حاورها: أسامة فاروق
في زيارتها الحالية الى مصر، تحاول الكاتبة المصرية المقيمة في كندا، مي التلمساني، جمع وتوثيق تراث عائلتها. لدى مي أرشيف هائل يضم أعمال الإخوة الثلاثة؛ كامل وحسن وعبد القادر التلمساني، وهم من رواد الفن التشكيلي والسينما الواقعية والسينما التسجيلية في مصر والعالم العربي.
تعمل مي حاليا على إنشاء “مؤسسة التلمساني” للحفاظ على هذا الأرشيف ونشره بالعربية والانكليزية، سواء ورقياً أو الكترونياً، وتأمل أن يكون أول إنتاج المؤسسة جمع مقالات كامل التلمساني في الفن التشكيلي ولوحاته ورسومه، أو على الأقل المتاح منها. وفي مرحلة تالية من مراحل النشاط ستتولى أرشفة وتوثيق أعمال طارق التلمساني وأعماله أيضا، وإتاحة كافة الوثائق التي تخص هذه العائلة الفنية للباحثين والدارسين في مجال الفنون والآداب، من خلال مقر المؤسسة في مصر الجديدة.
شاركت مي مؤخراً في معرض تورينو للكتاب، كما صدر لها مجلد يضم رواياتها الثلاث. هنا تتحدث مي لـ”المدن” عن أعمالها ورؤيتها للفن والكتابة وأشياء أخرى.
* شاركتِ في معرض تورينو للكتاب الذي احتفل هذا العام بالأدب العربي، وقلتِ قبل السفر إنك ستتحدثين عن العلاقة بين الكاتب وفكرة الأرض، الوطن، العالم. ما أهم ملامح كلمتك؟ وهل إقامتك في كندا كانت دافعك لاختيار هذه الفكرة بالتحديد؟
– دارت كلمتي حول مفهوم “المواطن المرتحل”، وهي فكرة أعمل على تطويرها منذ العام 2012 عبر مداخلات ومشاركات عدة في مؤتمرات علمية وفي دوائر أدبية سواء في العالم العربي أو في كندا واستراليا وأميركا. الفكرة تقوم ببساطة على مناقشة العلاقة بين الإنسان في عصر الهجرات العالمية وبين وطنه الأم، بينه وبين الوطن البديل أو وطن الهجرة. الارتحال الشبيه بحركة البدو الرحل في الصحراء بات سمة من سمات العصر، ليس فقط بسبب الحروب والأزمات الاقتصادية والقمع السياسي، لكن طلباً للحرية والكرامة الإنسانية. كثير من المهاجرين الجدد من مثقفي العالم تحديداً، يهاجرون سعيا لمساحة أكبر من حرية الفكر والتعبير يفتقدونها في وطنهم الأم. في المقابل، تتحقق لهم تلك الحرية في وطنهم البديل، نظراً لدعم الأقليات المثقفة في تلك الأوطان البديلة، عبر أشكال متنوعة من التضامن والتكاتف الاجتماعي والفكري يسمح بعمل شبكة عابرة للقوميات هدفها المطالبة بالعدالة الإنسانية والحرية لكافة شعوب الأرض.
معرض تورينو احتفل هذا العام بالأدب العربي انطلاقا من تلك الفكرة، فكرة المواطن المرتحل ودوره المتنامي في نشر الوعي بأهمية أن يتحقق العدل على الأرض، بعيدا من الثنائيات المخربة التي تقف عقبة في طريق تفاهم الشعوب، مثل ثنائية نحن وهم، الشرق والغرب، الشمال والجنوب، الخ. هي فكرة مثالية بالأساس، لكن جذورها ضاربة في براغماتية سياسية بحتة تؤسس لدور الأفراد (مثل المثقفين) والجماعات (مثل جماعات المجتمع المدني) في مقاومة قمع وهيمنة الحكومات على مقدرات الشعوب وتحالفاتها المشبوهة التي تؤدي في الأغلب الأعم لاستمرار الصراعات والحروب وصولا لمرحلة الدمار الشامل.
* كيف رصدت تأثير الأدب العربي في المعرض؟ أم أن الأمر لم يتعد فكرة الاحتفاء؟
– كان تركيز المعرض هذا العام على الاحتفال بأسماء بعينها من الكتّاب الذين برز دورهم اجتماعيا في مقاومة القمع السياسي أو الديني، أمثال أهداف سويف وسنان أنطون وياسمينا خضرا والطاهر بن جلون من ناحية، فضلاً عن صحافيين ونشطاء، ورسامي ومؤلفي المجلات والكتب المصورة مثل لينا عبد الله (مدى مصر) وأشرف عبد القدوس (الديمقراطية الآن) وفريق عمل مجلة “توك توك” المصرية من ناحية أخرى. جاء هذا في سياق فتح المجال للحديث عن دور الأدباء في تحريك المجال السياسي وفي إطار انفتاح الكتابة الأدبية على أنواع مختلفة من الكتابة سواء الصحافية أو المصورة. جاء الاحتفاء إذن بالفكر الجديد والمجدد في العالم العربي وليس فقط بالجماليات الأدبية الجديدة في المطلق.
* ترين الارتحال وسيلة لتحرير الفكر من قهر الدولة اليومي وممارسة السياسة من خارج قنوات الممارسة المعهودة.. ومؤخراً شهدت وسائل التواصل خلافاً حول هذه النقطة. البعض يرى أن النضال يصبح لا محل له من الخارج؟
– في اعتقادي أن النضال لا يكون بالأساس إلا من الخارج، من خارج المؤسسات الحكومية، ومن خارج الأيديولوجيات السياسية والعقائدية، ومن خارج الجماعات المنظمة مثل الأحزاب السياسية، وأضيف إلى ذلك من خارج الأوطان أيضاً. فكرتي عن النضال ترتبط بتصور ادوارد سعيد وغرامشي مثلا عن المثقف العضوي، حتى وإن بدا أن تلك الفكرة قد عفا عليها الزمن. أعتقد أن التحرر من كل ما قد يكبل حركة النضال بمعناه الواسع العابر للأطر والثوابت المتعارف عليها هو الحل الأمثل لتحقيق الحرية الفكرية المنشودة، وهي الأداة الأساسية لكل من يريد فعلياً إحداث تغيير في مجتمعه وفي المجتمع الإنساني بوجه عام. الارتحال الفكري هو إذن حركة عابرة للقوميات، متجذرة في مفهوم أخلاقي عام عن ماهية العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، يتضامن فيها من في الداخل مع من في الخارج، بعيداً من الاتفاقيات الدولية والتفاهمات الحكومية التي ثبت فشلها بل وتآمرها ضد مصالح الشعوب.
* رغم تورطك في العمل السياسي بشكل كبير مؤخرا، إلا أن كتاباتك الإبداعية ما زالت بعيدة من عالم السياسية..
– لم أجد بعد الصياغة الأدبية المناسبة للأفكار السياسية التي تدور في ذهني والتي تدفعني للتفكير في أوضاعنا كبشر في عالم تكبله الحكومات والدول وتعاني فيه الشعوب بدرجات متفاوتة من القمع الفكري والديني. ربما تكون روايتي المقبلة عن البيت والوطن هي الأقرب لما أسعى اليوم للتعبير عنه عبر البحث الأكاديمي ووسائل التواصل العام. لكنها ما زالت قيد الاحتمال، وكل ما أرجوه أن تأتي مختلفة عن الروايات السابقة، وأن تسهم في تقديم كتابة مغايرة للسائد.
* كنت تأملين أن تثمر الثورة عن كتابة ثورية في العالم العربي. كيف تقيّمين الكتابة الآن؟ هل حدث ما كنت تأملين فيه؟
– لم نثُر أدبياً بَعد في اعتقادي، ما زال كثيرون مشغولين بثورة على الأرض، تحسن أوضاعنا الحياتية اليومية، ونحتاج لثورة في الخيال لنحقق المعادلة الصعبة في الحياة وفي الأدب. ونحتاج للتحرر من فكرة العمل السياسي المرتبط بمؤسسات حكومية أو مرضي عنها من الحكومة مثل الأحزاب السياسية. كما نحتاج للتحرر من فكرة الكتابة “عن” الثورة، وهو ما آمل أن أصنعه على المستوى الشخصي في كتابتي. كل طموحي الآن هو أن أثور ولو قليلاً على جملتي التقليدية في الروايات الثلاث، وعلى هواجسي عامة في الكتابة، وصولاً إلى نص ثائر على البنى المتوقعة. تحضرني في هذا الإطار محاولات كتاب مثل أحمد عبد اللطيف ومحمد ربيع لتثوير الكتابة، وأراها تستحق التحية والتأمل والمتابعة عن قرب.
* كيف ترين مستقبل الكتابة في مصر بعد حملات التضييق وحبس الكتّاب والمفكرين؟
– لست قلقة فقط على مستقبل الكتابة، بل على مستقبل الفكر والتعبير بصفة عامة. أرى بالطبع في الحاضر والمستقبل القريب أننا نتجه صوب كارثتين تخصان التضييق على الحريات وحبس الكتّاب والصحافيين: الكارثة الأولى هي فشل كافة السبل والوسائل الديموقراطية التي ينهض عليها مجتمع قوي متماسك سياسياً واقتصادياً، فقد تحالفت النخب السياسية والدينية مع نخبة رأس المال ضد الحل الديموقراطي، وهو الحل الأوحد في رأيي لتحقيق الاستقرار المأمول. فلا استقرار في رأيي من دون توازن سياسي بين النخب المشار إليها وعموم الشعب بما في ذلك الأقلية الثورية الصامدة التي يتم سحقها الآن تحت عيوننا. الكارثة الثانية هي استدعاء روح الفاشية الشعبوية لدى الناس والعمل على نشرها وتأكيدها على المستوى العام عبر وسائل الإعلام لتبرير حملات الحبس وقمع الحريات سواء العشوائية أو الممنهجة التي تحدث الآن. إننا نشهد بعيوننا كل يوم انتصاراً لروح الفاشية العامة التي تنمو برعاية الدولة نفسها بين طبقات الشعب وفئاته المختلفة، والتي تبرر القتل والحبس وكبت الحريات بلا أدنى وازع أخلاقي وبلا تفكير متعمق أو تحليل نقدي. قضية الحريات لا تهم النخب المسيطرة على أية حال، والأخطر من ذلك أنها لا تهم عموم الناس، وأرى هنا علاقة واضحة بين نمو الروح الفاشية المحبطة في المجتمع المصري وبين الديكتاتورية الجديدة التي تسعى لترسيخ قواعدها الاجتماعية والسياسية والتي فاقت في شططها سياسات القمع المباركية السابقة.
* مؤخراً صدرت أعمالك الروائية في كتاب واحد. لماذا أقدمت على هذه الخطوة الآن؟
– هناك هدف إجرائي بحت وراء طبع الروايات في طبعة ثانية أو ثالثة في كتاب واحد، حيث أنها لم تعد متوافرة في الأسواق وتكلفة طبعها منفردة عالية. فكرت أيضا أن أطبع كل رواية على حدة في طبعة شعبية منخفضة الثمن مثل طبعات الجيب في الغرب، لكني عدلت عن الفكرة لصعوبة تنفيذها في مصر. من ناحية أخرى، جمع الروايات في كتاب واحد يعطيها حياة جديدة ويسمح للقارئ الحالي أن يقرأ الروايات في تسلسلها الزمني وفي علاقتها ببعضها البعض، كما يتيح للناقد المتخصص أن ينشئ علاقات بين الروايات الثلاث ربما كانت غائبة في القراءات النقدية المنفردة. أما الأمل الحقيقي وراء طبعها معاً فهو أن يتلمس النقاد ملامح لأسلوب في الكتابة يخصني وأن يعيدوا قراءة روايات أخرى معاصرة على ضوء قراءتهم للروايات الثلاث. وفي اعتقادي أنها أسهمت في إقامة حوار جاد ومستمر مع طرق الكتابة الروائية الحديثة على مدار العشرين سنة الماضية.
* قال د.شاكر عبد الحميد في قراءته للروايات الثلاث إن الذاكرة لدى مي التلمساني مثلها مثل الرحم والبيت والقبر والصناديق، أماكن للإخفاء وأماكن للكشف وأماكن للانطواء وأماكن للبوح. كيف رأيت هذه الفكرة وما موقع الذاكرة من كتابتك بشكل عام؟
– كل كاتب ينهل من معين ذاكرة ما، شخصية أو بصرية أو روائية، تتجدد بتجدد هاجس الكتابة مع كل نص جديد. لقد استدعيت ذاكرة الموت القريب، والموت الممكن، والموت المحقق في رواية “دنيازاد”، وهي ذاكرة قصيرة إلى حد كبير، حيث بدأت كتابة النص بعد وفاة الابنة بعدة أيام. الرحم المقبرة لا ينسى، يتذكر دوما إمكانية أن يتحول لقبر من جديد، وينكمش في إعياء لو شئنا التعبير. أما في رواية “هليوبوليس” فقد ركنت لذاكرة المكان والحي والأشياء وما تخلفه في حياة الشخصيات من أثر لا ينمحي. أردت أن أقول إن ذاكرة المكان مطاطية، تتمدد وتنكمش أيضا بفعل الخيال، نتخيل أن البيت كان قصرا، وهو في الواقع كان شقة صغيرة في بناية متهالكة، الخ. في رواية “أكابيلا” تقف الذاكرة على الحافة بين ما يقال وما لا يقال، بين الواقع والخيال، تعيد إنتاج نفسها عبر كتابة اليوميات التي تبوح فيها الشخصية بما في نفسها وهي تعرف تمام المعرفة أنها كاذبة. الذاكرة كما قال شاكر عبد الحميد وأتفق معه تماما في مقولته، هي عدد من الصناديق نفتحها لنتلصص على ما بداخلها ولكننا قد نغلقها بلا أدنى رغبة في الكشف عما بها.
………..
*نشر في المدن