محمود خيرالله
لم أفهم ما في أسئلتك من استخفافٍ وعدوانيَّة تجاه “جيل التسعينيات”، رغم أنه مجرد تيار داخل نوع شعري حديث في الثقافة العربية هو قصيدة النثر، فإذا كنت تستخف بهذا الجيل إلى هذا الحد، فلماذا تسألني ـ وأنت محرر ثقافي “مخضرم” ـ عن ما تبقى من تجربة شعرائه، إن لم يكُن دافعك الأول والأخير هو الحاجة الملحة جداً إلى عمل تحقيق صحفي “مقروء” عن أكثر التيارات الشعرية حضوراً وتأثيراً وتناسلاً في الأدب العربي الحديث.
أعرف أن الردَ الجاهزَ هو أنك تتحدث بـ “لسان الشيطان” كونك محرر التحقيق الذي يُفضَّل في أسئلتهِ الاستفزاز، لكنني يا أيها المحرر العزيز لم أفهم التناقض “المُصطَنع” الذي بنيت عليه سؤالك الأول: (ماذا تبقى من جيل التسعينيات.. بعد أن تبعَته على الأقل ثلاثة أجيال شعرية جديدة؟). فمَن الذي قال إن وجود ثلاثة أجيال شعرية جديدة بعد جيل التسعينيات هو أمر ينتقصُ منه أو يلتهم إنجازه لا سمح الله، خصوصاً أن كثيراً من هذه الأجيال لم تخرج بأي قدر عن السمات الجمالية والفنية التي كتب بها شعراء التسعينيات قصائدهم الأولى، وأنت نفسك ربما ألمحت في سؤالك إلى شيء من هذا، خصوصاً في عبارة “تبعَته ثلاثة أجيال”، كأنك ترى هذه الأجيال التابعة زمنياً وقد أصبحت ـ فوق ذلك ـ “أتباعاً” في الطريقة التسعينية للكتابة؟ فإذا كنت تقصد ذلك بالفعل فأين السؤال، لأنك في الحقيقة أجبت وأنت تسأل، فالحقيقة هي أن الأجيال الثلاثة هذه ـ بالذات ـ التي تحاول أنت وضعَها في تناقضٍ مع “جيل التسعينيات” هي أحد أعظم تجليات هذا الجيل، وأكبر دليل على امتدادِه واستمرارهِ وتأثيرهِ الفادح في الأجيال المقبلة.
أما سؤالك الثاني عن “ما الذي أسفر عنه مشروع جيل التسعينيات الشعري؟ وهل سقط أم مازال له تأثيره؟” فلا أعرف كيف يجرؤ أحد على الحديث عن “سقوط” جيل إبداعي بحجم وتأثير جيل التسعينيات، الذي كتب قصائده الأولى ضد الذائقةِ السائدةِ والأعرافِ المستقرةِ والتقاليد البليدةِ والنقادِ المطمئنين، حيث لم يتوقّع أحد من هؤلاء “الحرافيش” ـ كما وصفهم الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي في “مجلة إبداع” عام 1990 ـ أن يكونوا طليعة جيل سيغيّر وجه الشعر العربي.
انظر.. ها هو الحال قد انقلب الآن بعد ثلاثين عاماً وأصبحت هذه القصائد ـ التي كان بعضُها يضربُ “التابو” الجنسي وبعضها يكسر “التابو” السياسي ـ تشكل الثورة الشعرية التي أعادت الشعر العربي إلى قضاياه الإنسانية، كما يفعلُ الشعرُ في كل آداب الأمم الحية، لقد أصبحت “قصيدة النثر” تشكِّل بتأثيرها المتواصل وتناسلها الدائم النصَ الشعري المهيمن على كل الأجيال والشعراء تقريباً، ومن دونهم لا تقوم لأمسيات “معرض القاهرة الدولي للكتاب” قائمة، كما أن بدونهم لن تجد الصحف والمجلات في الوطن العربي من ينشر قصائده على صفحاتها، بعد كل هذا كيف تأتي لتسألني ـ هكذا ببساطةٍ ـ عن سقوط جيل التسعينيات؟؟..
حين تتحدث عن أثر هذا الجيل في الأدب العربي، فالأمر أعقد من “أثر الفراشة” الذي لا يزول، أكبر وأفدح من رفرفةِ جناح ضعيفٍ لفراشة يمكنها أن تصنعَ إعصاراً، دَعْك من أن نجيب محفوظ بجلالة قدره اعترف أنه كتب “أصداء السيرة الذاتية” متأثراً بقصائد جيل التسعينيات النثرية الأولى، وهو ـ بالمناسبة ـ أمرٌ واضحٌ جداً في أسلوبِها المخالف لمُجمل سمات الأدب المحفوظي، ودَعْك من تصدي قصيدة النثر بجمالياتها السردية والسينمائية وإيقاعها غير المُمَوسق لمنجز أجيال من الإنشاد الشعري “التفعيلي” الموزون بما يجعل الشعر مجرد انجازٍ صوتيِّ فارغ، دَعْك من كل هذا وانظر كيف تبدل المنجز الذي كان مسيطراً على الشعر العربي قبل خمسة عقود، كأنه قدَرٌ محتوم على يد جيل التسعينيات وحده، الذي وضع كل طاقاته التعبيرية والجمالية متجددة الشكلِ والأدوات في خدمة الإنسان وقضاياه ومشاعره، ولن أكون مبالغاً في شيء إن قلت إن وجهَ الأدب العربي الحديث كله قد تغيَّر بظهور تجارب جيل التسعينيات الشعرية، وأن تأثيراتِ قصائدهم الجمالية تجلت فيما بعد في كثيرٍ من نتاجات القصة القصيرة والرواية، التي تحصل ـ يا سبحان الله ـ على الكثير من التكريمات والجوائز.