حاورتها: جريدة البيان
مي التلمساني كاتبة لها مذاق خاص ونشاط كبير متنوع، فهي الى جانب كونها احدى الكاتبات الشابات المتميزات اللاتي ظهرن في الحياة الثقافية المصرية خلال التسعينات، واكدن وجودهن بقوة، ليمثلن ظاهرة جيدة تستحق الالتفات، والى جانب كونها قاصة لها مجموعة (نحت متكرر) وروائية صدر لها منذ ما يقرب من شهرين واية (دنيا زاد) فهي ايضا مترجمة وناقدة، وكاتبة سيناريو وباحثة اكاديمية لها دراساتها وطلابها في الجامعة. وبذلك فان حياتها من الغنى والازدحام بحيث تمثل حياة فريدة لاديبة وكاتبة شابة، بما ينعكس من آثار ذلك على ابداعها وكتابتها … وللتعرف عليها وعلى تجربتها الابداعية اكثر كان هذا الحوار..
تجمعين بين كتابة القصة والرواية والنقد والدرس الاكاديمي والترجمة، فضلا عن اهتمامات اخرى كالسينما … ماذا افدت في كتاباتك من هذه المجالات، خاصة المجال الابداعي؟ وهل تشعرين احيانا ان بعضها شكل للبعض الآخر عائقا؟
– هذا السؤال الاخير اسأله لنفسي كثيرا او اجد في كافة الاحوال اني لا استطيع التنازل عن مجال منها لصالح مجال آخر، اعتقد ان كلها تدخل في نطاق الكتابة والابداع … فالقصة والرواية وكتابة السيناريو والكتابة عن نصوص ادبية وسينمائية كتابة نقدية، ثم توصيل هذا كله سواء للقارىء او للمتفرج او للطالب الجامعي عمليات متشابكة تكمل بعضها بعضا، وتحقق لي اشباعا لاغنى عنه، اظن اني اطمح لنموذج خاص للمثقف العربي، يستطيع ان يتعامل مع النصين المكتوب والمرئي ابداعا ونقدا دون التحرج من او الاعتذار عن اهتمامه بالمرئى، لغة القرن المقبل. وقد افدت كثيرا من التراث المرئي التشكيلي والسينمائي في كتابتي او في الكتابة التي اطمح للوصول اليها في الاعمال المقبلة. هذا التناحر بين الكلمة والصورة استعيده لصالح الكتابة ولصالح التدريس في الجامعة ولصالح نفي دونية الصورة في مقابل قدسية الكلمة في ثقافتنا، فلكلاهما دور يؤديه ووظيفة توصيلية، ولا يصلح احدهما بديلا عن الآخر، بل هما متكاملان، بشكل او باشكال مختلفة سواء في كتابة القصة او في الافادة من تراث السرد في كتابة السيناريو. اعكف حاليا على تحويل رواية منتصر القفاش (تصريح بالغياب) لسيناريو واعتقد ان هذه المحاولة الاولى تمنحني تجربة خاصة في استخدام لغة الوصف، وفي التجريب على لغة الحوار بالعامية المصرية. اما العائق الوحيد الذي اشعر به هو عائق الوقت الذي لا يسمح بممارسة مختلف اشكال الكتابة الابداعية والنقدية كما كنت اتمنى. وعادة ما افسح مجالا اكبر للنقد على حساب الابداع، مثل تخصيص مساحة زمنية للمقالات والدراسات لا استطيع توفيرها للقصة والرواية والسيناريو ويرجع ذلك الى ان شروط الكتابة الابداعية عندي لا تجتمع بالشكل الملائم الا نادرا. كما ان (وحي اللحظة) اذا كان ثمة كلمة اخرى لفضلت استخدامها هنا، لا يهبط هكذا في اي وقت ولا في اي مكان. الكتابة النقدية تسمح اذن باستمرار علاقتي اليومية بالورق والاقلام، الامر الذي لا توفره لي بالضرورة الكتابة القصصية. تقنية سينمائية
– تستخدمين بعض التقنيات السينمائية في كتابتك. هل تعتبرين ذلك ميزة تضيف لاساليب التعبير عندك؟
– لا اقصد بالضرورة استخدام تقنية ما بحيث تصبح ميزة تطبع اسلوبي في الكتابة فقط اشعر اني مشبعة بالتراث السينمائي المصري والعالمي، واني منبهرة بهذا التراث وبقوة الصورة في توصيل رسائل مختلفة للقارىء المتفرج، واتمنى ان استثمر هذا الانبهار، ومعرفتي البسيطة بتقنيات انتاج الصورة، الفيلم، في كتابة القصة والرواية. نستطيع ان نقرأ اي نص روائي من منظور التحليل السيميولوجي مثلا ونكتشف علائق مختلفة مع عالم السينما وتقنيات المونتاج والتصوير وادارة الممثل الخ. هذا المنظور قائم ومشروع في تحليلنا للنصوص الابداعية ومقارنتها ايضا بنصوص بصرية اخرى كاللوحة التشكيلية والفيلم. لكن اهتمامي بدراسة سيميولوجيا السينما والعلاقة بين الصورة والكلمة في اطروحة الدكتوراه التي اعد لها حاليا عن وصف الحارة المصرية في الرواية والفيلم، هذا الاهتمام لا ينسحب بالضرورة على الكتابة، لحظة الكتابة نفسها. هناك اذا شئنا (وعي كامن) باهمية الافادة من السينما في كتابة نص جديد بمعنى (مختلف) ولكنه لا يصل الى درجة التعمد او القصرية اثناء الكتابة. الجملة تنتهي عندي عندما تستنفد الغرض منها، وتبدأ جملة جديدة حين يبدو الفراغ الفاصل بين الجملتين فراغا يخص القارئ وهو وحده الذي يستطيع ملأه. هل هذه تقنية تقارب تقنية المونتاج القائم على الحذف المستمر بين اللقطات بعضها البعض، وبين المشاهد؟ اللقطة تبدأ بدوران الكاميرا وتنتهي بتوقفها. لكن المونتاج يختار من اللقطة عددا محدودا من الكادرات ليضعها في سياق المشهد واعتقد ان الفكرة مثل اللقطة علينا ان نجري عليها المونتاج المناسب لكي لا تأتي مترهلة، ولكي تنتظم في جملة محكمة بلا اطناب. ربما يكون الحذف والايجار سمة من سمات السينما ولكنه سمة من سمات الكتابة قبل ان تولد السينما، ومن هنا التداخل الدائم بني العالمين. ناهيك عن رغبتي الدائمة في تحويل النص الى صورة متحركة، تكتسب الحركة فيها معاني كثيرة نفسية واجتماعية. السؤال هو كيف نستطيع بالكلمة وبالنص المكتوب انه نؤدي بعض وظائف الصورة والنص المرئي وليس كلها في توصيل دينامية الحركة ودلالاتها في آن واحد. بين القصة والرواية
– الانتقال من كتابة القصة للرواية، هل شهد تحولا في رؤيتك للعالم؟ وما مدى تأثير ذلك على مفهومك له؟
– (دنيا زاد) روايتي الاولى، وهي في الاصل كتبت بروح القصة القصيرة. كنت اظن اني اكتب متتالية قصصية كما ارادها لنفسه ادوار الخراط مثلا، وليس رواية، ثم انتظمت النصوص في سياق معين جعلها تقترب من عالم الرواية، وان كنت افضل ان اضيف كلمة (قصيرة) (دنيا زاد) هي في الواقع رواية قصيرة مكونة من احد عشر مقطعا وهي امتداد لهم الاختزال الذي نجده في مجموعتي الاولى (نحت متكرر) وفي القصص المتفرقة التي نشرت في الدوريات العربية. هي رؤية لعالم القص وليس للعالم بشكل مطلق من حيث انتفاء صفة التحديد النوعي عنها، رغم ماكتب على غلاف الكتاب بوصف هذا النص (رواية) رغم استيعاب كلمة (رواية) في عالمنا اليوم لاشكال مختلفة وتبدو متباينة للكتابة النثرية … لننظر مثلا للبطء او خفة الكائن التي لا تحتمل (لميلان كونديرا) او لعبدة الصفر (لالان نادو) .. لا اقول ان لهما علاقة قرابة بما يكتب على الساحة الادبية المصرية اليوم اقول انهما خرجا بالرواية الى آفاق ارحب في التعامل مع الفلسفة والتاريخ على سبيل المثال. انا لم انتقل فعليا من القصة للرواية بعد، ليس الرواية كما اتمنى ان اكتبها، ولكنها محاولة لتخطي حاجز الخوف من هذا النوع والاقتراب من عالم اكثر رحابة في مجال السرد. اما العالم بمعناه المطلق فيمثل لغزا بالنسبة لي ولا استطيع الوصول لحقائق ثابتة تخصه، بخلاف ما تمنحنا الحواس وخاصة حاستي البصر واللمس من (معلومات) عنه. فربما يكون في ذلك رؤية للعالم، لكنها قيد التكوين وربما لا تكتمل قط. كتابة الذات
– في الوقت الذي تنكفئ فيه بنات جيلك على كتابة الذات باعتبارها محور العالم استطعت ان تقلبي الامر في روايتك (دنيا زاد) وتجعلين من العالم محورا للذات، كيف ترين مصداقية ذلك؟ وما رأيك في كتابة الذات في ضوء المطروح؟
– اظن انك تضىء لي بهذا السؤال امرا كان خافيا علي حتى هذه اللحظة. وبتفكير اعمق فيما تقوله اعتقد ان فكرة طرح العالم كمادة. بحثية فكرة اصيلة في كتابتي كما في حياتي اليومية، لست اشعر بحال اني مركز الكون لكني اشعر في المقابل ان ثمة اراض بكر لم تكتشف بعد، وربما استطعت ان اغزوها. كانت (دنيا زاد) جزءا من هذا الحلم، حلم الاكتشاف على مستوى علاقة الام بالابنة، وعلى مستوى اكتشاف ومواجهة الم الفقد ومفاجأة الموت، موت الابنة في رحم الأم. بدا العالم منذ هذه اللحظة على الفهم، مستعصيا على الادراك بادواتي المتاحة في تلك اللحظة، وبدت بعض المشاعر والرؤى، والهواجس، جديدة تماما وبحاجة لان افك شفرتها، وان اجتهد في ذلك لتخطي الالم والانتصار للحياة، هذا هو شعور الام في الرواية وشعوري انا في الحقيقة، انا اتفاءل كذات امام تعقيد العالم وتشابك علاقاته، وكما اسعى لفهمه اسعى لفهم ذاتي التي لا تقل تعقيدا عنه، وتتزامن العمليتان، هي (مناوشة) لهذا الشكل الهيولي الضخم الراسخ الضاغط الذي نسميه العالم، وهي في الوقت نفسه لعبة قوى امارسها مع نفسي عبر الكتابة لكي تنتصر الكتابة في النهاية على كل ما يقف عائقا في طريقها حتى لو كان موت الابنة. اهتمام نقدي
– فيما يتعلق بالنقد، هل ترينه مواكبا لحركة الابداع الجديدة في مصر؟
– هناك اهتمام حقيقي من جانب النقاد والاعلام، الرسمي وغير الرسمي، بما يقدم على الساحة الابداعية المصرية، والدليل على ذلك كتابات النقاد الكبار امثال د. علي الراعي وفاروق عبد القادر وغالي شكري، وكبار المبدعين امثال ادوار الخراط عن الابداع الجديد، هذا فضلا عن كون هذا الجيل او هذه المجموعة من الكتاب والكاتبات قد افرزت بالفعل نقادا يتابعون اعمالها من نفس المرحلة العمرية، امثال وليد الخشاب وحسن حماد، وشيرين ابو النجا، ومبدعين يمارسون النقد امثال منتصر القفاس واحمد غريب وياسر عبد اللطيف وفاطمة قنديل …. هذا يعني ان هناك انتعاشا نقديا يحيط ويحتفي بالكتابة التي ظهرت في التسعينات، وهذا في ذاته يثير عددا من الحوارات المثمرة حولها سواء بالسلب او بالايجاب، ويزيدها ثقلا.
…………….
*نشر في 06 مايو 1998