَمَا تُعطِي الكلمَةُ أيضًا أمْدَاءً دلاليَّةً ، تَتَحَدَّدُ بطبيعَةِ تَجَاورِهَا مَعَ غيرِهَا مِنْ العَنَاصِرِ في النَّصِّ ؛ لِتَطْرَحَ رُؤيتَهَا منْ خِلالِ النَّسقِ الدّلاليِّ العَامِ ، ثمَّ منْ خِلالِ النَّسقِ الدّلاليِّ الخَاصِّ بالتَّركيبِ ، ثمَّ منْ خِلالِ النَّسقِ الدّلاليِّ الخَاصِّ بوجودِهَا ، كوحْدَةٍ مُعْجميَّةٍ تَتَحَقَّقُ منطقيَّتُهَا بتحقُّقِ وَضْعيَّتِهَا في اللغَةِ .

أوَّلاً : المَوْتُ وَالنَّسَقُ الدَّلاليُّ العَامُ :

تُشَدِّدُ الدَّلالةُ العامَّةُ للمَوْتِ على  مَعْنَى زَوَالِ الحَيَاةِ عَنْ الكائنِ الحَيِّ ، وَالمَوتُ أيضًا هو الخَوفُ وَالذُّعرُ وَالحَزْنُ وَالأحْوَالُ الشَّاقةُ ، قالَ تَعَالى : “وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ “: إبراهيم ، آية 17 ، وَمَاتَ الشَّيءُ : هَمَدَ وَسَكَنَ ، وَللمَوتِ دَلالاتٌ لونيَّةٌ ، مِنْهَا : الْمَوْتُ الأَبْيَضُ ؛ وَهُوَ : زَوَالُ الْحَيَاةِ عَنِ الكَائِنِ طَبِيعِيّاً ؛ أيّ : الْمَوْتُ الطَّبِيعِيُّ ، وَالْمَوْتُ الأَحْمَرُ ؛ وَهُوَ زَوَالُ الْحَيَاةِ قَتْلاً ، وَالْمَوْتُ الأَسْوَدُ ؛ وَهُوَ زَوَالُ الْحَيَاةِ خَنْقًا(2) ، وَللمَوْتِ في نُصُوصِ: “مَجَرَّةِ النِّهايَاتِ ” تجليات متنوعة ، ويقومُ بناءُ الدَّلالاتِ فيها على عِدَّةِ أسسٍ فنيَّةٍ ، تُشَكِّلُ الإطارَ العَامَ لِمُجْمَلِ المَعْنَى ، وَهَذِهِ الأسُسُ هِيَ :

1-  الاعْتِمَادُ على حَرَكَةِ الذَّاتِ في النَّصِّ .

2-  اسْتخدَامُ التَّضَاداتِ غيرِ المَنْطِقيَّةِ ” الحُرَّةِ ” .

3-  التَّناصُّ المُعْتَمِدُ على رُؤى خَاصَّةٍ .

4-  اسْتِخْدَامُ إطارِ المَوْتِ كأسَاسٍ عامٍّ لِمَنْطِقِ الدّلالةِ .

فمنْ الدِّيوَانِ خمسٌ وَعشْرونَ صَفْحَةً مُمْتلِئَةً(3) ، مِنْ بينَ تِسعٍ وَسِتِّينَ صَفْحَةً ، تُمثِّلُ الدّيوَانَ ، جَاءَ تمثيلُ الوَحَدَاتِ الَّتي تُشِيرُ إلى مُعْجَمِ المَوْتِ ، بنسبَةِ “25% “، وَهذِهِ النِّسبَةُ تَسْتقطِبُ حَوْلَهَا دلالاتٍ ، تُعَدُّ مُصَاحِبَةٌ لِمَعْنَى المَوْتِ ، بنسبَةٍ تفوقُ الـ “35 % ” .

فَالألفَاظُ الدَّالَةُ على مَعَانِي المَوْتِ نفسِهَا  = 150 كلِمَةً .

وَالألفَاظُ الدَّالةُ على مَعَاني المَوْتِ في غيرِهَا = 170 كلِمَةً .

وَهُنَا يُمْكِنُ اسْتِقصَاءُ عَدَدٍ منْ دَلالاتِ المَجْمُوعَةِ اللفظيَّةِ الأولى ؛ الَّتي تَتَّصِلُ بِمُعْجَمِ المَوْتِ كَالتَّالِي :

1-      المَوْتُ الدَّالُ على الاكتِمَالِ وَالحَيَاةِ :

 تُؤكِّدُ الرُّؤيةُ الشِّعريَّةُ في خِطَابِ : مَجرَّةِ النِّهايَاتِ ، على عَدَمِ الفَصْلِ بينَ المَوْتِ وَالحَيَاةِ ؛ فَثَمَّةَ مَوْتٌ في الحَيَاةِ ، وَثمَّةَ حَيَاةٌ في المَوْتِ ، وَعَبْرَ هَذَا التَّواشُجِ يَجْعَلُ الشَّاعرُ مِنْ ذاتِهِ وَالآخَرِ ، مِحْوَرًا مِنْ مَحَاورِ طَرْحِ الرُّؤيَةِ الإنسَانيَّةِ للمَعْنَى البعيدِ للمَوْتِ ؛ في مَعَانٍ مُتعدِّدةٍ تتفاعَلُ ، وَيَتَوَاشَجُ فيْهَا طَرْحُ الرُّؤى الصُّوفيَّةُ الخَاصَّةُ بالمَوْتِ مَعَ تطلُّعِ الذَّاتِ الإنسَانيَّةِ ، وَسَعْيِهَا لِلإلمَامِ بالمَعَانِي الكونيَّةِ الكليَّةِ ؛ فنجِدُ الشَّاعرَ يستخدِمُ الإطارَ الأسطوريَّ في هَذَا السِّياقِ في قولِهِ:

 ” جَمِّعْ عِظامَكَ هَذِهِ ، وَاتَّبعنِي ، تَقدَّمْ ، لا تُدمْدِمْ في شِرودِكَ . “(4)

وَهُو مَعْنَى يَتَّصِلُ بالحَيَاةِ ، في إطارِ اسْتِخدَامِ مُفرَدَاتِ المَوْتِ ، وَفي قولِهِ :

           سَنتَّبعُ ارْتِحَالَكِ في دَهَاليزِ

            الفَنَاءِ ، بُدَاةً ، فاتِحِيْنَ ، حَتَّى

             نَصِلَ إلى غِيَابِكِ ، نَازِفيْنَ .” (5)

وَهُنَا يستخدِمُ الشَّاعرُ دَلالةَ المَوْتِ ، لِلْوصولِ إلى الحَيَاةِ أيضًا ، وَهُو مَا يبدو في ألفاظِ  :” بُدَاة ، فاتِحين ” ، كَمَا يُواجِهُ المَوْتَ بِمُعَاناةِ الحَيَاةِ  ، في قولِهِ : ” نَازِفيْنَ ” .

2-      المَوْتُ الدَّالُ على المُفَارَقَةِ ، بينَ حُلْمِ الذَّاتِ وَتَرَدِّي الوَاقِعِ :

 مَا بينَ طُموحِ الذَّاتِ الشَّاعرَةِ إلى بلوغِ أقْصَى تَحقُّقاتِهَا ، وَبينَ تردِّيَاتِ الوَاقِعِ المَعِيشِ ، تَتَشَكَّلُ مجموعَةُ مُفَارَقَاتٍ ، تُجَسِّدُ حالاتٍ مُتعدِّدةٍ لِلمَوْتِ ، بأشْكالٍ مُتعدِّدةٍ ، وَقَدْ تتبدَّى هذِهِ المُفَارقاتُ في وَاقعِ الحُلْمِ ، أوْ في وَاقِعِ الفِعْل ِالحياتيِّ المُتَحقَّقِ ، كَمَا في قولِهِ :

        “  هَكَذَا جَاءَتْ المَرْأةُ الأخْرَى

           وَفَكَّتْ لي ضلوعِي

           فَجَمَعْتُهَا في جُيوبِي

           وَنَثَرْتُهَا في جَحِيمٍ

           وَهَكَذَا جِئْتُ

           لِلْفَرَاغِ الَّذي لا يَنْتَهِي ،

                 ……

             –  جُثَّتي ؟

             ، لَيسْتَ ذي جُثَّتي فيمَا أظنُّ .”             (6)

فَالمقابلَةُ اللغويَّةُ بينَ دلالَةِ المَوْتِ :” فكَّتْ لي ضلوعِي ، الجَحِيم ” ، وبين قوله : ” جِئْتُ ” ، وغيرها منْ الألفاظِ  الدَّالةِ في فَضَاءِ النصِّ ، تُعْطِي دَلالةَ المعجمِ الخَاصِّ لمَعْنَى المَوْتِ ؛ فَقَدْ جَعَلَ الشَّاعرُ ” توافُقَ الإشارَاتِ ” المُعجميَّةِ ، وَتضادَ بعضِهَا وسيلةً فنيَّةً للدَّلالةِ الخاصَّةِ المُرَادةِ (7)، وقدْ يستخدمُ الشَّاعرُ إطارَ المُفَارقَةِ نفسَهُ ، ولكنْ بتوزيعِ المعنى في تراكيبَ ، تُمثِّلُ معانيَ مُستقلَّةً ، يُمكِنُ مُقابلتُهَا ببعضِهَا البعضِ منْ خلالِ طرْحِ رؤيةِ الموتِ ؛ فحركةُ الذَّاتِ الفاعلةِ في المقطعِ السَّابقِ ، والأفعالُ الَّتي تطرحُهَا ؛ تجسِّدُ رُوحَ المُقاومَةِ ، وتُصبحُ وقودَهَا وَدَافِعًا لهَا .

ولكنَّ الانقسامَ الوَاعِي الَّذي يُمارسُهُ الشَّاعرُ بينَ ذاتينِ مُتقابلتينِ ، ومتضادَّتينِ ، وفي الوقتِ نفسِهِ بروحِ المُقاومَةِ ، وأحيانًا بالاسْتِسَلامِ ؛ يجعلُ رؤيةَ المَوْتِ أقرَبَ إلى المَعْنَى المُتَحَقَّقِ منْ مفهومِ حياةِ المَوْتِ ، كَأنَّ الوَاقعَ مَحْضَ أداةٍ منْ أدواتِ دَفْعِ المَوْتِ ، في قولِهِ :

        “  أؤكِّدُ أنَّهَا الطَّلقةُ الَّتي اخترقتْنِي في جُثَّتي الأولى

           أؤكِّدُ أنَّهَا الطَّلقةُ الَّتي بعثرتْنِي

           على الظَّهيرَةِ هَكَذَا ، هَكَذَا

           وَلكنَّني لمْ أكنْ في جَسَدِي الَّذي تهدَّمَ وقتَهَا

 كنتُ أركُضُ في فَضَاءٍ كامِنٍ –

                       لمْ أكنْ في جُثَّتِي

                         مَنْ

                         ؟ . “(8)

كَمَا أنَّ الشَّاعرَ يُضْفِي دلالةَ المَوْتِ على كلِّ الدَّلالاتِ الجُزئيَّةِ تقريبًا ، وهو بهذَا يجعلُ منْ بناءِ الدَّلالةِ العامَّةِ للمَوْتِ ، عُنصرًا مُسيطِرًا على النَّصِّ ، وهذا العُنصرُ غالبًا مَا يطرحُ في تلكَ الجُزئيَّاتِ معانيَ أخْرَى ؛ تتصلُ بالبناءِ العامِّ ، وهو بناءُ المُقابلَةِ الخاصَّةِ بوجودِ الذَّاتِ في مُوَاجَهَةِ المَوتِ المُسيطِرِ على رُوحِ العالمِ ، وهذا بدوره ينعكِسُ على وَضْعِ رمزِ الموتِ نفسِهِ ، فيما يتَّصِلُ بالألفاظِ الَّتي تُشِيرُ فَقَطْ لمعنى الموتِ بنوعيهِ ؛ الحقيقيِّ والرَّمزيِّ ، كَمَا يَدلُّ عليْهَا النَّصُّ التَّالي :

 ” رَأسِي : رَأسُ نخلةٍ ، تشتعِلُ في دِمَائِي ، رَأسِي : شُعلَةٌ

منْ جحيمٍ .

رَأسِي : أيُّهَا الخَرَابُ المُبَجَّلُ ،

…….

كُلُّ قذيفَةٍ تبتغِيكَ ،

…….

كُلَّمَا ارْتكبتْكَ عاصِفَةٌ ترومُ ،

…….

تفذِفُ عينيْكَ في عَرَاءٍ ، وَتمضِي

……..

اخْتَرَقَتْ فَضَاءَ عَينَيْكَ .” (9)

فهذه التَّراكِيبُ المُجتزَأةُ من نصٍّ واحِدٍ ؛ يستخدمُ فيْهَا الشَّاعرُ إطارَ الموتِ المَجَازيِّ ، منْ خِلالِ مُعْجَمٍ يُشيرُ إلى معنى الموتِ في الدِّيوانِ ، وهو بهذِهِ الإشَارَاتِ يُخْرِجُ المَجَازَ مَخَرْجًا جديدًا في إطارِ التَّعبيرِ عنْ شَيءٍ ، وإرادَةِ شَيءٍ آخر ؛ فرأسُهُ تشتعِلُ في الدِّمَاءِ ؛ إشَارَةٌ إلى الموتِ ، وَالجَحِيمُ إشَارَةٌ أخْرَى تَسْتدعِي رؤيَةً مُختلِفَةً ، وَمُتوافِقَةً في آنٍ واحِدٍ ، ويدلُّ الخَرَابُ المُبَجَّلُ على الموتِ ، وَكذلكَ القذيفَةُ ، في إطاريْنِ مُخْتَلِفيْنِ ، وَتدلُّ العَاصِفَةُ ، وَالعَرَاءُ ، في إطارٍ واحِدٍ على الموتِ ، وَهَكَذَا ،

فالرَّمزُ – هُنَا – رمزٌ جُزئيٌّ يختزلُ المَعَانِي المُتَبَاعِدَةَ في إطارِ البنَاءِ العَامِّ للموتِ ، وَيُقيِّدُهَا في بُؤرَةٍ واحِدةٍ ؛ تُمثٍّلُ الرُّؤيةَ العامَّةَ لدلالةِ المُعجَمِ ، وَيَسْحَبُ الشَّاعرُ بهذِهِ السِّياقَاتِ الوَظَائِفَ الخَاصَّةَ للمُعْجميَّةِ ، منْ خِلالِ دورِ المقامِ السِّياقيِّ في تشكيْلِ المَعْنَى .

ثانيًا : المَوْتُ وَالصُّورَةُ الشِّعريَّةُ :

تُشكِّلُ الصُّورَةُ الشِّعريَّةُ مُعادِلاً مَجَازيًّا للرُّؤيَةِ الشِّعريَّةِ ، تُجسِّدُ حالاتُهَا حضُورًا جَمَاليًّا لآفاقِهَا ، عَبْرَ خطابٍ دالٍّ ؛ يُجَسِّدُ حالاتِ الخوَاءِ وَالعَدَمِ وَالنِّهايَاتِ وَالصَّمتِ  ، وَقَدْ أخْرَجَ شريف رزق صُورَةَ الموتِ ، في السِّياقِ الشِّعريِّ ، إخْرَاجًا يَسْتقطِبُ كلَّ دلالاتِهَا الوظيفيَّة منْ ناحيَةٍ ، ودلالاتِهَا التَّركيبيَّة منْ ناحيَةٍ أخْرَى ، وهو بذلكَ يستحِوذُ على مَعْنَى الصُّورَةِ الشِّعريَّةِ منذُ مفهومِهَا الأرسْطِيِّ ؛ مُوجِّهَا عناصِرَ الفِعلِ وَالشَّخصيَّةِ ، وَالسَّردِ ، وَالزَّمَانِ ، وَالمَكَانِ ، وَلا تلعَبُ المُحَسِّنَاتُ البلاغيَّةُ ، بأنواعِهَا ، إلاَّ دورًا بسيطًا . (10)

وَهَذِهِ العَنَاصِرُ مُجتَمِعَة تُشكِّلُ دلالةَ الصُّورَةِ الشِّعريَّةِ ، بالدَّلالةِ العَامَّةِ للموتِ في كلِّ نصوصِ الدِّيوانِ ؛ بحيثُ لمْ يتركْ الشَّاعرُ للعناصِرِ الأخْرَى إلاَّ بناءَاتٍ قليلةً ، وَأمْدَاء أقلّ في الاسْتِحوَاذِ على دَلالاتٍ فرعيَّةٍ .

وَالشَّاعرُ – أيضًا – يستخدِمُ رموزًا مُلحَّةً على دلالةِ الموتِ ، في إطارِ اسْتِخدَامِ الرَّمزِ بصفَةٍ عامَّةٍ ، وَذلكَ منْ خِلالِ حَرَكةِ الذَّاتِ ؛ الَّتي تجعَلُ منْ السَّردِ في النَّصِّ إطَارًا تركيبيًّا وَاحِدًا ؛ تُشكِّلُهُ ” الأنَا ” ، الدَّالةُ على السَّاردِ الفِعْليِّ في النَّصِّ في قولِهِ :

            سَأخرُجُ منْ هذِهِ الجُثَّةِ

         مُتَّجهًا إلى ضَيَاعِي ، قاذفًا بأضْرِحَتِي وَخَلايَايَ ،

         وَأحْشَائِي ؛ لِيعلَمَ القتلى المُسْتريبونَ أنَّهُ خروجِي

         المُسْتَفِيضُ ، إلى البَوَادِي ، سَيَنْتَشِرونَ على الأهِلَّةِ ،

         جَاثِمينَ : أغِثْنَا يَا شَرِيفُ ، وَارْفَعْ هَذِهِ الجُثَّةَ عَنَّا ،

         هَكَذَا ، هَكَذَا ، وَأنَا مَاضٍ إلى سَعِيْرِي  .” (11)

فموضوعُ النَّصِّ يتمثَّلُ في الصِّرَاعِ الحَادِثِ بينَ الذَّاتِ كَمُرْسِلٍ ، وَالذَّاتِ كَمُسْتقِبلٍ في طَرَفٍ ، وبينَ الآخَرِ كَمُسْتقِبلٍ ، وَالوَاقِعِ كَمُرْسِلٍ في طَرَفٍ آخَرٍ ، وَهَذَا الصِّرَاعُ يُلخِّصُهُ الشَّاعرُ في حَرَكةِ الذَّاتِ نَحْوَ ، وَفِرَارًا منْ الموتِ ؛ فحركَةُ نحوَ الموتِ تتمثَّلُ في وَعْيهِ بنفسِهِ ، وَحَرَكَتُهُ فِرَارًا منْ المَوتِ تتمثَّلُ في وَعْيهِ بِالوَاقعِ وَالآخرِ، كأنَّ الشَّاعرَ يطرحُ رؤيَةَ الخُروجِ منْ المَوتِ المَجَازيِّ الجَاثِمِ على الوَاقِعِ في قولِهِ :

  ”    مُتَّجِهًا إلى ضَيَاعِي” ، قَاذِفًا بأضْرِحَتِي وَخَلايَايَ “.

وَيُمْكِنُ تمثيلُ هذِهِ الحركَةِ كالتَّالِي :


 

وَفي هَذَا النَّصِّ يتجلَّى المعنى التَّركيبيُّ في الصُّورَةِ الشِّعريَّةِ ؛ باعْتِبَارِهَا تقومُ على عددٍ منْ المُسْتويَاتِ الدَّلاليَّةِ الخَاصَّةِ بحركَةِ الذَّاتِ ، وَباعْتبارِهَا تقومُ على اسْتِغلالِ إيحَاءٍ كليٍّ ، للموقفِ النَّفسِيِّ وَالإنسَانيِّ للشَّاعرِ، نحوَ تصوُّرِ الموتِ في الذَّاتِ وَفي الوَاقِعِ ، ويظهَرُ هَذَا كالتَّالِي :

1- ” سَأخرُجُ منْ هذِهِ الجُثَّةِ ”  ..  على سَبيلِ الاسْتعارَةِ المَكْنيَّةِ : (الجُثَّة) .

2- ” قاذفًا بأضْرِحَتِي ”   ..     على سَبيلِ الاسْتعارَةِ المَكنيَّةِ : (أضْرِحَتِي) .

3- ” لِيعلَمَ القَتْلِى ”      ..    على سَبيلِ الاسْتعارَةِ التَّصريحيَّةِ : ( القَتْلَى).

4- ” ارْفَعْ هذِه ِالجُثَّةَ عَنَّا ”  ..  على سَبيلِ الاسْتعارَةِ المَكنيَّةِ :  (الجُثَّة).

5- ” وَأنَا مَاضٍ إلى سَعيري ”  .. على سَبيلِ الاسْتعارَةِ التَّصريحيَّةِ : ( سَعِيري).

وَهَذَا الإطارُ البلاغيُّ يجعلُ اسْتِحوَاذَ الصُّورَةِ الكُليَّةِ في النَّصِّ ، على الوَحَدَاتِ المُعجَمِيَّةِ ضَرورَةً بلاغيَّةً منْ ناحيةٍ ، وَضَرورَةً إيحائيَّةً منْ ناحيةٍ أخْرَى ، وَيخدِمُ ، في الوقتِ نفسِهِ ، توجُّهَ الشَّاعرِ نحوَ مُعْجَمٍ شِعريٍّ واحِدٍ ، محدِّدٍ لرُّؤى العَالَمِ ، وَأيضًا اسْتَعَاضَ بِهَذَا الحَقلِ الدّلاليِّ المتآزرِ ، عنْ مُقوِّمَاتٍ أخْرَى ؛ قَدْ تكونُ غائبَةً في مثلِ هذِهِ النُّصوصِ ، وَهِيَ اسْتِعَاضَةٌ مبدِعَةٌ ، خَرَجَتْ إلى الجَديدِ منْ الرُّؤى وَالدَّلالاتِ ، بإنتاجِ خِطَابٍ شِعريٍّ خاصٍّ وَمُبْتَكَرٍ.

 

الهَوَامِش

[1] د. محمَّد رشاد الحمزاوي : ظاهرةُ المُعجميَّة وَسُبُلُهَا إلى الإحَاطَةِ بالخِطابِ الإنسانيِّ والعربيِّ ، المجلس الأعلى للثَّقافة بمصر – 1996- ص: 124 .

[2] راجعْ ، كلمة (موت) ، في مُعجم المَعَاني الجَامِع ، وَالمُعجم الوسِيط  .

[3] لأنَّ هناكَ العديدَ منْ الصَّفحَاتِ في الدِّيوانِ تُرِكَتْ فيْهَا مِسَاحَاتٌ بيضاءُ كثيرَةٌ ، وَهِيَ أيضًا داخِلَةٌ في الإحْصَاءِ .

[4] شريف رزق –  مَجَرَّةُ النِّهايَات –  الطَّبعة الأولى – 1999 – ص: 27  .

[5] الدِّيوان –  ص: 39 .

[6] الدِّيوان – ص ص :49 – 48 .

[7] بيرجيرو- الأسلوبيَّة –  ترجمة : د. مُنذِر العيَّاشِي – مركز الإنماء الحَضَاري ، بحلب –  الطَّبعة  الثَّانية – 1994 –  ص: 124 .

[8] الدِّيوان – ص: 52.

[9] الدِّيوان – ص: 55.

[10] الولِي محمَّد – الصُّورة الشِّعريَّة في الخِطابِ البَلاغِيِّ وَالنَّقديِّ – المركز الثَّقافي العربي بيروت – 1990 – ص: 55 .

[11] الدِّيوان –  ص: 41 .

 

 عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم