مي التلمساني: الزمن لا يُفقد..بل نفقد ارتباطه بالحاضر

موقع الكتابة الثقافي may telmesany 6
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حاورها: أسامة فاروق

بنَصٍّ طويل وست قصص قصيرة، تعود مي التلمساني إلى عالمها الأثير، عالم “مصر الجديدة”، الحي الراقي الذي كان ذات يوم بعيداً، لتحكي عن زمن تحبه وتفتقده. زمن هليوبوليس/مدينة الشمس قبل أن تغزوها تحولات مسخَتها كما مسخت مصر كلها. 

في “عين سحرية” مجموعتها الجديدة الصادرة عن (الدار المصرية اللبنانية) تتنوع المواضيع وطرق الحكي، لكن يظل الفقد والاسترجاع أساسها ومحورها. “وكأن الحياة ذكرى” عبارة فؤاد حداد الشهيرة تنطبق تماماً هنا. تتسلح مي بالكتابة كفعل مضاد للنسيان، وتعيد “ميكي” – بطلة رواية “هليوبوليس” مجدداً، لتحكي فصلاً آخر ربما لن يكون الأخير، في حياة  حي مصر الجديدة وتحولاته. ميكي “الماريونيت” ذات اليد الخفية التي تحرّك كل الخيوط، تقدم رصداً عميقاً لتاريخ الحي العريق، وزمنه القديم، زمن الراديو وحدوتة أبله فضيلة، وشرائط الكاسيت وإذاعة أم كلثوم “كل ما شاع من بهجة وسرور وخلو بال ثم اختفى وانحسر، ولا أحد يدري من أين يأتي العطب ولا كيف استقر وتفرع”.

من مدينة يفصلها عن مصر الجديدة آلاف الكيلومترات، تغلق مي/ميكي، عينيها وتصمّ أذنيها وتملأ رئتيها بتلك الرائحة، رائحة طفولتها، وبلادها وزمنها القديم. عن الذاكرة والكتابة والنسيان تتحدث مي التلمساني لـ”المدن”..

– نص “استعادة هليوبوليس” يبدو كفصل مفقود من رواية “هليوبوليس”..

* رواية “هليوبوليس” رواية مفتوحة بالنسبة اليّ… لم تنته فعلياً. أعتقد أني أحاول العودة إلى كتابة هذا العالم وسأستمر في المحاولة ربما لزمن طويل مقبل. في “استعادة هليوبوليس” حاولتُ استعادة مَشاهد لم أكتبها في الرواية، واستعادة زمن هليوبوليس في السبعينيات من القرن العشرين، وهو زمن الرواية الرئيس، وأيضاً أردتُ إفساح مجال لشخصية الأب وهو تقريباً غائب من الرواية. الجديد في اعتقادي هنا، مقارنة بالرواية، هو التركيز على فكرة “تاريخ النظر” التي أختتم بها المجموعة، وهي تحية أيضاً لأبي بشكل غير مباشر. تاريخ النظر هو تاريخ غير مكتوب يتقاطع مع تاريخ السينما المصرية ومع تاريخي الشخصي، ومع الحاضر الذي يجبرنا على “النظر” إلى الأشياء وللآخرين نظرة مغايرة. النص الختامي للمجموعة يرصد وسائط النظر المختلفة في حياتنا اليومية آنذاك، من شراعة الباب، إلى العين السحرية، ومن الكاميرا إلى جهاز العرض، الخ. ولا شك أننا لم نعد نمارس النظر للأشياء بالطريقة المتمهلة، المتأملة نفسها. اليوم ننظر للأشياء وللآخرين بقسوة وصلف وتحد، أحياناً بهدف المحاكمة والتقييم والإدانة أكثر من الرغبة في المعرفة والتأمل والتواصل.

– تلعب الذاكرة دوراً كبيراً في هذه المجموعة، بالتحديد الذاكرة المكانية، فمن خلال صورة الغلاف الأمامي وكلمة الغلاف الخلفي التي تقولين فيها انك ابنة البارون الاشتراكي وابنة مصر الجديدة، وصورتك القديمة عليه أيضاً التي تربطك بعائلتك، يبدو الأمر وكأنك تعيدين تشكيل حياة وزمن مفقود من خلال الكتابة، بعدما أصبحت بعيدة عنه زمنياً ومكانياً..

* الذاكرة موِّصل جيد لمشاعر الحزن والسعادة معاً، أحب هذا الزمن البعيد، وأحزن أحياناً لفقده، أقصد زمن طفولتي في مصر الجديدة. لكني أيضاً أشعر بالسعادة حين أجده يعيد نفسه بأشكال مختلفة في الهجرة.. أتصور أن وجودي في كندا كل هذه السنوات (شارفت على عشرين عاماً الآن) يجعل للحنين معنى أعمق، تصبح ممكنة استعادة الزمن المفقود في الحاضر الراهن. ملامح المكان هنا تذكرني بمصر الجديدة القديمة.. ربما “ببراءة” ما، أصبحنا نفتقدها في مصر تحت ضغط الحياة اليومية. البُعد في المكان وفي الزمان ينشط الذاكرة، وخصوصاً ذاكرة عائلتي. الإشارة إلى لعائلة على ظهر الغلاف تعطي ملمحاً خاصاً عني ككاتبة، يختلف عن السيرة الذاتية التقليدية التي يضعها الناشر للتعريف بالكاتب. واخترت صورة قديمة بالأبيض والأسود من هذا الزمن، من بداية الثمانينيات، لتتفق مع روح المجموعة.

– هل أنت مشغولة فعلاً بمسألة استعادة الزمن المفقود؟

* أكيد. بروست له تأثير فيّ، أكبر مما يمكن أن يتخيل أحد. كلانا من مواليد برج السرطان (تضحك). كلانا مشغول بطبقة تكاد تختفي وبأماكن تحولت وطقوس اندثرت.. ولا أعني أننا متشابهان، بروست قامة كلاسيكية هائلة.. فكرته عن استعادة الزمن المفقود هي ما يؤرقني ويعطيني قدراً من الشجاعة للاستمرار في الكتابة. تصبح الكتابة بهذا الهدف مسألة حياة أو موت. ربما يكون الحنين سخيفاً في ذاته، وكتابته بـ”سنتمنتالية” أكثر سخفاً.. لكن بعد تجنب هاتين الحفرتين، يتحول الحنين إلى شيء آخر، لولع بتاريخ غير مكتوب، لاستحضار لمشاعر سُلبت منا، لقراءة واقع قديم يتجدد بأشكال مختلفة… ولو فكرنا قليلاً لوجدنا أن الزمن لا يُفقد فعلياً، ما نفقده هو القدرة على ربط الحاضر بالماضي، لذلك أرى أن استعادة الزمن المفقود ليست حنيناً، بقدر ما هي محاولة للحياة في الحاضر بكل أبعاده النفسية والتاريخية، مثل نهر قديم ومتجدد دوماً.

– الغلاف وتكوين الكتاب نفسه (6 قصص قصيرة ونص طويل) يجعل للمجموعة طبيعة خاصة مختلفة عن بقية أعمالك، وكأنها كتبت لغرض مختلف..

* معظم النصوص كتبتها في مراحل مختلفة من بداية 2009 وحتى نهاية 2012، وبعضها أقدم. انتظرت طويلاً قبل نشرها بسبب ترددي في شأن “اتساق” المجموعة كمجموعة. الناشرة نرمين رشاد، كانت أيضا مترددة في اعتبار المجموعة متكاملة، فنصف المجموعة الثاني بعنوان “استعادة هليوبوليس”، والنصف الأول يضم قصصاً متفرقة وهو شكل غير معتاد من حيث تكوين الكتاب ككتاب وأتفق معها في ذلك.. لكني سعيدة بأنها احترمت رغبتي في تكوين المجموعة وتقديمها بالشكل الذي ظهرت به. لا أريد أن أدّعي أنها مغامرة، لكني فعلياً غامرتُ بنشر نصوص قصيرة لا يمثل السرد فيها الملمح الرئيسي، بعض الفقرات تبدو مثل قصائد نثرية والبعض الآخر يحكي باختزال شديد مشاعر شخصيات مرهقة أو مهمومة بالإنصات إلى ما يدور في حياتها الداخلية. ما يهمني إثباته هنا هو ما كان يهمني في الروايات الثلاث التي نشرتها حتى الآن، وهو إتاحة الفرصة للقارئ للدخول والخروج من الكتاب بلا ترتيب يفرض عليه قسراً. يظل الأهم بالنسبة اليّ هو أن يحتفظ القارئ بأصوات الشخصيات في ذهنه وأن يعود ليجد الصوت نفسه من نص إلى آخر ومن حالة إلى أخرى، أن يدرك أنها نصوصي، بأسلوبي، وأن الأسلوب لا يتغير حتى لو تغيرت نوعية النصوص.

– بشكل عام، المجموعة فيها الكثير من حياة مي التلمساني الحقيقية… معروف أن تجارب الكاتب وحياته تظهر في الكتابة، لكن أعتقد رغم قلة عدد الصفحات، فإن المساحة أكبر في هذا العمل عن أي عمل آخر.. هل يمكن اعتبار نص استعادة هليوبوليس مقدمة لكتابة سيرة ذاتية؟

* كل ما أكتب له علاقة بسيرتي الذاتية بشكل أو بآخر.. وأضيف للسيرة الذاتية سيرة الأفكار والقراءات والمعارف والخبرات التي يعيشها الكاتب في تأمله لحياته وحياة الآخرين من حوله. لا أستثني من هؤلاء أكثر الكتّاب إغراقا في الواقعية. مساحة اللعب على السيرة الذاتية هي ما يستهويني ويجتذبني في الكتابة بصفة عامة، كيف أخرج من نفسي كإنسان وأدخل في نفسي ككاتبة فأتصور عن الذات الأولى أشياء لم تحدث، لكنها جديرة بأن تحدث للذات الثانية.. وهكذا، ثم بعد الانتهاء من العمل، كيف أقنع القارئ أني أكثر من صوت في صوت واحد. أعتقد أن وراء هذه الرؤية رغبة مستمرة في تضمين المتعدد في الواحد، بلا شعارات وبلا فلسفة. ثمة تواز نراه في المجموعة بين شخصية عبد الحليم حافظ وشخصية الأب مثلا.. أو بين شخصية هنادي وشخصية زوزو، بين ميكي في “استعادة هليوبوليس” والراوية في قصة “سبعة عشر نوعا من الألم”.. يستطيع القارئ أن يتخيل تطور الشخصيات النفسي والزمني في المجموعة كلها باعتبارها شخصيات واحدة بأسماء مختلفة.

– الوحدة… المجموعة بالكامل تسيطر عليها فكرة الوحدة… البطلة دائماً وحيدة، أو خائفة من الوحدة، أو حتى مستأنسة بوحدتها، هناك دائما وحدة وأفكار حولها.. كيف ترين هذا الأمر وهل تخافين من الوحدة؟

* لا أخاف من الوحدة، بل كثيراً ما استمتع بها، خصوصاً حين تسمح للذهن بالانطلاق وللخيال والمشاعر بالصفو.. يسعدني أكثر الدخول في تلك المتاهة حين لا يضطرني العمل الجامعي إلى التواصل مع العالم الخارجي بالشكل المفروض علينا جميعاً كعاملين في آلة الرأسمالية الحديثة (تضحك، وتفسر: الوحدة والبطء والتأمل أمور لا يقبلها هذا العالم ولا يتفهمها… تبدو وكأنها كلمات من الماضي). الاستئناس بالوحدة ترف لا نقدر عليه جميعاً بالقدر نفسه، لكني أختطف الوحدة من فك الزمن وأضاعف بها عمري الداخلي… كذلك شخصيات المجموعة، الأب وميكي على وجه الخصوص.

– فكرة حياة أبطال الأفلام خلف كاميرا التصوير في قصة “شرع المحبين”، ملهمة وتصلح لإنتاج الكثير من القصص، هل لديك نية لتكرراها أو العمل عليها في قصص أخرى؟

* قصة “شرع المحبين” تعيد إنتاج فيلم “دعاء الكروان” من كواليس الفيلم كما أتخيلها. وكذلك قصة “تسلل منظم” وتجمع بين فيلمين لعبد الحليم حافظ، “حكاية حب” و”أبي فوق الشجرة”…

كان لدي مشروع لكتابة مجموعة قصصية مستوحاة من سياق السينما المصرية، لكن من وجهة نظر “الصناعة”، مع التركيز على مشاعر الممثلين والمخرجين أثناء العمل على الفيلم.. لكن المشروع لم يكتمل، ولست أدري سبب ذلك فعلياً. بل هناك قصة ثالثة مستوحاة من “خللي بالك من زوزو” ضاعت.. كنت قد نشرتها قبل سنوات، في مجلة “سيدتي”، ولم أعثر عليها في أرشيفي الخاص. تستهويني ذاكرة السينما المصرية من هذا المنظور، وأدعي أني أشاهد الأفلام القديمة بشغف إلى اليوم، لا لقيمتها الفنية بالضرورة فهذا نادر، لكن لأنها تسمح لي بتخيل الكواليس، وتحليل خلفية المشهد، ما نراه ولا نراه حقاً في الفيلم.

– نعود إلى مصر الجديدة، هل فكرت في تسجيل تاريخ هذا الحي بعيداً من الكتابة الإبداعية؟

* شاركت فعلاً في كتاب احتفالي صدر بالفرنسية والعربية عن حي مصر الجديدة العام 2005، والذي صدر للاحتفال بمئوية الحي، وكتبت فيه عن العلاقة بين الصحراء والحي، بين السينما والحي، الخ… لكني كتبت عن الحي في الرواية بحس تاريخي إلى حد ما، ومع ذلك لا أدعي أني مهتمة بالتاريخ كمؤرخة، لا صبر عندي على تلك المهمة الصعبة. ما يهمني عادة في الكتابة الإبداعية هو قدرتها على نقد التاريخ الرسمي والوقوف على مشاكله كنسق يدعي الحقيقة المطلقة. ميزة الكتابة الإبداعية التي أمارسها -لو ثمة ميزة عن أشكال الكتابة الأخرى- أنها تتلاعب بالتاريخ ويحق لي هذا طالما أنني لا أدعي كتابة رواية تاريخية.

– لكن بعض النقاد يصنفون أعمالك ليس باعتبارها رواية تاريخية ولكن “رواية مكان”..

* النقاد وجدوا تعبير “رواية المكان”، ولست واثقة أنه الأنسب لتعريف ما أكتب.. لكن جديلة الزمان (التاريخي والداخلي) والمكان (المحلي والخارجي) لا شك موجودة في كل ما أكتب، قبل وبعد الهجرة. لكن ما أهمية المكان حقاً لو لم يمتلئ بالناس والأصوات والروائح.. ما أهمية “هليوبوليس” لو لم تسكنها ميكي وشوكت هانم وزوزو، وما أهمية النهر لو لم تقف على شاطئه فاتن حمامة؟ ما أهمية غرفة المكتب لو لم يملأها الأب برائحة السجائر والقهوة والورق والحبر؟ بل وما أهمية “عين سحرية” كمكان للحكي، لو لم يكن وراءه أسلوب يحاول أن يقول ذاته، وفكرة بسيطة عن أهمية النظر؟

……………

*نشر في المدن

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم