مي التلمساني قاصة وروائية من مصر. ولدت في القاهرة 1965. لها مجموعتان قصصيتان “نحت متكرر” (1995) و”خيانات ذهنية” (1999) وروايتان “دنيازاد” (1997) و”هليوبوليس” (2001). ترجمت روايتها الى ست لغات أوروبية ضمن برنامج “ذاكرة البحر المتوسط” وحصلت على جائزة “آرت مار” من جنوب فرنسا وعلى جائزة الدولة التشجيعية من الحكومة المصرية. صدرت لها عدة أعمال مترجمة عن الفرنسية في مجال السينما والمسرح والأدب منها “المدارس السينمائية الكبرى”، “قراءة المسرح” و”لماذا نقرأ الأدب الكلاسيكي”. تقيم منذ عام 1988 في مدينة مونتريال (كندا) حيث تعد لنيل درجة الدكتوراه من قسم الأدب المقارن عن “صورة الحارة في السينما المصرية”. وتقوم لتدريس مادة تاريخ السينما العالمية لطلاب قسم السينما في جامعة مونتريال. قريبا تصدر الترجمة الفرنسية لروايتها “هليوبوليس” عن اكت سود، وبهذه المناسبة التقت بها “إيلاف” فكان معها هذا الحوار التالي:
* تكتبين القصة القصيرة والرواية منذ ما يزيد عن عشر سنوات، لكنك في تصريحات صحفية سابقة تقولين إن رواياتك تبدأ كقصة قصيرة تنسجين منها عملا روائيا كما هو الحال في “دنيازاد” وفي “هليوبوليس”. هل تعتقدين أنها ظاهرة في مصر الآن؟ وبم تفسرينها؟
أعتقد أن كتاب القصة القصيرة العظام أمثال تشيكوف وموباسان في الغرب، يوسف إدريس ويحيى حقي وزكريا تامر وغيرهم في العالم العربي، كتبوا القصة وهم واعون بحدودها النوعية، حيث الاختزال والتكثيف والحدث البسيط (حتى وان امتد عمرا كاملا في زمن الحكي) هي من العناصر الأساسية اللازمة للقصة القصيرة الكلاسيكية. لكن يظل طول القصة عنصرا غامضا يتسع لكل التأويلات، من قصة قصيرة الى قصة قصيرة جدا الى “نوفيلا” وكلها تقسيمات نوعية لا تهم الكاتب في المقام الأول بقدر ما يهتم بتحليلها النقاد كأداة من أدوات تعريف النص. لو نظرنا للقصة القصيرة التي تنشر في مصر الآن لوجدناها في احد تياراتها تسير على خطى القصة الكلاسيكية وتحاكيها في الأسلوب وفي الهموم العامة. وسنجد مثلا الريف حاضرا كما هو حاضر في أعمال يوسف إدريس وسنجد الطبقة المتوسطة والفقيرة موضوعا هاما يتناوله بعض الكتاب الشباب وتصدر مجموعاتهم القصصية تحت غطاء إيديولوجي سهل شعاره الدفاع عن البسطاء والمهمشين، باعتماد النوع القصصي (المهمش أيضا في تاريخ الأدب) الملائم كنقد الواقع باختصار ودون إطالة. ما يحدث على صعيد آخر في الكتابة الروائية يختلف تماما عن هاجس إيقاظ الوعي الاجتماعي الذي نجده في القصة القصيرة التقليدية. سنجد مثلا كاتبا روائيا مثل منتصر القفاس يكتب قصة قصيرة اقرب الى الفيلم التجريبي، حيث لا شيء يحدث، وحيث تحتل اللغة بحيلها وقدراتها على الإيحاء وشاعريتها المقام الأول كما هو الحال في مجموعته “السرائر”. وسنجد كاتبا آخر مثل مصطفى ذكرى يكتب “تدريبات على الجملة الاعتراضية” وهي مجموعته القصصية الأولى ليقدم تصوره الذهني والفلسفي عن شكل ما من أشكال القص يتم تحييد الحدث فيه لصالح التدريبات اللغوية. وأعني بالحدث هنا الفعل والفاعل، الحدوتة والشخصية معا.
بعض القصص القصيرة التي كتبتها تنتمي لهذا التيار الأخير. أما عن علاقة القصة بالرواية فهي علاقة بسيطة يطلق عليها النقاد صفة “عبر التوعية” كترجمة للمصطلح الفرنسي transgénérique . الرواية التي يكتبها منتصر القفاس ومصطفى ذكرى وغيرهما رواية تقفز على حدود النوع الكلاسيكية باستيعاب شكل القصة القصيرة وبالانفتاح على نماذج الرواية الجديدة في الغرب. وهو ما حدث عند كتابة “دنيازاد” و”هليوبوليس”. كان مشروعي الأول هو كتابة مجموعة قصصية تعتمد على خيوط مشتركة مثل شخصية الطفلة دنيازاد ومثل شخصية الحي القاهري مصر الجديدة هليوبوليس. في وقت لاحق، وبعد كتابة الفقرات والفصول المختلفة، تحدث عملية إعادة كتابة لإدراج هذه النصوص المتصلة المنفصلة في سياق “روائي” يجمع بينهما. في “هليوبوليس” مثلا، كتبت شخصية “الماريونيت” بعد الانتهاء تماما من الكتابة الأولى. هنا الماريونيت تسمح بإدراج النص داخل “لعبة” كبيرة تعلو به عن مجرد وصف المكان او خلق عوالم خاصة للشخصيات الأخرى.
* هل تعتقدين لأن الشكل الروائي الذي يعتمد على المقاطع كما تصفينه في أعمالك وفي أعمال أخرى لكتاب من نفس الجيل، هو مؤشر على كثافة التجربة المطروحة في الرواية أم أنه علامة على نهاية النوع الروائي؟
أعتقد انه شكل من الأشكال الممكنة ولكن تحوله الى “وصفة جاهزة سابقة للتحضير” هو الذي يشكك في شرعيته وانتشاره حاليا. نعم هناك رغبة في التكثيف وهناك رفض لبلاغة الإطناب، ولكن هناك أيضا فكرة ملازمة لفكرة الكثافة وهي التفتيت. على الرغم من أن المعنيين قد يبدوان متناقضين أو متقابلين، إلا أن واقع الكتابة الروائية يجمع بينهما بشكل متميز. تفتيت النص الروائي الى وحدات صغيرة يمكن أن نطلق عليها “مقاطع” بدلا من “فصول” هو عملية لازمة للدخول في عالم الاحتمالات الذي تطرحه الرواية الجديدة: احتمالات تركيب الوعي بشكل مغاير واحتمالات قراءة النص بشكل جديد، إعادة ترتيب المقاطع وفقا لذائقة كل قارئ، وانسحاب الكاتب كمنظم أول للمعنى في النص الى المرتبة الثانية في عملية التواصل والتلقي. أجد هذه الفكرة وهذا المنهج في الكتابة شديد الجاذبية. ربما يكون علامة على نهاية النوع كما تقول، لكن علينا أن نتجنب الميلودراما السهلة – أقصد ميلودراما الفناء! – وننظر للأمر على أنه لعبة جديدة من شأنها ان تسمح للقارئ الجديد – مستهلك الانترنت مثلا – بالدخول الى عالم الأدب بوعي حر وبرغبة حقيقية في المشاركة في النص.
* في سياق الحديث عن “دنيازاد”، روايتك الأولى، التي حصلت عنها مؤخرا على جائزة الدولة التشجيعية (فرع السيرة الذاتية) من الدولة المصرية، كيف تصفينها من حيث النوع، هل هي رواية أم سيرة أم رواية سيرة ذاتية؟ وهل تعتقدين أن الحرص على تحديد وتصنيف العمل الأدبي ضرورة نقدية أم علامة على جمود الفكر النقدي؟
عندما نشرت “دنيازاد” عام 1997 كان علي أن اختار صفة نوعية لإلصاقها بالنص على الغلاف الخارجي. اختار الناشر ووافقت على اختياره أن نطلق عليها “رواية”. المشروع الأول عند كتابتها كان تكوين مجموعة قصص عن الحدث المأساوي الذي كنت أعيشه آنذاك وهو فقد ابنتي لحظة ولادتها. المشروع الثاني عند إعادة الكتابة كان تكوين نص طويل له ثيمة واحدة (الفقد والموت) وراوية أساسية (الأم) وشخصية محورية (دنيازاد الابنة). عندما خرجت الرواية لاقت نجاحا نقديا جعلها تترجم ضمن مشروع “ذاكرة البحر المتوسط” الذي يعنى بترجمة السير الذاتية العربية الى لغات أجنبية. وكنت قد صرحت في حوارات كثيرة ان رواية “دنيازاد” هي جزء من سيرتي الذاتية، الأمر الذي جعل المترجمون في مشروع “ذاكرة البحر المتوسط” (الممول من قبل مؤسسة الثقافة الأوروبية)، يلتفتون لها ويهتمون بنقلها الى لغات أوروبية. هي إذن رواية سيرة ذاتية بُنيت على مقاطع معنونة أقرب للقصة القصيرة بمعنى إمكانية استقلال كل مقطع بذاته بعيدا عن سياق العمل الكلي. هذا رأي الشخصي تأذي شاركني فيه بعض النقاد الذين كتبوا عن الرواية مثل د. علي الراعي، د. صبري حافظ، د. أمينة رشيد ود. ألفت الروبي – كما ترى كلهم من الأكاديميين أو لنقل معظمهم، ومن حق كل ناقد أو أكاديمي أن يستعين بالتصنيفات المتاحة للدخول في عالم النص. الجمود الحقيقي هو أن يتحول التصنيف الى علامة جودة، أو أن يصبح قانونا مفروضا على النص ألا يتجاوزه. هذا الهراء الكلاسيكي لا يعنيني ككاتبة ولا يعني كبار النقاد الخارجين عن التحليل النوعي القاصر.
* لم تحصل روايتك الثانية “هليوبوليس” على نفس التقدير الذي حصلت عليه “دنيازاد: (ترجمة وجوائز). هل المسألة راجعة للصدفة؟ أم لأن “دنيازاد” تخاطب العواطف ونعد بالتالي أكثر سهولة للقارئ العادي؟ أم لأن “هليوبوليس” تتناول أفكارا أكثر تعقيدا وتكاد تخلو من الأحداث؟
مضى على صدور “دنيازاد” الآن نحو خمس سنوات بينما لم يمض على صدور “هليوبوليس” سوى عام ونصف العام. ولكني في كافة الأحوال لست قلقة على مصير الرواية لأنها تصنع لنفسها مسارا يخصها وأكاد لا أتدخل شخصيا في صنعه. “هليوبوليس” ستصدر قريبا بالفرنسية عن دار أكت سود (باريس) وقد ترجمتها الشاعرة الكندية المصرية منى لطيف غطاس التي ترجمت لي أيضا “دنيازاد”. فيما عدا ذلك أتفق معك على اختلاف الروايتين الجذري من حيث التلقي، فقد حظيت “دنيازاد” بتعاطف الكثيرين من القراء العاديين ونجحت فيما فشلت “هليوبوليس” حتى الآن، أي استقطاب جمهور نسوي (من النساء ومن المهتمين بالنقد النسوي على السواء) الذي تعاطف مع الموضوع من ناحية ووجد في شكل الرواية (تعدد الأصوات، الوصف الحيادي للأحداث، علاقة الأم بابنها الصغير الخ) منطلقا يسمح بإدراج النص داخل سياق الكتابة النسوية من ناحية أخرى. قد لا أتفق مع هذا الرأي، لكن الجانب النسوي الواضح نوعا في “دنيازاد” لم يبرز بشكل كاف في “هليوبوليس”. ولكن بالنسبة لي، لا يعني هذا شيئا على الإطلاق. لقد كتبت كل رواية في سياق نفسي وإبداعي خاص ولست مطالبة بتكرار الوصفة الناجحة ولكن على العكس أشعر بضرورة تجاوزها لتجريب وصفات أخرى، مثلا كتابة رواية عن الأشياء وعن الطبقة الوسطى المصرية في حيّ راق من أحياء القاهرة، في تلك اللحظة التاريخية الحاسمة بعد وفاة عبدالناصر حين بدأت تفقد سطوتها وترضخ لقوانين الانفتاح تحت حكم السادات. ومع ذلك لم أكتب نصا اجتماعيا على طريقة نجيب محفوظ عن قيام وسقوط طبقة، لأن وجهة النظر الرئيسية لطفلة في الخامسة ولمجموعة من النساء (الأم، الجدة، العمتان) تظل على هامش التاريخ الرسمي كما هي على هامش الأحداث الجسام التي تشاهدها خلف النوافذ المغلقة.
* تكتبين النقد الأدبي والسينمائي وتقرئين بالإنجليزية والفرنسية وتعدين رسالة دكتوراه حاليا في جامعة مونتريال ولكنك لم تغامري بكتابة إبداعية بتلك اللغة الثانية التي تتقنينها بعد العربية. لماذا؟
بالفرنسية أقيس ذكائي، وبالعربية أقيس النص! على الرغم من صحة هذه الفكرة الى حد بعيد إلا أنني أخاف حقيقة من الكتابة بالفرنسية، ليس فقط لأني تعودت على اللغة الأكاديمية عندما لأكتب بالفرنسية ولكن لأني أخاف من المغامرة، أخاف من أن أفقد قارئا عربيا وأفشل في استقطاب القارئ الفرنسي. لكن لدي مشروع رواية أحلم بكتابته بالفرنسية وسيحتاج لتفرغ تام ليس باستطاعتي الآن توفيره. علي أولا أن أنتهي من أطروحة الدكتوراه عن صورة الحارة في السينما المصرية ثم الانتهاء من مجموعة نصوص شرعت في كتابتها منذ زمن تعتمد على شكل “الخاطرة” أو ما يطلقون عليه أحيانا بالفرنسية aphorisme وقد سبق أن نشرت مجموعة منها تحت عنوان “أكتب لأجرب الموت” في صحيفة عربية، وكان محور هذه المجموعة الكتابة والقراءة. وفي جعبتي مجموعة قصصية جديدة عن علاقة السينما المصرية بالحياة اليومية للناس العاديين، نشرت بعض قصصها في دوريات عربية أيضا. في النهاية، على مشروع الرواية الفرنسية أن ينتظر قليلا حتى تختمر الأفكار في رأسي، وحتى أجد التمويل اللازم الذي يسمح لي بالتفرغ لكتابتها.
…………
*2005