حاورها: عزمي عبد الوهاب
تنتمي الروائية “مي التلمساني” إلى أسرة تعتبر جامعة لكل ألوان الطيف الثقافي، حيث تتجاور الفنون، وأبرزها السينما، لكن “مي” اختارت من هذا كله الإبداع الأدبي، إضافة إلى التخصص في تدريس وكتابة النقد والسينما في المجال الأكاديمي، حيث تعمل حالياً في إحدى الجامعات الكندية، جمعت مي التلمساني وحدها كل مواهب العائلة الكبيرة، ونجحت في المزج بين الإبداع الروائي والنقد السينمائي.
في هذه الزيارة الثقافية ل”مي التلمساني” وما بين بيتها في حي مصر الجديدة وبيتها في كندا حيث تعمل، تقول ل”الخليج”: “لم أنشأ في أسرة ثرية، كانت أسرتي من الطبقة المتوسطة، معنية بالثقافة والفن واللغة العربية والسينما، في بيتنا، كانت مكتبة أبي هي محور الارتكاز والضوء، تطل شرفتها على ميدان واسع وغابة من الأشجار تحولت في ما بعد إلى متحف للطفل على طرف ميدان أبي بكر الصديق، كان بيتنا عاديا نسقته أمي وفقا لذوق الطبقة المتوسطة باستثناء غرفة المكتب، فقد ظلت المكان الوحيد الذي حافظ عليه أبي بمنأى عن الذوق العام، واحتفظ فيه بكتبه ولوحاته ومقتنياته الفنية، كان صومعة بالنسبة لنا كأطفال”.
تلك الهالة التي أحاطت بالأب، الذي كان أصدقاؤه يطلقون عليه لقب “البارون الاشتراكي” كانت ترافقها نغمات الموسيقى الكلاسيكية، وأحياناً أغاني الشيخ إمام، وبرامج إذاعة ال”بي بي سي”، وبعض برامج السينما والشعر والفن، مثل برنامج نادي السينما مساء السبت أو برنامج لغتنا الجميلة الإذاعي.
أحياناً قليلة – تقول مي- كنا نخرج لزيارة مكتبات أخرى، ونلتقي بعض أصدقاء أبي المقربين: في بيت المخرج أحمد كامل مرسي في الدقي، أو بيت المربي الفنان حامد سعيد بالمرج، أو بيت الفنان التشكيلي راتب صديق بالمنيب، في تلك البيوت، استمعت لأحاديث عن الفن والمسرح والسينما، وأحيانا عن الأدب، لم أشارك في تلك الأحاديث، ولا شارك فيها أبي نفسه إلا نادراً، فكلانا يجيد الإنصات.
وتصف نفسها قائلة: “هادئة بطبعي، باستطاعتي وأنا في سن مبكرة أن أقضي ساعة في مكتب أبي أنصت لشوبان أو باخ دون أن أتبادل معه كلمة حوار واحدة، أقرأ، أسرح في الملكوت، هادئة لدرجة أن أقضي مع عمي حسن أسبوعا كاملا في بيته الريفي في العزبة بقرية نوى بالقليوبية دون أن يتصل حديثنا أكثر من عشر دقائق يومياً، الإفطار بسيط، والغداء أيضاً، والنوم يأتي مبكراً، والقراءة والتأمل جزء من الروتين اليومي، عمي حسن أحب أفراد العائلة إلى قلبي، بعد وفاته، ورث مكانته طارق التلمساني ابنه الذي أصبح صديقي وأخي، التقط لي حسن صورة بالأبيض والأسود ظلت من أجمل صوري في تلك المرحلة، في سن السابعة عشرة، تذكرني تلك الصورة بالفتاة ذات قرط اللؤلؤ، لوحة فيرمير الشهيرة، وتذكرني بصباحات الندى في القرية.
تقول مي: في الطفولة والصبا، في عمارة تطل على الميدان في وسط مصر الجديدة، كنت ألعب مع أخوي ومع أبناء الجيران على السلم، شطرنج في معظم الأحيان، أو مشاهد تمثيلية مستوحاة من المغامرين الخمسة والشياطين ال13 مثلي مثلهم، كنت ولداً حتى سن الرابعة عشرة تقريبا، حتى قررت أمي فجأة أنني بنت! ولا يصح أن ألعب مع الأولاد. كنت قد سئمت اللعب مع أولاد الجيران على أي حال.
علاقتي بمكتبتي هي علاقة عائلية – كما توضح مي – هي بعض أسرتي وبعض أصدقائي وبعض أولادي (لو أضفنا لها الكتب التي كتبتها وترجمتها) هي علاقة تطمئنني على موقعي من العالم، كأني موجودة بفضلها، بفضل أصدقائي من الكتاب، من الفارابي إلى إدوارد سعيد، ومن فولتير إلى بروست وكونديرا، ومن صنع الله إبراهيم ومحمد البساطي وبهاء طاهر إلى منتصر القفاش وعادل عصمت وأحمد يماني وياسر عبداللطيف وعلاء خالد.. هم أصدقائي وصحبتي بشكل يكاد يكون ملموساً، بسبب حضور الكتب في الحياة بشكل يومي.
تشير مي: في بيتي الكندي، يبدأ النهار بفنجان نسكافيه وزيارة لغرفة المكتب، في هذه الغرفة أهم كتب اقتنيتها على مدار ثمانية عشر عاماً من الهجرة، باللغات الثلاث العربية والإنجليزية والفرنسية، في بيتي القاهري، مكتبة كبيرة أغلبها باللغة العربية موزعة على غرفتين والجزء الثالث موجود في غرفة نومي، أصحو وأنام بصحبة الكتب وونسها، من دونها لا يستقيم حال البيت، المكتبة بالنسبة لي ليست واجهة اجتماعية، ليس فيها كتب ثمينة أو نادرة، وليس فيها أهم الموسوعات ومجلدات الأعمال الكاملة الأنيقة، فيها كتب تعكس تاريخ أبي وتاريخي في القراءة، وفيها قدر من التنوع وفرحة الاكتشاف وقدر من التناقض حيث يتجاور الكتاب العظماء والكتاب المجهولين على أرفف المكتبة.
وعن تأثير أبيها تقول مي: لأبي تأثير كبير في ذائقتي السينمائية، خاصة في سنوات التكوين، اختلفت ذائقتنا فيما بعد، عندما بلغت العشرين وما بعدها وتعرفت إلى أفلام تاركوفسكي وبرجمان وكارلوس ساورا واكيرا كوروساوا في سينما كريم بوسط المدينة وسينما المركز الثقافي الفرنسي بمصر الجديدة والمنيرة، أسبوع الفيلم الروسي أول ذكريات مرحلة اكتشاف السينما في السبعينات، اصطحبني أبي لقاعة بوسط المدينة لمشاهدة فيلمين، الأول كان باليه روميو وجولييت لتشايكوفسكي، والثاني كان فيلما عن صداقة بين ذئب وطفل في قرية نائية من قرى سيبيريا، فيما بعد، اصطحبتني أمي لمشاهدة فيلم بمبة كشر في سينما روكسي، وفيلم الفيل صديقي في سينما الحرية، ثم داومنا أنا وأخواي على مشاهدة أفلام بروس لي كلما سنحت الفرصة وسمح مصروف الجيب (ثلاثة قروش في اليوم، ارتفعت لتصبح نصف جنيه في الأسبوع في منتصف السبعينات). لم يدخل يوسف شاهين حياتي إلا متأخراً – الكلام لمي – وظل منذ ذلك التاريخ مخرجي المصري المفضل، شاهدت أول ما شاهدت “عودة الابن الضال” في التلفزيون، لم أكن أعرف آنذاك أن يوسف شاهين هو أيضا مخرج الفيلم التاريخي الأعظم في تاريخ السينما المصرية، الناصر صلاح الدين، انبهار كامل بعودة الابن الضال! لم يشاهده أحد معي، الكل نام وتركوني وحيدة بصحبة هذا الاكتشاف الهائل، بعد ذلك بسنوات كثيرة، التقيت شاهين نفسه وقد تجاوزت العشرين، في مهرجان القاهرة السينمائي، تصافحنا وقدمت له نفسي، سألني: ابنة من في التلمسانية؟ أجبت: عبدالقادر. رفع يدي إلى فمه وقبلها! يا الله! قبلة يرسلها يوسف شاهين لكامل وحسن وعبدالقادر، أحملها مثل كنز ثمين وأعود بها إلى البيت لأضعها على خد أبي، أحكي الحكاية فيبتسم، يزيد فخره بي ويزيد امتناني له.
تتذكر مي بداياتها مع الكتابة: بدأت الكتابة في باريس، عام 1990 قبل ذلك بسنوات قليلة، ربما في سن الخامسة عشرة، كانت الكتابة بديلاً عن لعب الشطرنج مع أولاد الجيران، وكانت مثلها مثل القراءة تملأ أوقات الفراغ في الصيف، مشوار الكتابة الإبداعية والنشر بدأ فعليا في باريس، كنت في الخامسة والعشرين، متزوجة حديثاً، أعد لرسالة ماجستير عن مارسيل بروست، وأحمل نطفة ابنى الأول شهاب الدين، السماء رحبة، والأمل بلا حدود، لكن الصوت الغنائي الذي اتسمت به الكتابات الأولى سرعان ما اختفى وحلت محله نبرة الرواية الذاتية بعد وفاة طفلتي دنيا زاد ونشر روايتي الأولى باسمها.
تقول مي: مضى عام على نشر “دنيا زاد”، وجاءت الهجرة إلى كندا ليحل بعدها صمت غريب، كنا قد اتخذنا قرار الهجرة بعد نحو خمس سنوات من الإقامة الدائمة في مونتريال، وكان قراراً بطيئاً، معذباً، وافقت عليه من أجل الأولاد، من أجل الأسرة، طلباً للعلم وسعيا للحرية، الهجرة كانت موضوع كتاب اليوميات “للجنة سور” الذي نشر في دار شرقيات عام 2009 الهجرة لم تكن جرحا، كانت نوعا من النفي الاختياري، حصلت في تلك الأثناء على دكتوراه عن الحارة في السينما المصرية، وسافرت كثيراً، كجامعية وككاتبة بدعوة من جامعات ومؤسسات أجنبية ودور نشر دولية، جبت أوروبا والتقيت كتاباً وروائيين عرباً وغير عرب في السفر وفي الترحال، وعدت إلى مصر كثيراً، محملة بالرغبة في استعادة الماضي البعيد، طفولتي في مصر الجديدة، وبالتوق لبناء مستقبل موازٍ ولو على هامش الحياة الثقافية في مصر ككاتبة مغتربة.
نشرت روايتي الثانية “هليوبوليس” بعد الهجرة بعامين- تقول مي- وكنت قد كتبتها في مصر في فترات العودة وفي العطلات الصيفية، أكتب عن حي مصر الجديدة في السبعينات، عن أسرة متوسطة وعن نساء الأسرة بالتحديد، عن تراث الأشياء وعلاقة النساء بالأشياء، غرف النوم والسفرة والصالون، الكتب، طقوس الخياطة والطبخ، ألعاب الأولاد وعلاقات النساء بالرجال في الأسرة وخارجها، رحلات الصيف وعصر الانفتاح الذي غير ملامح الحي الكوزموبوليتاني.
ثم نشرت روايتي الأخيرة “أكابيللا” بعد أن كتبتها بالكامل بين فرنسا وكندا ومصر عام 2012 أكتب فيها عن صداقة مستحيلة بين امرأتين، عن وجهي عملة واحدة، الأول متحرر والثاني باحث عن الحرية، عن علاقات صداقة بين رجال ونساء، وعن اختلاط مشاعر الحب والرغبة في الشوق والنسيان، الرواية تحولت لسيناريو وستخرج قريباً في صورة فيلم سينمائي لتجمع بين عشقين طالما حلمت بأن أجمعهما معا، الأدب والسينما.
توضح مي: لم أتأقلم تماماً مع الجليد الكندي أقضي معظم شهور الشتاء داخل المكتب في جامعة أوتاوا أو داخل البيت في المدينة نفسها، أربعة أشهر من الحبس الاحتياطي ورغم أن وطني الثاني عزيز على قلبي، إلا أن مصر تناديني كل شتاء، ويحزنني أني لا أستطيع تلبية النداء إلا فيما ندر.
تعلمت من حياتي في كندا الكثير، المساواة على أساس المواطنة وتقديس الحريات العامة، مثلاً التدريس الجامعي الذي يكفل للباحث والمدرس الحرية كاملة في التعبير والبحث والنشر أيضاً، تمنيت بعد الثورة أن تنهض مصر في المستقبل القريب، لعلني أعود وأستقر في وطني الأم، اليوم سقطت الأوهام، ويبدو أنني سأعود لعزلتي كما كنت قبل قيام ثورة يناير، تلك العزلة التي تكفلها حياتي الرتيبة في وطني الثاني كندا.
ولأنني ابنة هذا البارون الاشتراكي وابنة مصر الجديدة، ولأنني مدينة لهذا الأدب وهذه السينما وهذه الأرض، ولأنني نشأت على الإيمان بيسار القلب لا يسار الحزب، وبالثورة لا بالسلطة، تجدني أنظر إلى صورتي القديمة، الصورة التي التقطها لي حسن التلمساني عام 1982، أنظر إليها بامتنان كبير وأرى فيها شبكة الخيوط التي تربطني بعائلتي وناسي ونفسي وشبكة الطرق التي قادتني دائماً نحو الآخر البعيد، بقلب طيب وروح وثابة وعقل نشط، أما العيوب، فكلها إنساني، هي عيوب ذاتية لا تعم، ولا تخص غير نفسي في توحدها، لذا لم أتحدث عنها، وكلها على أي حال من حسنات القدر الذي جعلني كاتبة.
عودة إلى الملف